فصل من رواية “لصوص المقابر”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ترجمة: سمر منير 

رجل من أجل “توت عنخ آمون”

وُلِدَ “هوارد كارتر” في لندن في التاسع من مايو عام 1874. تعلم “كارتر” من والده الرسم، كان يرسم الحيوانات المفضلة لدى طبقة الأرستقراطيين البريطانيين، شأنه في ذلك شأن والده. جذبت موهبة “كارتر” انتباه “بيرسي نيوبيري”، أستاذ علم الآثار والمصريات في جامعة القاهرة، فاصطحبه معه إلى مصر بوصفه رسامًا. حدث هذا في عام 1891 وكان عمر “كارتر” عندئذ سبعة عشر عامًا فحسب.

 لقد جمعته خطواته الأولى على أرض مصر بـ”توت عنخ آمون” بالفعل. ففي “تل العمارنة”، أي في عاصمة حكم الملك المهرطق “أخناتون”، الذي كان على الأرجح والد “توت عنخ آمون” – إذ لم يتفق علماء المصريات على هذه القضية حتى الآن اتفاقًا كاملًا رغم تحاليل الأحماض النووية – بدأ “كارتر” في أعمال التنقيب والحفر، وذلك بتوجيهات من عالم الآثار “وليام ماثيو فلندرز بتري” الذي كان يقتفي أثر “توت عنخ آمون”.

أطلع عالم الآثار “فلندرز بتري”، العنيد والمثابر والحريص على اقتفاء الآثار، “كارتر” على أصول أعمال التنقيب التي يمارسها بأساليب علمية. حتى أنه ضم “كارتر” إلى دائرته المقربة، لأنه مهتم بالعمل بشكلٍ جاد ولا يريد أن ينشغل بعلم الآثار لأنها مجرد موضة فحسب. تعلم “كارتر” من “بتري” أن الأشياء البسيطة تتمتع بقيمة كبيرة، إذ إنها ربما تحمل إجابات لأسئلة أخرى قد تظهر فيما بعد. وصار الاحتفاظ بالقطع الأثرية المكتشفة أساسًا لأسلوب عمل “كارتر” فيما بعد.

كان “كارتر” موجودًا عندما لاحظ “بتري” بناءً على عدد كبير من الاكتشافات الأثرية الصغيرة أن “توت عنخ آمون” كان اسمه الأصلي “توت عنخ آتون”، وأنه غيَّر اسمه عندما عادت عاصمة الحكم المصري إلى العاصمة القديمة “طيبة” وصار “آمون” الإله الرسمي مرة أخرى. استنتج “بتري” من هذا الاكتشاف أن “توت عنخ آمون” مدفون بالتأكيد في وادي الملوك شأنه في ذلك شأن ملوك الأسرة الثامنة عشرة كافة. وقد تابع “كارتر” هذا الأمر وهو في يقظة بالغة.

بعد فترة وجيزة، انطلق “كارتر” في طريقه باتجاه نهر النيل. إذ ذهب إلى “الأقصر” لكي ينسخ نقوش وجداريات في المعبد الجنائزي للملكة “حتشبسوت” في البر الغربي لنهر النيل. لكن الأمر الأهم بالنسبة له كان الوجود بالقرب من وادي الملوك. فقد راودت “كارتر” عندئذ رغبة وحيدة؛ ألا وهي البحث عن مقبرة “توت عنخ آمون”.

امتطى “كارتر” ظهر أحد الخيول بجانب الأستاذ الجامعي السويسري “إدوارد نافيل” وانطلق وسط الحقول الخضراء بين نهر النيل والصحراء نحو مدينة أعظم ملوك قدماء المصريين. رأى “كارتر” من مسافة بعيدة المعبد الجنائزي لـ”رمسيس الثالث” على الجانب الأيسر، وعلى الجانب الأيمن المعبد الجنائزي لـ”رمسيس الأكبر”. وفي الطريق، التقى للمرة الأولى بتمثالي “ممنون” العملاقين، اللذين يجسدان “أمنحتب الثالث”. والتقى في المعبد الجنائزي للملكة “حتشبسوت” للمرة الأولى بعائلة “عبد الرسول”.

أخذ الشاب الانطوائي ذو الوجه الشاحب والروح الفنية، الذي كان حتى ذلك الوقت لا يرسم سوى رسومات لكلاب في صالونات الحلاقة، ينسخ صورًا لآلهة وشياطين. ألوان، لم يسبق له أن رآها، وشخصيات غريبة عنه وتحمل أسماءً لا يفهمها. وقابل مجموعة من البشر يعتزون بأنفسهم وتحكمهم قوانين أخرى. فقد وُلدوا في مقابر النبلاء وعاشوا في هذا العالم العتيق الذي مثَّل لـ”كارتر” مكانًا مجهولًا.

لم يكن الرجل البريطاني محبًا للاختلاط والتواصل مع الآخرين. على النقيض من شباب عائلة “عبد الرسول” الذين وقفوا من حوله وهم يرتدون جلابيبهم وأخذوا يتحسسون بدلته الأوروبية. كانت أجسادهم عارية أسفل جلابيبهم بينما كان هو يرتدي طبقات عديدة من الملابس ويضع رباطًا حول عنقه. ألحوا عليه كثيرًا بأحاديثهم. ولم يفهم هو حرفًا منها. ضحكوا في حين ظل هو جادًا. عاد إلى خيمته. تابعوه بأنظارهم. استدار. انتظروه. ابتسم.

استطاع “كارتر” أن يتعلم كثيرًا منهم. رغم أن من ألفوا أعمالًا عن سيرته الذاتية قد كتبوا أنه علَّم نفسه اللغة العربية العامية، إلا أن الإنسان لا يتعلم لهجة السكان المحليين لأي بلد إلا عندما يتعامل معهم.

شعر “كارتر” أنهم يتقبلون وجوده. إذ إنهم ساعدوه أن يرى ما لم يستطع أي شخص آخر أن يراه وذهبوا معه إلى أماكن لم يصل إليها أي شخص غيره أبدًا. ربما أنه توغل معهم أيضًا إلى داخل المقابر. فقد وصف في وقتٍ لاحق تلك التجربة وبدا وقع الأمر كأنه طيش شباب؛ إذ قال: “يمكن تخيل الدسائس والمكائد المستمرة ليلًا ونهارًا، والاجتماعات السرية الليلية فوق الصخور، وإعطاء رشاوٍ للحراس أو تخديرهم، وأعمال الحفر بجرأة في جنح الظلام، والعمل بشكل متواصل عبر فتحة صغيرة وصولًا إلى غرفة الدفن، والبحث بحماس ولهفة في شعاع ضوء خافت، والعودة في مطلع الفجر وهم محملون بالغنائم”.

في الليل، أسفل ملايين النجوم، أخذ كبار السن يسردون حكايات أسطورية عن سرقة المقابر والذهب والأحجار الكريمة، بينما تشتعل نار المخيم. كان “كارتر” يجلس بجوارهم ويصغي باندهاش. تحدثوا عن مقبرة مفقودة، كانت أغنى مقبرة في وادي الملوك، بل وفي مصر كلها بالأساس. قيل إن أحدًا لم يصل إليها وإنها تمتلئ بمقتنيات جنائزية ذهبية. وقيل إنه مدفونٌ بها ملك فرعوني تحيط به كثيرٌ من الأسرار. ملك فرعوني، إله شاب. وإن رئيس القبيلة، أي الشيخ، وحده هو من يعلم موقع المقبرة.

حلم الجميع بالعثور على هذه الثروة، تمامًا مثلما حلموا اليوم أن يصبحوا أثرياء. شاركهم “كارتر” الحلم لكنه لم يحلم بالذهب. كان لديه حلم اسمه “توت عنخ آمون”. لكنهم كانوا واقعيين؛ إذ لا بد أن يمتلكوا مالًا وترخيصًا. ولم يكن معهم لا هذا ولا ذاك. لكنهم يعرفون شخصًا يمتلك الأمرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تصدر عن دار العربي للنشر ـ معرض القاهرة للكتاب 2023

مقالات من نفس القسم