لم يعد من السهل الآن أن نطرح جديداً حول هذه الرواية التي تصل مبيعاتها السنوية إلى خمسمائة ألف نسخة، وصارت من كلاسيكيات الأدب الأمريكي عن جدارة، حتى ولو اتخذنا إليها سبيلاً سهلاً يتمثل في مناسبة الفيلم الحديث الذي استسهل تناولها وركّز على الإبهار البصري وفاجأ المشاهدين منذ اللقطات الأولى إذ جعل من راوي القصة في الكتاب والفيلم نيك كاراوي مريضاً نفسياً يستعيد حكايته في عالم الأغنياء وصداقته بغاتسبي ذي الشخصية الأسطورية، على عكس ما أوحت به شخصية نيك من تماسك وتوازن خصوصاً بعد اقترابها من غاتسبي وحكايته وعالمه. ولكن، إن كنا لا نستطيع أن نشمل هذا العمل بنظرةٍ كلية، يبقى مشهدٌ واحد على الأقل يظل يُلح بغموضه وجاذبيته، مشهد بسيط لا يحتوي اعترافات أو مواجهات أو أحداث درامية مفصلية، ومع ذلك فقهو يغيب ليظهر، في ذهن المرء، ويظل يلح مثل سؤالٍ قديم علينا أن نتجاهله لنواصل عيش الغافلين.
يردُ هذا المشهد في الفصل الخامس من الرواية، بعد نحو مئة صفحة، حين يتمكن جاي غاتسبي من إقناع نيك بدعوة بنت عمه ديزي على الشاي، في مسكنه الصغير الذي هو أقرب إلى كوخ مقام بجوار حدائق قصر غاتسبي. وحين تلبي ديزي الدعوة بأريحية تلتقي جاي غاتسبي، المرتبك والذي كاد صبره ينفد حتى أتت. إنه حبيبها القديم، الضابط الذي غاب على الجبهة في الحرب العالمية الأولى لسنوات، وانتظرته هي متشبثة برسائله ومتمسكة بوعدها له، قبل أن تيأس وتستسلم وتتزوج من الشاب الثري توم بيوكانان، وهو زوجها الآن، الرجل الرياضي متين البنيان، الذي يخونها بانتظام، والذي يخشى من سيطرة الأعراق غير البيضاء على مقدرات العالم.
جاتسبي قد أعدّ كل شيء على خير ما يكون، الأزهار، جزّ العشب، تلميع الفضّة، وارتدي خير بدله وراح ينتظر حتى فقد أعصابه، إلى أن أتت أخيراً المعشوقة ديزي. وبعد أن توقّف المطر يأخذها هي والجار نيك كاراواي – وهو راوي هذه الحكاية – ليريهما قصره بكل ما احتوى من تحف وكنوز وعجائب. إلى أن يصل بهما المطاف حتى غرفة نومه، البسيطة على العموم، حيث تتناول ديزي فرشاة شعر وتسوّي بها شعرها، وحيث: “فتح لنا صوانين مصقولين يضمان مجموعة هائلة من الحلل والأردية وأربطة العنق، وقمصانه مرصوصة كأنها قوالب الطوب في أكوام عالية.”*
ثم يبدأ في إخراج تلك القمصان واحداً بعد الآخر، ويلقي بها نحوهما، ولا يفوت الراوي الانتباه إلى أوصاف تلك القطع، قمصان من الكتّان الشفيف، ومن الحرير السميك، ومن قماش الفانلة الناعم الحر، وراحت تلك القمصان تفقد طيات كيها وتتناثر وتسقط فوق بعضها البعض فوق الطاولة في فوضى من الألوان العديدة، حيث أخذت تعلو في كومة. ثم سرعان ما يلتفت الراوي أيضاً إلى الألوان، فهي ليست قمصان تقليدية بيضاء أو بألوان متوقّعة ومنتشرة في قمصان الرجال خلال بداية القرن العشرين كالرمادي أو الأزرق الفاتح، بل كان من بينها قمصان مخططة وموشاة بالنقوش، وكاروهات، وذات اللون الأحمر المرجاني، والأخضر التفاحي، والبنفجسي الفاتح بلون اللافندر، والبرتقالي الخفيف، وكلها كتبتْ عليها الحروف الأولى من اسم الوجيه الجديد بلون أزرق بحري داكن.
من الممكن أن نختلس نظرة إلى هذا المشهد ذاته، قبل أن نتورّط بأي تعليق عليه، في اثنتين فقط من النسخ الفيلمية العديدة التي اقتبست الرواية. النسخة الثانية هي بالطبع الأحدث التي اجتذبت ملايين المشاهدين إلى دور العرض قبل شهور معدودة، أمّا الأولى، والتي يعتبرها الكثيرون أهم وأعمق اقتباس، هي نسخة المخرج جاك كلايتون، لعام 1974، وكتب لها السيناريو فرانسيس فورد كوبولا، الذي أبدى استيعاباً مُدهشاً للشخصيات وعلاقاتها وخصوصية اللحظة الأمريكية التي تدور بهم. إنها النسخة الكلاسيكية هادئة الإيقاع، وفيها أدى روبرت ريدفورد دور غاتسبي بأناقة ورصانة، وقدّمت ميا فارو أداءًفاتناً لشخصية ديزي بيوكانان.
في نسخة كلايتون، 1974، يأخذ مشهد القمصان الملونةحقّه تماماً من الشريط السنيمائي، يمضي في تريث لدقائق حتى نلمس موقعه المهم من سير الأحداث وثقل تلك اللحظة المشحونة بكثيرٍ مما لا يُقال وربما حتى لا يمكن التعبير عنه. يبدأ المشهد على الأقل هادئاً، حتى أن غاتسبي يُناول ديزي أول القمصان في يدها، قبل أن تملكه الحماسة ويشرع في إلقاء القمصان كيفما اتفق على أرضية الغرفة، فنرى تلك القمصان الرقيقة وهي تطير لثوانٍ في سماء الغرفة الواسعة كأنها سحابات مُلونة أو أكياس غزل البنات قبل أن تحط هامدة مثل جثث زهور، تطير وتحط على خلفية من جمل موسيقية عذبة خفيفة، تكاد تكون راقصة. تطير وتحط بينما مازالت ديزي تمسك بالقميص الأول الذي أعطاه لها غاتسبي، ساهمة وضاحكة،ثم تغلبها دموعها، وتقول جملتها: “لم يسبق لي أن رأيتُ شيئاً بهذا الجمال!”. ينسحب نيك كاراواي، العزول، قبل أن ترفع هي وجهها من جديد نحو حبيبها القديم غاتسبي وتضحك ضحكة صغيرة وكأنّ شيئاً لم يكن، ثم في لقطة بعيدة في نفس المشهد، نراهما يتبادلان النظرات المحبة الباسمة، وصورتاهما منعكسة على عدد من مرايا صوان الملابس، تحيط بهما القمصان في دائرة كأنها بحيرة من الألوان. ينتهي المشهد على هذا.
ثم نأتي إلى النسخة الأحدث، نسخة لورمان 2013، المشهد هناك سريع الإيقاع، بل يكاد يكون لاهثاً، مثل غالبية مشاهد الفيلم، وهو ملتحم تماماً بمشاهد أخرى سابقة عليها تصوّر غاتسبي وهو يعرض على ديزي ونيك مظاهر ثرائه المبهجة من حوله، متباهياً وسعيداً كالأطفال. بالطبع نرى هنا صورة أكثر إبهاراً، تكوينات هندسية حادة وألوان صارخة، وانتقالات تصوير مباغتة بهلوانية. نرى غاتسبي، وسيماً كما هو متوقع من دي كابريو، يصعد إلى خزانة كبيرة أعلى غرفة نومه، بينما نرى ديزي ترتمي على الفراش الهائل. ومن أعلى يخبرها هي ونيك بأمر الرجل البريطاني الذي يرسل له أحدث الأزياء مطلع كل موسم، ثم يبدأ يرمي نحوها القصمان الملونة، بحركات سريعة تكاد تكون عنيفة، كأنها صفعات من الجمال الصادم، دون أن يتوقف عن ترديد أنواع الأقمشة النادرة والثمينة، حرير، فانلا، كتّاب، … ولا شك أن المشهد في صورته الكلية يقدم إيحاءات حسيية لا لبس فيها، تكاد تكون جنسية، فإن مجرد حضور الفراش في مركز المشهد من زوايا مختلفة علامة بصرية حاسمة. وفي ثوانٍ خاطفة تشرع ديزي فجأة في البكاء، وهنا يتدخل صناع الفيلم – قام مخرجه بكتابة السيناريو بالتعاون مع كريج بيرس – لوضع قوسين شارحين لعبارتها، على لسان راوي الفيلم نيك كاراوي، حيث يقول إنّ خمسة سنوات تصارعت على شفتيها، دون أن تفلح في النهاية أن تقول شيئاً سوى عبارتها تلك: “يحزنني أنني لم أر شيئاً بهذا الجمال من قبل”. الفيلم هنا يقدّم تأويله الحاسم ويهمس به لأذن المشاهد: إن ديزي تهرّبت من تفسير دموعها لجاتسبي بقول جملة لا معنى لها في الحقيقة.
في نسخة 1974 تبقى جملة ديزي عارية من أي تأويل خارجي، كما وردت في الرواية، دون أن نعرف على وجه التحديد هل كانت تقصدها حقاً أم تهربت بها من التعبير عن مشاعر لا تستطيع هي نفسها أن تضعها في كلمات.
ولكن هل كانت جملتها بلا معنى حقاً؟ فما معنى أن تبكي سيدة مثلها أمام مجموعة من القمصان الملونة، مهما كانت جميلة وثمينة؟ فكأنّ هجمة الجمال التي تلقتها ديزي لا تُطاق. وهو جمالٌ آخر غير جمال الطبيعة الفج غير المصقول، إنه جمال الحضارة والصنعة والمقصد والنية، جمال ليس رخيصاً ولا متاحاً لكل مَن هب ودبّ، بل يكلف آلاف الدولارات. في مشهدٍ آخر من الرواية، يتردد نيك كاراوي في وصف نبرة صوت بنت عمه ديزي، قائلاً: “إن صوتها مفعمٌ بال….”، فيكمل له الغاشق غاتسبي قوله دون تردد، بقوله: “مفعمٌ بالمال، صوتها مفعم بالمال.” هذا هو السلاح الذي عاد به غاتسبي بعد غيابه، المال، عاد يشهره في وجه ديزي ووجه مجتمعها وطبقتها، ديزي، ابنة العز وتربية السراياتالتي تسافر هي وزوجها هنا وهناك دونما استقرار “إلى حيث كان الناس يلعبون البولو، ويعيش الأثرياء معاً في سعادة”.
فماذا يكون رد فعل ديزي أمام هذه الغارات الناعمة عليها، غارات الجمال باهظ الثمن، الذي أتى متأخراً للغاية؟ إنها تغمس وجهها في كومة القمصان التي تناثرت وانفكت طيّاتها المنتظمة الآن، قبل أن تنخرط المرأة الجميلة في نوبة بكائها. ولتفسير دموعها تقول إن السبب هو تلك القمصان نفسها، فإن تلك القمصان الجميلة تدفعها للحزن، ذلك أنها لم ترَ شيئاً جميلاً إلى هذا الحد من قبل.
أي جمالٍ هذا الذي يبكينا؟ كيف يمكن أن يملك الجمال أحياناً من القسوة والشدة بحيث يؤلم ويُحزن ويُبكي؟ أو ربما من الرهافة والهشاشة بحيث يقصف ويجرح ويكسر؟ أتذكر الآن لمسات الحرير التي كانت توجع نفيسة، شخصية نجيب محفوظ التي لا سبيل لنسيانها في رائعته بداية ونهاية، عندما تتعهد بمهمة خياطة ثياب عروس جديدة. نصاً يقول: “امتلأ أنفها الغليظ برائحة الحرير الجديد، وشعرتْ لمّسه وهو ينزلق بين أصابعها بإحساسٍ غريب، فيه اشتهاء وفيه ألم.”
غير أن ديزي ليست نفيسة بداية ونهاية، فهي غير محرومة من الجمال المجلوب بالمال، بل غارقة فيه ليل نهار، لكنّ ما حُرمت منه في الحقيقة هو هذا الحبيب، الضابط الفقير الذي لم تستطع انتظاره لسنوات وهو في الحرب، وضعفت أمام الضغوط، لأن “الفتيات الثريات لا يتزوجن الأولاد الفقراء”، كما قالت له في فقرة أخرى. لكنه عاد، ثرياً ولو بطرقٍ غير مشروعة، يطالب بها ويحاول أن يعيد عقارب الساعة للوراء بنفوذه وثرائه الفاحش.
وقبل أن نبتعد عن خزانة الثياب، فإن ديزي هي أيضاً أرادت أن تدفع عقارب الزمن للوراء، حين طلبت منه قبل أن يرقصا معاً بعد أن يرتدي بدلة الضابط القديمة. تسأله أن يتخلّى عن زينة الطواويس الغريبة عليه ويرجع إلى خشونة الزي الموحد لضباط الجيش. ولا يمكن لهما استعادة الماضي، ولن تكون حكاية غاتسبي بعد مقتله إلا نميمة أخرى وسط صخب موسيقى الجاز في حفلات تلك الطبقة المخملية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*غاتسبي العظيم، سكوت فيتزجيرالد، ترجمة محمد مستجير، دار الدار، الطبعة الثانية، أكتوبر 2005.