د.محمد بدوي
في القصص القصيرة التي أعرضها لطاهر شرقاوي بدا لي أن الفضاء قديم، بقايا تكاد تكون متلكئة من زمن غارب مكتوبة من منظور مسرف في غنائيته، برغم أن الكاتب يقوم بترهينه، ثمة نفس غنائي لغته تكاد تكون طقسية، وعلي الفور تدرك أن صاحبه يحيا في دفء جماعة خطابية، يمثل فيها يحيي الطاهر عبدالله دور منشدها، علي الأقل في نصوصه السردية القصيرة المجموعة في كتاب «أنا وهي وزهور العالم»، أقاصيص شرقاوي التي أعرفها تغني وتستقطر وتكرر لتخلق جمالا هشا لكائنات قابلة ومرصودة للكسر، دون أن يكون لها شراسة كثير من نصوص يحيي، نفس الولع بالإنشاد والتخلص السريع من التفاصيل إلي ما يراه جديرا بأن تقع عليه عين الطفل الأسيانة، التي تصلنا الأشياء عبرها. لكن برغم ظل يحيي الثقيل، يمكن لقارئ هذه الأقاصيص الأولي أن يلحظ أن شرقاوي يمكنه أن يغادر هذا الظل، ربما لأنه يلمح في الوقت نفسه وجود قلق التأثير، الذي يعتري الابن وهو يحاول أن يختلف عن أبيه، حتي لو كان ما بينهما يستحيل فصمه علي نحو نهائي وكامل.
رواية طاهر شرقاوي الأولي فانيليا» تحقق هذا الابتعاد، أن يتشبث بأثمن ما يملكه ككاتب، فيوسع عالمه ولغته ويخالف بينها وبين لغة من أحبهم، وربما تلقي تدريبه الكتابي علي أيديهم، لكي يكون «ابن زمانه»، كما كان يحيي يردد ذلك أن الكتابات الأولي دائما، حتي لو كانت قد نفضت يديها من اختيار اللغة واللكنة والمنظور، تكشف إما عن قلق صاحبها ممن أغروه من آبائه ونصبوا له الفخاخ، وفي هذا يكون القلق حتي لو لم يكن بالغ الوضوح دليل عافية، وإما أن تقنع بما قرأت وامتصت دون أن تتعلم سوء النية، فتظل – الكتابات – صافية متجانسة، لا تعرف انشطار الرغبة وازدواجيتها، وربما صراعيتها بين امتلاك ما لدي الأب واجتيازه مع القلق من هيمنته إنها كتابات لا تحب القلق، ولا تسعي إلي الاستقلال، ولذلك تظل كتابات محبة، تعيد كتابة ما كتبه الآباء.
لكن طاهر شرقاوي برغم غنائيته وحسن ظنه بالعالم، ليس من هؤلاء، فكتابه الجديد فانيليا لا ينكر نسبه، لكنه ينقش علي هذا النسب، صوته ونفسه وهو نقش يمكن أن يزداد خطوطه وضوحا وحّدة، وبالتالي اختلافا في الكتابات القادمة، فقد وسع من عالمه الذي صار أكثر «مدينية» ونّوع في مصادر تلقيه، وحاول أن يجعل من الصوت المنولوجي صوتا واحدا، صحيحا، لكنه ينطوي علي فراغات وصدوع.
من العنوان «فانيليا» بنعومته والتصاقه بالمؤنث، ومن ترجمة صانعي الغلاف لعناصر النص ومفرداته، أصص الزرع والمشط الخشبي والفنجان الذي يتصاعد بخاره، والحيوانات الخضراء، فضلا عن الأعضاء الانثوية المبرأة من تأثير الشهوة الحسية، وجميعها علي حيز أبيض بلا عمق، بوسع القارئ أن يفهم مسعي الخطاب الذي يريد صياغة العالم من خلال غنائه، ولا تتحقق هذه الغنائية عن طريق التكثيف الذي يرفع التفاصيل إلي مستوي ما هو شعري أي من خلال البحث في التفاصيل المادية الخشنة المتقشفة عما يفلت من الرصد العادي، عما لا يمكنه أن يفجره سوي التكثيف وإزالة المعاني السابقة، ولا تتحقق من خلال عرس اللغة السامية النبيلة، ولكن من إزاحة ما هو عادي أو قبيح وتغييبه عن المشهد، بذلك لا يثقل علي ما هو جدير بالغناء والتكبير، هكذا يبدأ النص بإدهاش القارئ حين يكبر عنصر «القدم الصغيرة خطابيا»، قدم الطفل الصغيرة لفتاة كبيرة ناضجة، كما يفعل المصور حين يعزل شفتين في وجه لإبراز جمالهما لا من خلال علاقتهما ببقية أعضاء الوجه، ولكن من خلال تكوينهما الذاتي، أو كما يقوم المغني بالنبر علي صوت بعينه لإبرازه، التركيز علي القدمين واستغراق السارد فيهما، وفي مفارقتهما للجسم الناضج، يحول القدمين من عنصر يرصد إلي موضوع رغبة وغناء، لأن القدم الطفلية تدرج في سياق غنائي، لا أثر فيه لغمة جنسية تتوجه إلي مناطق مفصولة عن بقية الجسد، ولا تأشير علي ما تشع به القدم كعضو يمكن أن يكون جنسيا كما يمكن أن يفعل شاعر إيروتيكي، بل «زووم» علي القدم الصغير التي خلقت هكذا، ولم توضع في حذاء حديدي علي نحو ما نري في الثقافة الآسيوية التي تصنع الصغر وتتقصد إنتاجه لتكون مفارقة صغر القدمين مع نضج الجسد ممارسة ثقافية كاشفة عن ممارسة ثقافية، إن القدم الصغيرة تتراسل مع أشياء الفتاة الصغيرة الأخري، كالثدي واليد والفم وما تبقي، ولو كانت الأعضاء الأخري «كبيرة» لأصبحنا مع تسليع للجسد الأنثوي، أي قصره علي قبول الاستعمال والتبادل في فضاء يصوغ الرغبة ويؤججها.
ما هو صغير وضئيل وبالتالي طفلي وهامشي ومنحي يمثل شعرية هذه الغنائية المهيمنم علي النص، نحن أقرب إلي مفهوم «اللطيف»، كما تمجده العبارة الموروثة «كل صغير لطيف»، لا بهدف التسليع كما نراه في النماذج المصنعة من نموذج المرأة الآسيوية دقيقة الملامح، خفيفة الوزن المميكنة جنسيا، ولكن للإيحاء بأن الصغير المنحي الهامشي ضد الكبير الممتلئ المهيمن، بلاغيا يصاغ هذا الخطاب عبر لكنة لا تحب التأنق اللغوي، أو الحذلقة، فاللغة أرضية تحول العادي الصغير إلي شيء يستحق الغناء انطلاقا من قانون «الحجر الذي رفضه البناءون هو أساس الزاوية» لا لأن العالم ينطوي علي بهاء مادي بل لأن العالم يعمي عن رؤية الجمال فيما هو صغير وطفلي، هكذا تصغر اللغة وتكشف عن جمالها فتتواتر علامات مثل «الولد» و«البنت» مع كلمات مثل يبص، يشوف، وجميعها من اكتشافات شعر التفعيلة وقصائد النثر، هكذا تزاح التفاصيل «الواقعية»، ويكون الحديث عن شخصيات لا تكاد تتطور، ومن ثم تختصر: الولد، البنت، رجل الجنازات، السيدة البدينة، الأب الميت، الأخ.. إلخ، أما الأماكن فهي: المقهي، الشارع، الكافيتريا، الميدان، المدينة الصغيرة وبالطبع تكون الأزمنة أميل إلي التسمية الطبيعية: الصباح، الليل، الأصيل لا تشير إلي التعريف، تلك بالضرورة إلي مطلقات فلسفية، فنحن مع غناء للنسبي، بل تشير غالبا إلي الرغبة في البساطة التي اعتبرها يحيي حقي قيمة تستحق أن ينشد لها، كما تكشف عن محاولة نزع الفخامة والامتلاء الصوتي، وبالطبع في مثل هذا السرد سعي حثيث إلي إخفاء صفة «الحديث» المرسل عمدا، والتي تعضده الجمل الاسمية وأشباه الجمل لتحقيق تدفق سردي، يخفت فيه الحوار، لخفوت أو ما يكاد يقربنا من انتفاء الصراع.
هذا الصوت السردي الذي يغني يحذر الواقعية، وبالطبع ضد لروايات الفضح السياسي التي يتنافس كثيرون الآن في أيهم الأكثر قدرة علي حشد أكبر كم ممكن من تفاصيل الفساد والبؤس الدالة علي «انغماس النص في الواقع» والثورة عليه نحن مع تقصد للبعد عن التحديد السوسيولوجي للزمن المرجعي، لكننا رغم هذا نعرفه، برغم أن الموبايل لا يذكر ولا مظاهرات كفاية، كما نعرف أننا في وسط البلد، مرصد الكتاب الشبان، بل نكاد نعرف اسم «المقهي» و«المدينة الصغيرة الملوثة» بل وبعض الشخصيات لكن لو قرأ الكتاب قارئ من بلد آخر أو في لغة أخري، سيلحظ أن الكتاب يحذر أن يكون واقعياً، فالغناء لا يحب التفاصيل والتشعيب، وربما يؤكد الكتاب هويته بمخالفة كتب أخري، تقرأ اللحظة ذاتها والحيز نفسه نحن مع ما هو صغير ولطيف، بل يكاد يكون نباتياً مبرأ من اللحم والعظم والافرازات، وحتي مخالفته لما هو واقعي تحذر أن تنتج سحراً بالمعني السائد في الواقعية السحرية إن العناصر الاختلاقية هنا تصنع سياقا لا باكتشاف ما في الواقع من سحر، بل بجعل انجازات المجاز الشعري تعمل نثرياً عبر الأنسنة والتشخيص علي نحو ما يفعل أورهان باموق حين يحول استعارة شعرية بسيطة إلي عنصر غنائي فتقوم العملات والطيور والموتي بالتلفظ، أو كما يفعل ساراموجو حين يتعامل مع الجدران والحيوانات بنفس حقوق البشر، لكن لصالح غايات أخري غير غنائية، بل ضد غنائية علي أي حال هذا العنصر في استراتيجيات السرد قديم، متحدر من المرويات والأساطير والحكايات الشعبية، وليس جديداً الا حين يهيمن المنظور الواقعي.
شرقاوي ينتج هذا العلو علي الواقع جزئياً ومن دون تهاويل مجازية، فالغناء البسيط يقتضي الحذر من الفصاحة، لذلك سيجد القارئ أن البنت مركز الكتاب تشي نزوع جلي إلي تمجيد الأنثي، لكنه تمجيد يتكئ علي الاختلاف، اختلاف جسمي يتراسل معه اختلاف نفسي، أي اختلاف في الاحساس بالمعالم وتفاصيله، اختلاف عن من؟ عن النساء الشبقات والكائنات المزهوة بما تحتاز من مكاسب، والبشر الواقعين من ذلك ولعها بالأشياء التي لا يولع بها الناس العاديون، اللذين يكمن «امتيازهم» في اختلافهم هي تهتم بالأبراج، وتصادق العجائز والقطط، وتربي الديناصور والخرتيت ولو كانت تملك رغبة جنسية، فربما كانت حققتهم معهم نفس التفهم للحيوانات الذي نجده عند شاعر مختلف، وعدو لدود للغناء هو أسامة الدناصوري، الذي أحب الحيوانات، لأنها «سوائم» أي أكثر بدائية من المخلوقات العاقلة علاقة الأنا بالحيوان لدي الدناصوري «علاقة أخوة» تمارسها أنا جاءتها الخيانة من أعضائها، أما العلاقة بالحيوانات هنا جزء من محاولة تشييد «أسطورة صغيرة» امرأة صغيرة كما كان الدناصوري يمكن أن يقول عنها، تحاول أن تكتب قصصاً، يصوغها السارد الموصول بوضوح بالولد صديقها، عبر مغايرة «الأبطال» الواقعيين الكبار حتي لو كانوا هامشيين أيضاً، لكنهم هامشيون «يقلقون المدن وتكرههم المكومات إذا استخدمنا زرابة لسان يحيي الطاهر عبدالله.
هذه الغنائية وثيقة الصلة بالنصوص «الصغيرة» أعني بالقصة القصيرة التي سماها العقاد مرة «القصة الصغيرة» ولذلك نجد الشخصيات هنا قليلة البنت، الولد، السيدة البدينة.. إلخ وجميعها ملتحقة بالبنت، ثم إنها شخصيات تكاد لا تتطور، انها تعطي دفعة واحدة باستثناء بعض المعلومات التي نعرفها لاحقاً، بل تختصر في بعض العلامات والسجايا، مما يضعها علي حد التأشير الأمثولي مما يعني أن صفة الصغير، الضيق، تنتقل من الشخصيات إلي الفضاء هذا الصيق، هذا التركيز علي طفلية الخطوط والألوان، جعل النص يحاول النمو لكنه لا يكاد يفعل ومن ثم بعد أن نقرأ نصف الكتاب نشعر أن اللعبة النصية قد اكتشفت النص يحاول أن يتقدم خّطياً، لكنه يدور حول نفسه، ولا يفلح الوافد الجديد، أعني هاجس البنت من فقدان ثدييها كمعادل رمزي للاعتراض، في إضافة جديدة مثير يظل الايقاع بطيئاً ورتيباً ويضيق جسم الكتاب عن قبول أي جديد وحين ينتهي النص يناجئنا الكاتب بوجود «ملاحق»، يقول الكاتب ضمناً إنها استراتيجية متعمدة مقصودة، لكن قراءتها تدفع القارئ إلي تأويلها بوصفها عناصر ضاق عنها جسم النص، وبرغم جمال هذه النصوص في ذاتها، إلا أنها «خارج النص» الذي حسب شروطه التي وصفها هو لم يقبلها لأنه كان قد أغلق، اكتفي بجسمه الصغير، وكان طبيعياً أن يرفض «الزوائد» حتي لو كانت جميلة.
ــــــــــــــــــــــــ
*ناقد وأكاديمي مصري