عيد الميلاد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش
تمنى (المامون) لو يبقى ممددا في فراشه، مستسلما لكسل صباحي دافئ، ولكن ساعته البيولوجية كانت أقوى!!
وقف أمام المرآة، يصفف شعره بطريقته المعهودة، اهتم بالتفاصيل الأخيرة وراح يتأمل صورته، تفاعلت بداخله أفكار وهواجس خفية وغامضة عندما انتبه للشعيرات البيضاء في مفرقه، رفع رأسه قليلا ونظر إلى التجاعيد في عنقه، نظر إلى الخطوط الرفيعة الداكنة في محيط عينيه، بالتأكيد لم يعد شابا، ولكن وسامته ما تزال صامدة، بدا أنيقا، حليقا كعادته، منحته صورته في المرآة بعض العزاء.

اليوم، تنتهي سنة أخرى من عمره، وغذا ستبدأ أخرى، ولكنه لسبب ما يجهله، قرر هذه المرة ألا يحتفل بعيد ميلاده.

خاطب نفسه.
– ما الجدوى؟

احتفل دوما بعيد ميلاده، فعل ذلك لسنوات، يستدعي شلة الأصدقاء والصديقات، ينتقيهم، يختارهم بعناية، وجوه جميلة، أجساد تسكنها أرواح خفيفة، مرحة، ومنطلقة مثل فراشات، نماذج بشرية من عجينة خاصة، أشخاص دنيويون، يحبون الحياة، يقضمون كعكتها، يمتصون رحيقها بكثير من المتعة ومن غير تردد، في المساء عندما يحضر الجميع، ينظمون جلسة حميمية مليئة بالحلوى، والهدايا، والمفاجئات، جلسة مفعمة بالعواطف، بالهمسات، بالأحضان والقبلات.
صحيح أن الأوراق الرسمية لا تشير إلى يوم محدد، ولا إلى شهر محدد، ولكن بعض الأوراق العائلية تشير لتاريخ ميلاده بدقة، لسنوات كانت تواريخ الميلاد والوفيات إحدى الموضوعات المفضلة لنساء القرية هناك في بلدته البعيدة، ميلاد الأبناء والحفدة وأبناء الحفدة، وفيات الآباء والأجداد، تواريخ غامضة تحيل على أحداث وذكريات أكثر غموضا، مواسم، أعراس، أفراح، أتراح، حروب قبلية، حركات مخزنية، أوبئة، مجاعات، هجرات، مآسي وأحداث مؤلمة.
والدته، كانت تردد دوما وبكثير من الفخر.
– أبوك سجل كل التفاصيل بالتاريخ العربي والتاريخ الإداري!!
تأكد فيما بعد أن تلك المعلومات مقيدة ومضبوطة في سجل ضخم بخط والده، ولكنه الآن لم يعد يهتم بالأمر، العيد ليس أرقاما فقط، ليس حلوى ولا هدايا فقط، ما جدوى الأعياد عندما تفقد الأرواح روحها، وتتحول إلى مجرد صور باهتة، مجرد أطياف وبقايا أطلال تسكنها الريح والفراغ؟

… 
تعمد القيادة عبر المدار الخارجي للمدينة ليتجنب الازدحام واختناقات المرور، كانت الطرق والمسالك شبه مقفرة، انتبه إلى أن الوقت مبكر، ثم تذكر أن اليوم يوم عطلة، مد يده إلى المفاتيح الكهربائية، فتح النوافذ، انزلق الزجاج بضع سنتيمترات، ضغط على المفاتيح ثانية، انفتحت النوافذ أكثر، تسرب تيار منعش إلى الداخل، عب الهواء ملئ رئتيه، إلتفت يمينا، رأى خيوط الشمس تطل من وراء جبال الأطلس قوية ودافئة، للحظات شلت عيناه بخيوط الضوء، استشعر حرارتها تخترق نسيج سترته الصوفية، انتابته مشاعر متناقضة، خليط من الحزن والفرح واللامبالاة.
يسمع صوت العجلات وهي تنساب بهدوء على الإسفلت، كان في منتصف الطريق، عندما انتبه أنه يسير في اتجاه البحر.

تساءل بداخله.

– أهي العادة أم اللاشعور؟
ترتسم على وجهه نصف ابتسامة جامدة، تنمحي ابتسامته تدريجيا، ويحل محلها تعبير يشبه الألم، يتذكر طفولته هناك في مدينته التي يحتضنها البحر من ثلاث جهات، وكأنما يهم بابتلاعها، ينظر للخط الأبيض على الطريق قادما وينسحب إلى الخلف بعيدا مثل لسان خرافي، ينخرط في نوستالجيا قوية، يعود الماضي قويا، عنيفا مثل نهر جارف، تنساب صور الذكريات، تتلاحق، صور بالأبيض والأسود وكأنها شريط سينمائي، يتذكر مساره اليومي إلى المدرسة، محفظته البلاستيكية، و بدلة النايلون الزرقاء، صندلة فرنسا، مطر خفيف، وكز قارس يجمد الأطراف في صباحات المدينة القديمة، مدرسة اليهود، رائحة الحليب المجفف، والخبز المحشو بالشعرية في المطعم المدرسي، السقالة، الحي البرتغالي، الملاح القديم، سينما الريف، دار البارود، مباريات كرة القدم بين (أولاد الخيرية) و(أولاد الزنقة)…
ثم يشعر فجأة بالسعادة، يشرق وجهه، تنفرج أساريره، يستعيد فجأة روحه المرحة، يطلق ضحكة قوية وصادقة، يضحك لمكر اللغة وقسوتها.

يكلم نفسه بصوت مسموع، وكأنما يخاطب شخصا ما.
– هذه بتلك، كانوا ينعتوننا ب(أولاد الخيرية)، ونحن بالمقابل نسميهم (أولاد الزنقة)…أوووه زمااان، والله زمااان!!
يخفف السرعة، ينحرف بسيارته يسارا بهدوء في اتجاه البحر، يتركها هناك تحت ظل النخلة اليتيمة، يتوقف قليلا، يتردد، وكأنما يختار وجهته، ثم يمشي راجلا في اتجاه الشاطئ الصخري، هناك يضرب الموج بقوة، ينكسر على الصخور الحادة، يتطاير الرذاذ، تنفخ فيه الريح، يرتد إلى الخلف، فيرسم شكلا لخيول بيضاء منطلقة وجامحة، يتطاير الزبد مثل نتف الثلج، يستشعر الرذاذ باردا على وجهه، يستشعر ملوحته على وجهه وعلى شفتيه، ينتعش، تنتعش روحه.


يواصل السير، يتجه يسارا، يتوقف أمام نصب تذكاري يحتفي بالمدينة، يقرأ اسم المدينة بسهولة مكتوبا بالحرفين العربي واللاتيني، ينظر لنقوش بدائية، يتأملها، يقدر أنها ترجمة لاسم المدينة بالحرف الفينيقي.
يتابع سيره، ثم يتوقف على بعد خطوات، يرفع بصره إلى لوحة معدنية تزخر بالتفاصيل، تشير إلى موقع أثري لأقدام الديناصورات يعود لملايين السنين، يقرأ المعلومات بشغف، وبكثير من الاهتمام، أزمنة جيولوجية ممتدة، العصر الكاربوني، عصر الكومبري، ما قبل الكومبري، العصر الطباشيري الأعلى، ديناصورات التيوروبوديس، طيور عاشبة، أخرى جارحة، وأخرى لاحمة، تاريخ سحيق يرتد بعيدا إلى ملايين السنين!!
رغم ميوله الأدبية، احتفظ دوما بهذه الروح المنبهرة بتفاصيل العلوم، أسرار، خفايا، ألغاز، انتقالات، طفرات، حلقات مفقودة، ثقوب سوداء، عصور، حقب بملايير السنين، وخط زمني أسطوري يشعر أمامه بالضآلة والهباء.

يفكر.
– ملحمة طبيعية مبهرة يتداخل فيها الخلق والعدم!!
اختار كرسيا إسمنتيا وجلس، أشعل سيجارته، امتص منها نفسا عميقا، حبس الدخان للحظات، ثم حرره، أرسله بعيدا على شكل أعمدة قوية ومستقيمة، وراح ينظر الأفق.
في الجهة العليا من الشاطئ، يضرب الموج بقوة أكبر، يصطدم بالصخور الحادة، ينكسر، يتطاير الرذاذ، ينحشر الصيادون بين الصخور، يمسكون قصباتهم في اتجاه البحر، فيبدو المنظر في كليته  كما لو كان جزءا من لوحة أو مشهد فني.
على الشاطئ الرملي، طفل صغير يوزع وقته بين اللعب بالكرة، ومحاصرة الأسماك الصغيرة في البرك التي خلفها انحسار المد، يبدو الطفل جديا، ومنخرطا تماما، غير بعيد منه، يجلس والده، ترك الرجل البحر وراءه، وانهمك في تشييد قلعة رملية بكثير من المتعة والتماهي.

يفكر (المامون).
– إنهما طفلان رغم فارق السن، أحدهما في الخامسة، والآخر في حدود الخمسين!!
على الشريط الرملي الضيق، وفي نقطة ما، حيث يفقد الموج قوته، تقف فتاة مراهقة بلباس البحر، خلفها تقف سيدة محجبة، أربعينية أو تزيد قليلا، قدر أنها والدتها، تختار الفتاة موجة ما تغطس فيها، تترك الموجة الموالية تمر، وتقفز في الموجة الأخرى، أما والدتها فتغرف الماء بمقدار من الموجات العابرة، بنفس النظام، بنفس العدد، وتجمعه في إناء بلاستيكي.

يبتسم (المامون)، يفكر، يتأمل كيف تتغير فكرة الناس عن السعادة بتغير الظروف والأعمار، يقضي الناس الجزء الأكبر من حياتهم بحثا عن السعادة، يمر الزمن، تمضي أعمارهم، ثم في النهاية يكتشفون أن السعادة مجرد فكرة، وهم جميل، ولكنهم مع ذلك، لا يكفون عن الحلم، يفكرون كما الأطفال، يظنون ان حياتهم يمكن أن تكون أجمل بمجرد تلوينها بشكل مختلف.

عند حدود الموجة السابعة، انسحبت الفتاة من البحر، غادرت، وتبعتها والدتها وهي تشد إلى الأعلى جلبابها المبلل.

استحضر (المامون) المفارقات العجيبة التي تسكن حياة الناس، تحكمهم، تتحكم فيهم، استحضر بداخله سحر الأحلام والأوهام والرغبات، استحضر قوة الأرقام وسحرها، سبع موجات، سبع سماوات، سبعة أبواب، سبعة رجال، سبع سنوات عجاف، سبع بقرات، سبع سنبلات خضر وأخرى يابسات!!

يفكر، يخاطب نفسه.

– غريب هو أمر البشر، قد لا تكون السيدة سعيدة بزواجها، ولكنها تدفع ابنتها دفعا للزواج، قد لا تكون سعيدة بأمومتها، قد لا تجني منها إلا الجحود والنكران، ولكنها تتمنى مجيء حفدة أشقياء، يكسرون رتابة أيامها، ويملؤون عليها حياتها الرتيبة بالضجيج والفرح. 
ثم استحضر بداخله ما يسميه فلسفته الخاصة عن السعادة، فلسفة تخصه لوحده، سعادة هي خليط من الحب، والمتعة، والألم، والأنانية، والرغبة في التملك، سعادة منفلتة وهاربة، تصمد قليلا، ثم في النهاية تتبخر، فلا تترك وراءها إلا إحساسا قاسيا بالمرارة.

ثم قرر أن ينزل إلى الشريط الرملي، يمشي، يسمع وقع خطواته وهي تنغرس في الرمل المبلل، غير بعيد منه وعلى مرمى حجر يلعب الموج لعبة الحياة والموت، بدا هادئا، غائبا، ومنخرطا تماما، تملكه إحساس عجيب، شيء يشبه الرضا والاستسلام.

 لسنوات طويلة كان البحر ملجأ لآلامه وروحه الرمادية، يلوذ به في كل مرة يستشعر حاجته للصمت والعزلة والتيه بعيدا عن ضغوط العمل وضجيج الحياة الاجتماعية، لسنوات طويلة كان البحر بلسما لجراحه التي لا تندمل إلا لكي تنفتح من جديد، جراحات نرجسية تضرب جدورها بعيدا في طفولته الأولى، يغوص عميقا بداخله، يستعيد شريط حياته، يفكر في علاقته بالبحر، علاقة معقدة، يمتزج فيها الحب والرهبة والخوف بالانجذاب لأسباب مبهمة لا يذكر منها إلا رهاب الماء والخوف المرضي من الغرق.

عندما عاد إلى نفسه، توقف قليلا وكأنما تذكر أمرا ما، التفت، كانت المدينة قد اختفت، مد يده إلى جيبه، أخرج سيجارة، مال قليلا تفاديا للريح، أشعلها بصعوبة، امتص منها نفسا عميقا، أرسله بعيدا، بعثرته الريح، تلاشى، استشعر برودة الريح قاسية تخترق تفاصيل جسده، شد إليه ياقة سترته ومضى.

مقالات من نفس القسم