غياب

وفاء العمير
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

وفاء العمير

سلّمتُ هشام سعادتي منذ اليوم الأول لزواجنا. كان تصوري عن الحياة الزوجية مختلفا تماما عن الحياة التي عشتها معه. ظننت أنها ستكون بحلاوة الشهد، واتضح لي أنها كلسعة النحل، ولدغة الأفعى، وشباك العنكبوت، تقضي على فريستها في النهاية. كنت أكثر من ضعيفة، وشجعه ذلك على سحقي لسنوات طويلة، تحطمتُ خلالها، وغادرني شعوري بوجود ما يدعوني للبقاء حية. كان ثمة المزيد من عمليات التكسير، تجري رحاها بصورة مستمرة لروحي المعنوية، ومشاعري المرهفة، وتقديري لذاتي.

أتجهُ إلى المطبخ، وأعد كوبا من القهوة، أتناوله بينما أتفرج على  التلفزيون. سكون البيت يهدئ أعصابي. أرتشف قهوتي الساخنة، نكهتها لذيذة، كأنني أتذوقها للمرة الأولى. استغربت كيف تبدو الأشياء بنكهة مختلفة، الأمور التي كنت أكرهها قبل رحيل هشام، أقع في حبها الآن. ما قبل رحيله وما بعده، إنها مجمل الحكاية، ومختصر الشعور. كيف يستطيع إنسان ما أن يحبب إليك الحياة أو يجعلها بغيضة؟ هذه فلسفة لم أتمكن من استيعابها قط.

رن الهاتف الأرضي

أقول: الو ..

صمت

ألو ..

صمْتٌ مع أنفاس متقطعة، وفي الخلفية ينتشر صمت مريب، ثم إغلاق للسماعة. من هذا؟ أو هذه؟ بالتأكيد أنها هذه، التي تجعله يغرق في الضحك، ومعها يكتشف السعادة الحقيقية، يحادثها كأنه يتنزه في حديقة. تفكُّ عقد توتره المتشابكة، عقده النفسية التي يعاني منها. تملك طاقة شفائه من مكدرات الكون، تبلغ أشد الأماكن ظلمة، تلك المتقوقعة بداخله، وتنيرها، تصبح المساحة بأكملها مرئية. هي التي يرابط عند أراضي حبها، يرسمها لوحة فنية نادرة، أفضل حتى من أشهر رسامي العالم. ويأتي السؤال القاتل، السؤال الحاد كشفرة سكين، السؤال الهاوية: لم ليس أنا؟ ألست أنا زوجته؟ أليس من حقي أن أكون منقذته؟

أرقت كوب القهوة فوق السجادة، من دون أن أنتبه. تلطخت السجادة بالسائل البني الغامق. حتى ذكراه تدمرني. قلت في نفسي بينما أنهض من مقعدي، وأتناول المناديل الورقية، أبللها بمياه الحنفية، مع القليل من الصابون، وأمسح السائل المراق. هذه أنا، مراقة على سجادة العمر، بقعة لطخت حياته، لا يستطيع التخلص منها. إنه بحاجة إليّ، بحاجة إلى امرأة يطأها بقدميه كي يرتفع، يوجّه إليها إهاناته كي يثق بنفسه. ها قد عدت مرة أخرى للفلسفة. أذهب إلى المطبخ، بيدي كوب القهوة الفارغ، أضعه في المغسلة النظيفة. أنظّفُ كل ما هو متسخ، الأطباق بعد الانتهاء من تناول الطعام، الأرضية من الغبار، ملابسنا من العرق والأوساخ. في بيتي تفوح رائحة المنظفات باختلاف أنواعها، نظافة ناصعة، لا أمزح بهذا الخصوص. أي نملة تمشي فوق رخام بيتي، سيكون مآلها السحق بكعب نعالي. أي صرصور يتجرأ، ويمدّ رأسه القذر، عبر الممر، أو الصالة، أو أي مكان، أسارع إلى رشه بالمبيد الحشري بلا تردد. ثمة الكثير من علب المبيدات، مكومة في المخزن. نظافتي لا يُعلى عليها. لو أُجريت مسابقة بهذا الشأن، فسأفوز بها حتما.

قالت لي أمي يوما حول مشاحناتها مع أبي: إنها فلفل وشطة الحب يا غبية.

عجييييب، كم هذا مدهش! في علاقتي بزوجي لم أصل حتى للفلفل البارد. علاقتنا قائمة على الصمت، صمت غامض، لا أفهمه، كأنه قادم من الجحيم، جديد على البشرية، تتآكل جراءه علاقتنا رويدا رويدا، حتى لا يتبقى منها شيء. صمت أشبه بمجرم، يتحين الفرصة المناسبة للانقضاض علينا، يطلق علينا صمت الرحمة، وليس رصاصتها. صمت  يتسيد علينا بطريقة وحشية شريرة، يوجّه نحونا اللكمات تلو اللكمات، ولا يكون بمقدورنا ردّها، أو حتى كف قبضتيه عنا. صمت بلغ بنا الحال أن نبجله، يا للسخرية!.

أجلبُ الممسحة من المخزن، أغطس شعيراتها بالماء والصابون، وأبدأ تنظيف الأرضيات، رغم أنني فعلت ذلك هذا الصباح. لكنني أعاود الكرّة، لمجرد أن أزيح الهموم عن صدري. القيام بعمل ما، مهما كان ضئيلا، يشعرني بالراحة. لقد فعلت ذلك دوما، منذ أن كنت في بيت أهلي. كانت أعمال المنزل تبعد عن ذهني شبح التفكير في مشاجرات والديّ اليومية، وعوامل النكد التي يجيدان ابتكارها، كل يوم بشكل مختلف عن اليوم الذي سبقه. إنهما خارقان حقا فيما يتعلق بهذا الأمر، تكوّنت لديهما خبرة كافية حوله. أتساءل أحيانا من أين لهما بهذه الموهبة؟ كيف يطيقان سماع صوت زعيقهما المرتفع، الذي يمزق غلالة السكون؟ لقد أمضيا عمرا كاملا على هذا النحو. يسألها أبي على مائدة الغداء، والسفرة مفروشة على الأرض: لماذا مذاق الرز مالح؟

تتذوق أمي بضع حبات من الأرز، تلتقطها بأصابع مضمومة، ثم تطلق صوتا من فمها، للدلالة على طعمه اللذيذ: أين الملح الزائد يا رجل؟ تجيبه، ثم تنظر في عينيه مباشرة، وتضيف متهكمة: ليس الأرز هو المالح، حياتي معك، يغشاها الملح من الأعلى للأسفل، سامحك الله.

هل يشتد غضب أبي، ويغادر مكانه، رافضا إتمام غدائه؟ لا أبدا، بل يأخذ لقمة كبيرة من الأرز المالح، بعد أن شرّبه بمرق اللحم مع الباميا، ويأكل حتى الشبع، كذلك تفعل أمي. وكل ما قيل على المائدة مجرد مشهيات، تجعلهما يقبلان على الطعام، كما لو أنهما لم يأكلا منذ دهر. حينما كان هشام يقول لي مثلا إنني أسيء إلى النساء بانتمائي إليهن، كانت الصدمة التي تنتابني تسد شهيتي عن الطعام أياما عديدة.

أمسح وأمسح، كأنما أقوم بمسح شامل لكل شعور سيء، أو موقف بائس، أو حوار رديء تكدس بداخلي. أمسح وأمسح، هنا يا عالية امسحي، هذه البقعة فاتتك، هنا مكان يصعب تنظيفه، لكن لا عليك، واصلي المسح. امسحي بكل قوتك، بكيانك، بكل ما تملكين من طاقة. امسحي لعل حياتك تتلألأ أخيرا، لعلها تصبح لامعة، متوهجة. امسحي هنا بقع التنمر المنتشرة بكثرة، لكي تنعمي بالهدوء والسكينة، وترتاح نفسك المنخرطة بالألم منذ القديم، كأنما منذ الأزل. امسحي بدون إبطاء، بكل الوقت المتاح لك.

أُلقي بجسدي المنهك على المقعد. تسقط الممسحة على الأرض، تصدر عصاها صوتا مدويا، أفزعني، طررراخ، صوت عصا تهوي وسط الصمت المطبق، وسط الصمت الكاسر، الحديدي، كعنوان الفيلم الأمريكي آيرون مان، الرجل الحديدي. حديد لا تذيبه النار، حديد ممتنع عن الاختراق. نعم، إنه صمت غير مُخترَق.

أُفكّر بهشام وهو في الطائرة، في رحلة عمل. سوف تمرّ المضيفة من جانبه، فينظر إليها. أعرف أنه سيفعل، سوف يمعن النظر إليها، هكذا هو ديدنه مع الجنس الناعم. يعشقهن كعينيه، ولكن عندما يكون الأمر متعلقا بي يعاملني كسلة مهملات. نعم سيحدّق بقوامها الرشيق، ولن يرفع عينيه عنها، سوف يتفحصها كما لو كان يتفحص سيارة في شركته. يمتّعه أن يقارن بين المرأة والسيارة. يقول إن السيارة القديمة يتمُّ هجرها، ويستعاض عنها بسيارة جديدة، ويقول إن ماكينة السيارة الجديدة تعمل بقوة ونشاط، بينما السيارة القديمة ماكينتها معطلة. وإن المرء لو خُيّر بين سيارة قديمة وأخرى حديثة، فماذا سيختار؟ سؤال لا يحتاج إلى إجابة. وبماذا ستجيبه السيارة القديمة على أية حال، سوى أن تخفض عينيها بإذلال إلى الأرض، وتلوذ بالصمت؟

سوف تقترب المضيفة منه، وتقول له بصوت ناعم، يصل إلى أذنيه كتغريد البلبل، إن وقت الغداء قد حان. ثم تضع صينية الغداء فوق طاولته الصغيرة. يقول لها شكرا، كما لو لم يقلها من قبل، بنبرة تفيض بالحنان. تبتسم له، وتستدير مبتعدة. نظراته تتابعها، كأنما إلى نهاية العمر، حتى ينتهي العالم، متابعة شغوفة كقيادة سيارة جديدة عبر طريق تحفه الورود والأشجار الظليلة. سوف يحبها في تلك اللحظة، كأنها امرأة حياته، حبا آنيا محموما، كشهقة الدهشة، ولو حدث وتعرف إليها أكثر، سوف يكون أمرا عظيما، سخيّا من دون شك، كمياه فائضة من الشلال. لو خرج معها في موعد، وتلاه بعد ذلك مواعيد عديدة، سوف يكون كما لو أنه سافر نحو الفضاء، لقضاء إجازة عطلة الأسبوع. اللحظات التي يقضيها معها لا تشبه بأي حال، تلك التي يقضيها معي، لحظاته معي ممسوخة، بالية، قبيحة بشدة، يتجرعها كالدواء، لحظات لا لزوم لها، كأنما هي العدم، بينما الفراشة المضيئة كالمصباح سوف تحظى بلحظاتها كاملة دون نقصان، لحظات تتسم بالرهبة، وبسحر مبالغ فيه، وتوقها يكتسحه اكتساحا مرعبا، حتى تكاد تنتزعه من الأرض. لحظات كأنها كنز مخبأ في خزينة مغلقة، وما من مفتاح لها. لحظات كنعمة مباركة، كغبطة لا تزول، سعادة قصوى محتدمة، كالضحك الذي تترقرق منه الدموع. لحظات غيبية، هاجعة في فراش الغيم، كمثل أحلام لم يسبق وأن حلم بها قط، كأنها قطع سكّر لم يتذوقها في حياته. ستكون لحظات أشبه برؤيا. هكذا ستكون، لحظات قادمة من المستقبل المشرق فقط، وليس ما عداه.

سوف تخامره الكثير من الأفكار، يدفع بعضها بعضا، كحشود في كرنفال. سوف تكون سيلا جارفا. أفكار عميقة، وسطحية، تخربش كالقطط على الجدران، أو تحفر في عمق الرمال، تحفر دون أن تبلغ القاع أبدا. لا نهاية لذلك الحفر، سوف تظل تحفر حتى تنقطع أنفاسها. نعم سوف تنفتح طاقة الخيال، أحلام اليقظة، سوف يكون خيالا خصبا، دقيقا، مرحا. في هذه الحالة فقط سوف يكون للمرح دوره الفعال، سوف يكون مرحا حقيقيا، له نفحة هواء الشاطئ، مرح الألعاب، مرح يملك ذاكرة، سوف تكون ذاكرة حية لا تموت، لا تمرض، ذاكرة تأتي دون طلب، تأتي من تلقاء نفسها، ذاكرة مُفضَّلة، ذاكرة تنبثق بكل عفوية، لا ضجر منها.

سوف يكون حديثه معها معبأ بالفخامة، عبارات ذائبة، تجعلها متيمة به. هو يحب ذلك، يحب أن يظهر على غير طبيعته، أن يبدو شخصا مختلفا. لم لا ؟ يحب أن يبدو أضخم مما هو عليه، أسطوريا، بمثل أهمية الرقم وعلى يمينه ستة أصفار. لا، ليس ثمة مبالغة، حيثما نظرتَ فإن الفكرة هي نفسها. أي شيء يفعله لها، لن يكون مماثلا لما يفعله لي. وكأنه كان يفي بعهد قطعه على نفسه، يجدر بالأمور أن تدار بهذه الطريقة.

دافئ هذا المساء، عارٍ مثل أكف تصفّق للجمال والصدق. أشدّ عليه، أضيء كالقمر عند اكتماله. أصوات أبي وأمي تبتعد وتبتعد، حتى لا أعود أسمعها، كأنما صارت خلف العالم، حيث العدم أكبر دهشة نعرفها، شرر فائق، عودة غير متوقعة، انتفاضة دهر. دافئ هذا المساء، الغروب عتيق، يصافح السماء مبتسما، على شفتيه تأنس الابتسامة، ابتسامة نهر يتسلى، ابتسامة أشبه بوصول رسالة طال أمد انتظارها. حيّاني المساء، عظيم هو، متدفق بسلاسل الظلمة، أحب الظلمة التي تتزين بالنجوم. أشعر وكأنني صفحة نهر مصقولة، كينونتي تلتئم، أجزاؤها تجتمع، آتية من أماكن بعيدة. صوت رنين هاتفي الجوال هذه المرة. قالت أمي: لا تبق وحدك، تعالي عندنا حتى عودة زوجك من السفر.

أردت إخبارها إن الشعور بالوحدة كان يلازمني طيلة حياتي، حتى مع وجود هشام بجانبي. كنت أسيرته، صديقته ربما، وتلك الصداقة في سبيلها أن تتوطد أكثر. لم تخفني الوحدة يوما، بقدر ما يخيفني الناس. لا تنالك الوحدة بضرر عندما تفهمها، بينما قد يتسبب لك الناس بذلك، يؤذونك من حيث تعلم أو لا تعلم. من المحتمل أن ترى مدى شراستهم، يصبحون كالحيوانات المتوحشة أو كالمجانين. بإمكانك الوثوق بوحدتك، بينما ليس بإمكانك أن تفعل الشيء نفسه مع البشر.

لم أقل لها ذلك بطبيعة الحال، غمغمت ببضع كلمات اعتذار، ثم قلت إنني أفضل البقاء في منزلي.

قالت: ألن تشعري بالضجر؟

لم يهمني هذا الشعور أبدا، لقد تكفلت الأيام به على نحو جيد. مرات عديدة اقتحمَ عزلتي، كان غرضه من ذلك أن يربكني، أن يحاول تهديدي بقتل آمالي، بمحو ابتسامتي، بنشر العتمة في طريقي، أن يجبرني على المكوث جامدة في مكاني. حينها كنت أصرخ به: هل هذا كل ما لديك أيها التافه؟

فيطأطئ برأسه، ويغرب عن وجهي، جارّا معه ذيول الخيبة. الضجر أعرفه، أكثر من أي شخص آخر، لكنه بلا قيمة بالنسبة لي.

سوف أجد ما أشغل نفسي به، لا تقلقي. قلت لها.

نشعر على الدوام بحاجتنا إلى الرفقة، أن نذهب إلى مكان ما، نفعل شيئا ما. لا نطيق أن نكون بمفردنا، نشعر بالرعب. إن أسوأ صحبة هي صحبتنا لأنفسنا. من الممكن أن تربطك علاقة صداقة وثيقة مع أحدهم، لكن مع نفسك، أنت دائما في عراك، كما لو كنتما عدوين لدودين.

تنهدتُ وأنا أسير إلى المطبخ، فكّرتُ أنني بحاجة ماسة للشعور بالسعادة، أن أمحو سجل أحزاني دفعة واحدة، فلا يبقى منها شيء، تختفي كما لو وُجِّه إليها عصا ساحر، أجتهدُ في سبيل حصولي ولو على القدر الضئيل من السعادة، بكل الصدق في العالم، بنزاهة يُستغرَب وجودها.

أجهّزُ عشائي. ليل طويل بنكهة فستق النجوم. ليل طويل ينتظرني. ماذا يفعل هشام الآن؟ يأخذني هذا السؤال داخل كهوف تغمرها العتمة والغموض، لم يزعج نفسه بالاتصال بي. لو عاتبته فسيكون رده جاهزا مسبقا، سيخبرني بانشغاله الدائم، وبأنه لم ينتبه لمضي الوقت. سوف يضيّق ما بين حاجبيه الكثيفين، كما يفعل عادة، عندما يبحث عن ذريعة، ويصمت لوهلة، كي يفكر. عندئذ يساورني شعور بأنه جاد، وصادق، ثم أتهمُ تفكيري بأنه هو السيئ، لكن نبرة صوته المرتجفة، بينما يذكر مبرراته العبثية الواهية، تعيدني مجددا إلى الواقع، وأسخر من سذاجتي المفرطة.

بعد العشاء أسحب جسدي الضعيف إلى غرفة النوم، يتشبث بي إحساس بالحزن، أدركت تقلّب مشاعري، سعادة وحزن في فترات متقاربة، ما يعني أن مشاعري تحكم سيطرتها على ذهني بدرجة كبيرة، يجعلني هذا هشة، ويمكن كسري بسهولة، وقد يحدث ذلك عبري أنا، وليس عبر أي أحد آخر. أفتح الدولاب لأغير ملابسي، تطالعني ثياب هشام توحي بالرصانة، تفوح منها رائحة العطر. فجأة ينتابني الحنين، تمتلئ عيوني بالدموع. أظل واقفة أمامها بجمود، تكاد الدماء تجف في عروقي، وألتقط أنفاسي بصعوبة. كما لو أنني من خلال ثيابه كنت أتأمله وهو يرحل، حتى يسقط في الغياب. غياب طوعي، مدرج في أجندته، غياب تدريجي،  قصدَ من ذلك أن اعتاد عليه. لكن هل سوف أتمكن من ذلك حقا؟ ربما انتظرَ مني ألا أعتبر مرور خمس عشرة سنة على زواجنا أمرا ذا بال، يستحق التوقف عنده. أضع رأسي على الوسادة، وأنظر إلى الجانب الخالي من الفراش، أتخيل هشام نائما ببيجامته المخططة، يشخر بسبب اللحمية في أنفه، نائما كما لو كان مجبرا على ذلك، كما لو أنه على أهبة الاستعداد في أي لحظة للنهوض والمغادرة، نائما بعينين مغمضتين، وبقلب خرج ولم يعد. كان نائما بجسده فقط، أما روحه فلم تكن في المنزل إطلاقا. أغمض عيني محاولة النوم، ينطلق رنين الهاتف فجأة، أفتح عيني وسعهما فزعة. نهضت على الرغم مني، وتحولت إلى جانب هشام، حيث موضع الهاتف على الطاولة بقربه. قلت الو..

صمت وصوت تنفس متقطع. الأمر نفسه. أبتلعُ غيظي، أكاد أشتم، لكني أمسكت لساني.

ألا تريدين أن تتكلمي، ربما تنتظرين أن يجيب عليك هو، أيتها الحقيرة.

ثم وضعت سماعة الهاتف بعنف. كان لهيب الغضب يتأجج بداخلي، وجسدي كله يرتعش، قلبي يخفق بسرعة، ووجهي يلتهب مثل جمرة مشتعلة. كانت أنفاسي تتصاعد من صدري كالدخان. استلقيت من جديد، وأغمضت عيني، فرأيت مشهد ما حدث يتجلى منطبعا خلف عيني. ضايقني لدرجة مزعجة، بل تكدرتُ للغاية، لأنني لم أستطع أن أتمالك أعصابي. جعلتها تشعر بأنها نجحت في التأثير على حياتي، وها هي تلمس إذلالي عبر أسلاك الهاتف.

…………

*كاتبة من السعودية

مقالات من نفس القسم