فصل من رواية “الوجه الآخر لبرايتون”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نيرمين القصبي 

لِيلِي (1)

مذ أن أتيتُ هُنا طفلةً في عمر العاشرة، لم أفهم ما الذي يعنيه الانتقال، شرحته لي أمي بأننا سنتركُ أرضنا، وبيتنَا ونهرب.. لمكانٍ أكثر أمانًا، إلى حين انتهاء الحرب.

”تشيني˝ لم تعد آمنةً كالسابق، دخلها أجنبي من الجنوب، طامعًا بها وبنسائها، أخذت كل ما يلزمني، دميةٌ أحضرها لي أخي الأكبر، ولأنني كنت بعمر صغير لم أعي معنى الأشياء التي تخصني، فتركتُ قلبي هُناك، وكل الدفء الذي كنت أشعر به، خرجتُ مجردةً من كل الأشياء. ذاهبون نحو بلدٍ على أطراف الشمال الشرقي، حزمنا أمتعتنا وهربنا، متخفيين في الليل، مع جيرانٍ كنا نعرفهم، حشودٌ خرجت من بعد الاستعمار، لا يريد أي أحدٍ أن يُعامَل وكأنه عبدٌ، لا نتخلى، نحن فقط لدينا الأهم من الوطن لنخاف عليه، أهلنا.

هكذا قالت لي أمي، خرج أبي معنا علي مضض، لم يكن يريد الهروب ،يريد أن يقف ليتلقى رصاصةً برأسه وهو يدافعه عن شرفِه وبلده وعائلته، وقد نالها.

بعد هروبنا بأربع ليالٍ خرجت كتيبة تبحث عن الهاربين في الغابة لم نكن قد ابتعدنا كثيرًا، معنا الكثير من الأطفال ومنهم أنا.. لا نستطيع المضي بسرعةٍ ولكنهم كانوا يعلمون هذا ومع ذلك خرجوا.

كأنهم وضعوا أنفسهم كبش فداءٍ لنستطيع نحن الهروب، لم أدرك حقًا ما كان يجول في رأسهم آنذاك. بعد المنتصف في ليلةٍ تلت اكتمال القمر.. سمعنا دوي إطلاق نار.. تلاها صوت صراخٍ، فاضطربنا جميعاً وخرجنا من مضاجِعنا، يضم كلٌ منا ما يخصه، اجتمعنا بعيداً عن الخيام.. قال المسؤول أنهم ربما يتبعوننا، واقترح أن نترك بعضا من بضائعنا، كي نستطيع الهرب أسرع، كنا خمس عائلات.. سبعة أطفال وأنا الثامِنة. ترك كلٌ منهم أغراضًا كان يحملها.. تركت أمي أشياءً رأيتها تبكي وهي تحملها من المنزل والآن تتركها دون ندم، وتحملني، مسرعةً للهرب.

سقطت مني دميتي ونحن نهرب، بكيتُ كثيرًا وصرختُ، حاولت أمي تهدأتي.

»سنحضر واحدةً أفضل، جديدة، ناصعة البياض، ملونَة، إهدأي»

ترجتني لكني لم أفهم.

كان كل ما أريده هو دميتي، الذكرى المتبقية من أخي، صاح بها الرجل المسؤول أن تسكتني وإلا سنُكشَف لم أتكبد عناء فهم ما الذي يعنيه «سنُكشَف».

تابعتُ صراخي، وأيضًا..

أفلتُ يد أمي، وعدتُ بسرعَة أبحثُ عنها في الظلام الدامس، سمعت صوت الجرَس المعلق بها، على يميني،

ركضتُ نحوها فوجدتها ملقاةً على الأرض، أمسكت بها وضممتها لي، إلتفت لأعود إلى حِضن أمي، تائهةٌ

لا أعلم طريقًا للعودة.. حتى سمعتُ همساتٍ، صوتٌ أعرفه يهمس باسمي، إنها أمي..

ناديتُ عليها بصوتٍ عالٍ.

همستْ أن أخفض صوتي، وأن أتبع صوتها ببطءٍ حتى أصل إليها، تمامًا كما نفعل في لعبة الغميضَة، فعلت كما أرادتْ مني.

عندما اقتربتُ منها، سمعتُ صوتًا خلفي، وكأنها ضغطة زرٍ ما، همست أمي باسمي مرةً أخرى..

تبعتُ صوتها حتى وجدتها.

بجانبها والدِي، ألقيت نفسي بين يديها، رأسي الثقيلة تصبح أخف دائمًا

بين ذراعيّ أمي.

انتفض جسدها فجأة وشعرتُ بها تتثاقل فوقيّ، أذني  قد صُعِقَت لثانية ولم أعلم سر هذا الصوتِ، بعدها بلحظاتٍ كان أبي يصرخ بي، سقطت والدتي فوقي.

ناديتها أن تنهض، ثقيلةٌ أنتِ يا أمي، إنهضي.

لن أهربَ أعدكِ، سأمسك يدكِ لن أتركها.

إنهضي..

نظرت فوق رأسي لم ألمح شكلًا لكنه كان غريب الهيئة، صوب سلاحهُ في رأس أمي، وأطلق صوتًا صعق أذني ثانيةً ومن خلفها صراخُ أبي.

رأيتُها أشلاءا أمامِي، وصراخ أبي يتعالى.. ناديتُ الغريب أن يترك أمي وشأنها ولكنه لم يستمع لي بل ابتسم!!

قتلها الغريب وابتسم!! ما الذي فعلتُه لك هذه الحسناء ليكون هذا فعلُك! أمي دافئةٌ حتى وهي مقتولة، دافئة وناعمَه، لم أصرخ، لم أخرج صوتًا، لُجِم صوتي.

قُطِع لساني،

أخرجني جندي آخر من تحتها، عينايّ متسعتان، لا أبكي، لا أصرخ، لا أفعل شيئًا غير أني أراقب ابتسامة الجندي الغريب، أسنانَه البيضاء، هذا الأجنبي الجبان.

كبلوا أبي بعيدًا عنا، هو والمسؤول عن هروبنا.

الأطفال والنساء بعيدًا قليلاً، عينيّ لم تُرفَع  من عليها، وضعوا أبي على مقربةٍ منها لم أعلم هدفهم من هذا.

بعدما هُشم رأسها.

كان يضرب أبي الأرض برأسه، وهو مكبلٌ، كأنه يريد إيذاء عينيهِ، فعلها مرارًا حتى اقترب منه آخر، وجذبه من شعره تجاهها، كلهم كانوا خائفين مِن أن نلحق بهم واحدًا وراء الآخر.. حتى جاء ذلك الغريب مرةً أخرى وتكلم بلغةٍ لم أفهمها، لم تكن لغة برايتُون التي نتحدثها نحن، ابتسموا وأخذوا أبي والنساء في شاحنَةٍ ونحنُ -الأطفال- في أخرى.

بعد بزوغ الشمس توقفت السياراتِ، أنزلونا منها،وفُك قيد أبي ورجلين آخرين، وجاء بعدها الغريب مُبتسمًا، كان على مقربةٍ مني، النساء ظلوا في الشاحِنة، فُتِح الباب الخلفي ظننتهم سيجلبونهم ولكن نزل منها رجلين من الأمس، يحملان أسلحة. هكذا لقبها الأطفال أمس.

صرخ أبي واندفع كثورٍ هائج، تجاه الرجلين، بكل قوتُه، تلقى ضربةً في معدتِه -الفارغَة- لم أحرك ساكنًا، لم تنزل عينيّ من على وجه الغريب..

لم أكن أعير قتال أبي اهتماما كبيرًا، أبي رجل من الشمال، قويُ البنية وضخم العضلات، كنت مطمئنة لفوزه في هذا النزال.

كنت أفكر كثيراً أن أسأل الغريب عن ابتسامته التي لا تفارق محياه، ولكني ترددتُ، لا أعرف لغته، ولا كيف أسأله من هذا الحشو في فمي، لاحظ أنني أنظر إليه كثيراً.

رفع جسده الهزيل من فوق السيارة التي كان يتكأ عليها، وخطى بخطواتٍ واثقة نحوي.. أمسك وجهي بأصابعِه

بقوةٍ.. آلمني كثيراً لكن لم أصدر صوتًا، حتى جذبهُ أبي ولكمه في وجهه، أخبره ألا يقترب مِني.. لم يفهم الغريب ما قاله أبي..

ولم يفهم أبي ما قاله الغريب، لكني فهمتُ

تلك الابتسامة من البارحَة رُسِمت مرةً أخرى على وجهه، أشار بسبابتِه للجنديين الآخرين، كانت تسيل منهما دماءٌ إثر معركتهما مع أبي والمسؤول الساقط أرضًا، أمسكا بأبي، كلاهما أمسكا بأبي..

نظر لي الغِريب وابتسم حتى أُغلِقت عيناه، من شدة الابتسام. ثم اخترقت الرصاصَة قلبي عِندما سقط أبي من أثرها، أرضًا.

حينها للمرة الأولى.. صرختُ.

كُنت السبب من البداية، لو لم أعد لأجلب دميتي، ما رحل أبي وأمي، ظل هذا الذنب يهشمني من الداخل أعوامًا كثيرَة، كانت تلك المرة الأخيرة التي أصرخ بها.

وُضِعنا في العربات مرةً أخرى، تركنا أبي غارقاً في دمائه، والمسؤول عاريًا، تأكل الغربانُ من رأسيهما.

لن تُمحى تلك الصورة من رأسي، ليت الغريب قتلني قبلهما، أو قتلني وتركهما، أو قتلنا جميعََا.. ولم يبتسم.

بعد مرور يوم علينا مُحملين بداخل العرباتِ في العشرين من الشهر أغار علينا رجالٌ برونزيوا البشرَة، يحملون معهم أدواتْ صيد كالتي كُنت أرى عمي “جيك” يحملها وهو مسافر.

أنقذونا وقتلوا الغرباء بعيدًا عن مرأى البصر، لكني تطفلتُ.. انفَلِتُ من بين يديّ المرأة التي كانت تعتني بالأطفال وهربت

مُسرعةً تجاه الغرباء، رأيتُ أحد المنقذين يصوب سلاحهم -الذي قتلوا به والدي- في رؤوسهم، أمسكتُ بقدم المنقذِ البرونزي، وترجيتهُ أن أفعلها أنا.

تعجب الجميع ونظروا لي، حاول أحدهم جذبي وإبعادي لكنني ضربت الأرض ونحبتُ مترجيةً أن أفعلها أنا، أريد أن أعيش وأنا مرتاحةٌ أن دمائهم لم تُرق فراغًا، بعد إصرارٍ من فتاة تبلغ العاشرة، ولأنهم أيضًا لم يتمكنوا من إتقان استخدام السلاح أمسك رجلان بالغريب جيداً حتى لا يؤذيني بشكلٍ ما.

صوبتُ الرأس في الرأس، ابتسمت له كما ابتسم لي، ودعتُ أبي وأمي.. وأرديتُه.

احتضنني المنقذون ظنًا منهم أني سأخاف أو أفعل شيئًا بنفسي بعدها، لكني ابتسمت لهم، ومن يومِها ظللتُ أحمل هذا الوجه الباسم.

قالو أنهم من مكانٍ في الشمال الشرقي يُدعَى برايتون، وهو مكانٌ يشتهر بصيد الأسماك، وافقنا جميعًا على دعوتهم لنا بالرحيل معهم، وفي أثناء رحلتنا تلك قابلتُ جدك، الذي أعطاني السلاح مسبقًا.

مكثنا معهم طوال الرحلة، قابلتُ أيضًا فتى يكبرني بأعوامٍ قليلة، كان ينظر لي كثيرًا، ويراقبني عندما أختلى بنفسي لأتذكر عائلتي.. كان يضايقني هذا في البداية ولكنني اعتدت الأمر، قليلًا.

 تبادلنا النظراتِ خلال رحلتنا ولم أعرف ما سر الشعور الذي يراودني.

لِيلِي (2)

 دعاني الجد مرتين لأتناول العشاء معهم في خيمتهم، قصوا أنهم لم يغادروا البحر مسبقًا، ولكنهم كانوا يبحثون عن شيء في غابة “ليڤينا” حتى سمعوا ما حدث في الشمال، فسلكوا طريقًا يبعد عنها وصودف أنهم قابلونا، نتحدث نفس اللغة مع اختلاف بعض الكلمات، قضينا معهم رحلتهم إلى “ليڤينا” تركوا هناك النساء وبعض مِن الأطفال، تعلق الجد بي، عرض عليّ أن أبقي مع البقية ولكني رأيت في عينيه حُزنًا وكأنه يرجوني أن أرفض، رفضت..

فزاد سرورًا واحتضنني، أخبرتُه قصتي وما حدث لعائلتي وعن هذا الذنب الذي أحمله، وعن سر ابتسامي الدائم.

مسح علي وجهي بيديهِ وكأنه يعتذر لي عما حدث، قال أنه سيأخذني معه ويعلمني كل ما أريد، وصلنا إلى “برايتون”، الأشخاص يشبهوننا إلى حد ما، المسافة ليست بعيدة بين الشمال والشمال الشرقي..

لهذا نتشابه في اللغة، واللون، وربما بعض التقاليد غير أن الحرفة التي نمارسها هي الحياكَة والتجارةِ، وأنتم تمارسون الصيد.

قابلتُ والدك ومكثنا معًا كانت جدتُك خير أمٍ لي، اعتنت بي مثل ابنتها تمامًا، علمتُ قصة الأسماك التي يسعى جدكَ ورائها، كان رأيي من رأي جدتك، أنها هراء

وكان هذا رأي البلدة كاملةً لكن جدك لم يتخلى عن إيمانِه، وزرع أيضًا الفكرة في رأس أبيكَ، كبرنا أنا وهو سويًا..

وقعنا في غرام بعضنا، كانت تحسدني كل فتيات البلدة، والدكَ كان طموحًا، وذكيًا، ولديه حضورٌ رائع، كان يجالس كبار الصيادين، دائمًا، ولا يفوت أيّ مجلسٍ لهم، يد جدك اليُمنى، وأنا كُنت السمكَة الضعيفة

التي اصطادتها شبكةُ أبيك.

تزوجنا، وبعد الزواج بمدةٍ توفى جدك في عاصفَةٍ كما شاع، لم يصدق والدُك وظل الشك يساورهُ دائمًا، جدك كان خير الدليل والصياد والقائد، ولكن ربما تخوننا الأقدار أحيانًا، لم تتحمل جدتُك الأمر لوقتٍ طويل، حالما أعلنتُ الحمل لها، بدأ مرضها يتزايدُ، حتى جئت أنت بعد مشقةٍ، حملتك بين يديها، ولم تنتظر سوى عشرة أيامٍ ورحلت.

لم أتخل عن ابتسامتي، عاد والدك من صيدِه، ودفن رأسه في صدري، بكى حتى تشققت عيناهُ

أصبحنا نتشارك نفس المصير، لم يبقى لنا في هذه الحياةِ غيرُك..

رأيتُك تكبر يومًا عن يومٍ أمام عيني، يافعٌ وطموحٌ كوالدِك.

مندفعٌ وثابتٌ كأبي، رأيت فيك عائلتي كلها، بعد ميلادك بسبعة سنواتٍ أعلنت “برايتون” استقلالها، وبدأ الغرباء يفرون إلى أراضِِ أخرى ليختبئوا بها.

وبحكم أن نسائهم كانوا غايةً في الجمال، كانوا مطمع الرجال، يتصيدونهم للزواج، وهذا ما فعلهُ والدُ صديقك ماث، جاء بالغريبة بيننا، لم أستطع منعك من مرافقته، ولم أستطع البوح بما يجول بداخلي، منذ أن أتيتُ هنا رميتُ الماضي ورائي، كله.

لكني لم أستطع تقبلها، كنت أرى بها الخيانة والسرقة، خفت أحيانًا أن تسرقك مني لا أنكر ولكني تركتُك، فما عهدتك جاهلًا أبدًا.

مضت الأيام وعلمتُ خبر موتها بعد الفض بأعوامٍ، بعد صراعٍ مع المرض دام منذ أتت، لم يتقبلها المكان هُنا مثلي تمامًا. لكني لم أفكر أبدًا في أن تُسلب حياتها، أنا أمٌ أيضًا ولدي أطفال.

كان والد ماث يسافر كثيرًا كوالدِك، ولكنه كان صيادًا عاديًا ليس بشهرة أبيكِ وذكائه وفطنته، كان يزور ماث كثيرًا

أعلم أنه في قرارتِك تمنيتَ لو كان والدك عادياً، أنا أيضًا أردت هذا في بعض الأحيانً، ولكن لا يستطيع أي أحدٍ الوقوف في وجه هذا العنيد.

بعد الاستقلال طلبتُ منه أن نعود.. أن نسافر للمدينَة ونبتعد عن هُنا، أن نستقر، كان يرفض رفضًا صارمًا ويقول أنه لا يتخلى عن الأشياء التي يريدها/يحبها.

لم أمَل مرةً في التحايل عليه، أردتُك أن تعيش حياةً مستقرة هانئة ولكنه رفض، كان يزرع فيك أحلامه، وأحلام جدك، كان يراكَ صيادًا شغوفًا تستحق أن ترث من بعده كل الأشياء التي يحظى بها، لم أكن أرفض.. لكني كنت قلقةً بشأنك، وخائفة، وأريد الأفضل لك دائمًا.

الآن أتممتَ السادسة عشر، ومر عامٌ على رحيل والدِك في صيدٍ آخر، أراكَ أنت وماث تكبران سويًا، وأرجو في قرارتي.. أن تظلا هكذا ولا يتدخل القدر فيما بينكما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 كاتبة مصرية، الرواية صدرت مطلع العام عن دار فواصل للنشر 

مقالات من نفس القسم