عن “مَرْقَالَة” و”العْمَارَة”.. أو في نوستالجيا المكان مرة أخرى

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد العمراني

“يقول العلماء إن أجسامنا تتكون من ذرات، لكن العصفورة أخبرتني أنها تتكون من قصص وحكايات”  إدواردو غاليانو.

نقف، في قراءتنا لما يُدَوَّنُ على مواقع التواصل وصفحات الجرائد والمجلات، عند كثير من القصص والحكايات المرتبطة بماضي المُدوِّنين والكُتاب؛ وفيها يُفصِحون عن حنينهم لأيام هذا الماضي، ويتحسرون على فواته. وتتعلق سردياتهم تلك – في أحيان كثيرة- بأمكنةٍ تَحُوزُ لها موقعا خاصا في نفوسهم.

ومن فضاءات طنجة التي يتواتر استدعاؤها بكثرة هذه الأيام، هناك شاطئ صغير يُطِلُّ على الساحل المتوسطي للمدينة ( يتخذ له موقعا وسطا بين ميناء المدينة ورأس سبارطيل) مُشتهرا بين الناس باسم محلي هو مَرْقَالَة.

وبالرغم من أشغال الإصلاح والتهيئة التي عرفها هذا الشاطئ والمساحة المحيطة به في العقدين الأخيرين، إلا أننا نقف على الناس وهم يعبرون عن حنينهم القوي لحالته التي كان عليها قديما (على بساطتها وهشاشتها).

وبوصفي واحدا من الذين جاوروا مرقالة ذات زمن – في سنوات طفولتي الأولى – فإنني أتشارك مع الناس جزءا من حنينهم ذاك، ( يصفنا أحد الأصدقاء بجماعة “قفا نبكي..”). وفي هذا السياق  أٌقول إنني ما زلت محتفظا بكثير من التفاصيل المتعلقة بهذا الفضاء العجيب، كما بعيش الناس الذين أحاطوا به في سكناهم.

ومما أذكره من تلك التفاصيل، أن موسم الاستجمام والسباحة فيه كان ينطلق مبكرا – مقارنة بالشاطئ البلدي مثلا (البلايا) – وبالضبط مع دخول شهر ماي. إذ ومع نهاية فصل الربيع وبداية ارتفاع درجات الحرارة، تبدأ أفواج الأطفال والشبان في التَّقاطُرِ على الشاطئ من أحياء الدرادب وأزقة حي “الجْمَاعَة” المختلفة. ويُنجِز هؤلاء وأولئك الأمر طلبا للترويح عن النفس، ورغبة في قضاء أوقات سعيدة؛ مدفوعين في ذلك بحماس الشباب، وبمُباركَةّ غير مُعلَنَةٍ من الأمهات ( لعلهن يَنْعَمن – في غياب فلذات الأكباد – ببعض الراحة والهدوء).

ولا تسألني عن تكلفة عملية الاستجمام، أو متطلبات التجهيز لها، إذ لم تكن المسألة تحتاج لأكثر من قرار يتخذه مُتَزَعِّمٌ  المجموعة في الحي، ليرتدي الأطفال “مَايُوهاتهم” البسيطة، ومن ثم ينطلقون. أما ما عدا ذلك من ملابسَ أو أدوات، فلم يكونوا في حاجة إليها، اللهم ما انْتُعِلَ من أحذية خفيفة؛ – هذا إذا بعدت المسافة – يَقُونَ بها باطِنَ الأقدام من خَدْشِ الأشواك وقِطَعِ الزُّجاج المنتشرة في الممر – غير المُعَبَّد – الذي يؤدي إلى الشاطئ.

ومن دون اتفاق مُسْبَقٍ، كانت مناطق السباحة تتوزع بين مرتادي مرقالة بحسب أعمارهم ودرجة تَمَرُّسِهم فيه. وهكذا، كان الصغار – بين السابعة والعاشرة – ومعهم باقي الأسر يكتفون بالمنطقة الرملية، إلى الصخور الصغيرة التي تَحُدها (الشّنْقُوب)، فيما كان الكبار والخبيرون بتضاريس الشاطئ يبتعدون قليلا، وصولا إلى صخور “الزْهَانِي”، حيث يتمتعون بنقاوة المياه و”طواجن التَّاكْرة” وموسيقى المغني الجزائري “دَحْمَان الحَرًّاشِي”. على أن هناك منطقة بعيدة عن باقي مكوناته، كانت محجوزَةً لمن زادت خبرته وجرأته من السباحين؛ وهي منطقة “الكَرْيَان” وصخورها المرتفعة والخطيرة.

ولم يكن يوم المصطافين ينتهي إلا مع غروب الشمس، لتبدأ رحلة العودة التي يخوضونها أفرادا وجماعات. لكن، وقبل وصولهم إلى بيوتهم، كان الأطفال ومن توسطت أعمارهم من الشبان، يُنْجِزون تَوقُّفًا ضروريًّا في مسارهم ذاك؛ وفيه كانوا يؤدون طقسا دأب عليه السابقون واللاحقون من رواد مرقالة. فكنت تراهم يصطفون أمام حنفية عمومية ” سَبِيلا” (كانت تقع أسفل حومة الواد*)؛ منتظرين حلول الدور للحصول على حمام بارد؛ يتخلصون به من ملوحة مياه البحر، ومما علق بأجسامهم من حبات الرمل.

ومتميزا في ذلك عن باقي الشواطئ والمنتزهات، لم يكتف “مرقالة” بأداء دور فضاء عادي للسباحة، بل مثًّل – ولزمن طويل- محور حياة السكان في الأحياء المجاورة له؛ يُؤْنِسُهُم في معيشِهم صيفا وشتاء.

ومن الأحداث العديدة التي ارتبطت بذاكرة الناس عن هذا الشاطئ الفريد في الماضي، أذكر واحدا كان حدوثه يتكرر أكثر من مرة في السنة، لينشغل معه جيرانه، ويجذب اهتمام شبابهم بقوة؛ وأعني به ما عُرِفَ بِ “ضَرْب العْمَارَة”.

وليس المقصود ب”العْمَارة” هنا ما اشتهر لدى المغاربة من مناسبات ومهرجانات يختلط فيها الديني بالاقتصادي والاجتماعي، ( يُطْلَقُ عليها لفظ مُوسْم كذلك، وهي تُنَظم تخليدا لذكرى أحد الأولياء صيفا، أو تزامنا مع ذكرى المولد النبوي) وإنما عُنِيَ بها عملية صيد يتم الاستعاضةُ فيها عن أدوات الصيد التقليدية بأخرى جديدة؛ إذ هي حَشْوَةٌ مُتَفجٍّرِةٌ تُعَدُّ يدويًّا، ثم يُلْقَى بها من طرف أحد الرجال وسط البحر.

ولأن إعدادها وتفجيرها يُعَد فِعلا مُجَّرّمًا قانونًا، فإن الظروف المحيطة بإجراء “العمارة” اتسمت بكثير من الحذر والانتباه الشديد، إذ غالبا ما كان يتم اختيار المساء (قُبَيلَ نُزُول الظلام) زمنا للقيام بذلك.

أما عن خبر التنفيذ وتوقيته، فكان محصورًا بين أفراد معدودين، لكنه لم يكن ليخفى عن شباب وسكان حَوْمَة الواد، إذ كنت تجدهم أول من يهب خلف صاحب “العمارة” نحو الشاطئ. هناك يتابعون معه طقوس الإعداد لها، قبل أن يلج بها البحر؛ يحملها بيد واحدة، فيما يشق بيده الأخرى طريقه وسط الأمواج، ليرمي بها بعيدًا، ثم يعود أدراجه سابحا بسرعة.

وفي انتظار نُفُوقِ الأسماك وصُعودها للسطح، كان الرجل يتخذ له موقعا في زاويةً من المساحة الرملية، مُحَاطًا بأصدقائه ومساعديه، وجَمْهَرَةٍ من الأطفال والرجال المتحفزين.

وكما اعتاد الصيادون، فقد كانت غِلَّةُ الصيد تتفاوت في مقدارها بين يوم وآخر؛ تبعا لعامل الحظ وحالة البحر وتقلباته (على أن الفْرَاجَة* كانت نادرة). لكن نوعا خاصا من السمك قَلَّ أن عَدِمْنا حضوره ضمن الغنيمة المُحَصلة في كل مرة، ألا وهو سمك “البُوري”.

ولعل أول ما يتبادر إلى ذهني اليوم عند تذكر “العمارة” ومُفَجِّريها، هو نظرتي – وأنا طفل صغير- إلى أولئك الرجال، فقد كنت أراهم أبطالا خارقين، يأتون ما لا يستطيع باقي الناس القيام به.

ومن الصور التي مازالت تحتفظ بها ذاكرتي لأحد المعنيين بهذا النوع من الصيد؛ ( أتحدث عن نهاية السبعينات وبداية الثمانينات) أنه كان شابا قليل الكلام، يوحي مظهره بالغرابة والغموض، مع كثير من الشجاعة، خصوصا وأنه كان ينجز عمله بيد واحدة (لعجز أصاب كف يده الثانية). وكان مما يزيد استغرابي حول هذا الرجل، أنه لم يكن يقاوم مشاركة الدخلاء له فيما يحصله من صيد.

………………………………..

*مرقالة: شاطئ صغير محاذي لحي “الدرادب”، يربطه بميناء طنجة المدينة كورنيش، يمثل في السنوات الأخيرة فضاء جميلا لهواة المشي والتنزه.

*العْمَارة: حشوة متفجرة كانت تستعمل من طرف بعض الصيادين في ما مضى، لكن بعيدا عن أعين السلطات لأنها محظورة.

*حومة الواد: حي صغير وبسيط ضمن منطقة الدرادب بمدينة طنجة المغربية ( تفصله عن مرقالة عشرات الأمتار). وسمي كذلك لوقوعه قرب مجرى واد اليهود قديما.

*طْوَاجْن التَّاكْرة: جمع طاجين، والتاكرة أكلة شهيرة من السمك تُعَدُّ في مدن الشمال المغربي.

*دَحْمَان الحَرًّاشِي: مغني شعبي جزائري حقق شهرة واسعة في المغرب بين المراهقين والشباب في عقدي السبعينات والثمانينات. وكان ذلك قبل ظهور موسيقى الراي.

*الفْرَاجَة: كلمة من معجم الصيد التقليدي المحلي. ويقصد بها وقوع الصيادين على يوم حظهم فيكون الصيد وفيرا، ومعه أجواء الفرح والاحتفالية.

مقالات من نفس القسم