عصارة العلاقات الإنسانيَّة.. قِرَاءَةٌ في مجموعةِ (البَحْثُ عن الوَليِّ) لمحمود صلاح

 علاء يونس

صدرت عن كتاب الرَّافِدِ فبراير 2025 المجموعة القِصصيَّة (البَحْثُ عن الوَليِّ) للكاتب محمود صلاح، حيث تتداخل قصص المجموعة، لتقدم لنا عصارة العلاقات الانسانيَّة، التي تتمازج وتتشعب وتلتقي في إطارٍ مِنَ الحياةِ والموتِ، بخطوطٍ مُتصلةٍ ومُتماسكةٍ وكأنَّها حدود هذا الكون.

 يحملُ عنوان القصّة الأولى “مُنطلق” دلالةً رمزيَّةً قويَّةً تتعارضُ مع واقعِ بطلها، الفيل الصَّغير الَّذي وِلدَ في الأسرِ، فبينما يُوحي الاسم بالحريَّةِ والانطلاقِ، نجدُ أنَّ مُنطلق مقيَّدٌ داخل القفص، ممَّا يخلق مفارقةً تعكس الصِّراع الأساسيَّ بين الرَّغبةِ في التَّحرُّرِ والواقع المفروض.

تبدأُ القِصَّةُ بوصفٍ دقيقٍ لروتين الحارسِ اليوميِّ وعلاقته بالحديقة، فتُرسِّخُ الإحساس بالرتابةِ والقيود، تتصاعد الأحداث عندما يُولَدُ الفيل مُنطلق، ويُظْهِر اختلافهُ عن أبويْهِ الهادئين، إذ يبدو أكثرَ فضولًا وتمردًا.

يتحرك الكاتب بمهارةٍ نحو التَّحوّل التدريجيّ لمُنطلق، من فيلٍ صغيرٍ يتفاعلُ مع الأطفالِ بلطفٍ، إلى فيلٍ بالغٍ يرفضُ الحدودَ ويثورُ عليها، يُحيله هذا إلى تَقْييدِهِ بالقوةِ، فيتحوَّل التوَتر إلى أزمةٍ تُؤدِّي إلى ترحيلهِ من الحديقةِ، يختفي لفترةٍ قَبْلَ أن يُعادَ اكتشافه في البَرّيَّةِ، قائدًا لقطيعٍ مِنَ الفيلة.

تَحْمِلُ الأحلام في النَّصِّ دَلَالَاتٍ نَفْسِيَّةً، تِعكسُ حُلْم الأب بالمفاتيحِ والمَلابسِ المُتَغَيّرَة، كالتَّغيُّراتِ التي تَطرأُ على وَعْيِ الرَّاوِي تجاه حياتهِ وعملهِ.

يُمَثّلُ “مُنْطَلَق” الرُّوح المُتَمَرِّدَة، في مُقابل الحَارس الَّذي يبقَى مكانه يراقب الرُّوح الَّتي لا تَرضىَ بالأسرِ، فتُوَاصِلُ سَعْيَهَا حَتَّى تَجد حُرّيَّتَهَا في النِّهاية.

في القِصَّةِ الثَّانية “خرطوم الماء” يَتحوَّل الخُرْطُوم مِنْ أدَاةٍ للريِّ أو التنظيف، إلى عُنْصرٍ يتداخل مع المصير، وكأنَّه نَذير أو مؤشر على الموت، هذا الرَّبْطُ بين الشيء العاديِّ والحَتْمِيَّةِ القَدَريَّةِ يُضفي على القصة طابعًا سحريًّا غامضًا، كما أَنَّ الشَّخصيَّات الَّتي تَظهَرُ في مسرح الأحداث، وهو المَقَابر، تُعمِّقُ هذا الطابع.

“العجوز” تُمَثِّلُ دور الرَّاوي الشعبيَّ يَنقلُ الحِكاياتِ والخُرافاتِ، وهي الرابطُ بين الماضي والحاضر، تعكسُ حكاياتها عن خُرطوم الماء المُعتقداتِ الشعبيَّةَ بالغَيبِ والقدر. “الفتاة” شخصيةٌ تحملُ المأْساةَ الكلاسيكيَّةَ، حيثُ تسعىَ للحياةِ لكِنَّهَا تَجدُ نفسها ضحيَّةَ قَدَرٍ غامضٍ. “التُّربي” هو الوسيط بين الحياةِ والموتِ، وهو الذي يُنفِّذُ عَمَليَّةَ الدَّفْنِ ويُعِيدُ إكْمَالَ الحلقةِ التي بَدَأَتْ لحظةَ انقطاعِ الماءِ. وأخيرًا “المقبرةُ” وهي ترمز إلى الحتميَّةِ، والمكان الذي يربط كُلَّ الأحداث ببعضها البعض، ويَظَلُّ في الخَلْفِيَّةِ كمصيرٍ ينتظرُه الجميعَ.

يستخدم الكاتب لُغةً تتزاوجُ بين الواقعيَّة والسَّرد الغامضِ الَّذي يَمِيلُ إلى الأسطورة، مِمَّا يُحِيلُنَا إلى قصَّةِ “طالعةِ النَّخلْ” وهي القصَّةُ التَّاليةُ. فكلمة “طالعة” تحملُ دلالةَ الصّْعُودِ والارتقاء، لكنَّها في الوقتِ ذاتهِ، تُلمِّحُ إلى العُزْلةِ والغموض الَّذي يُحِيطُ بالشَّخْصِيَّة وهي تتجاوزُ الحدودَ الاجتماعيَّةَ المرسومةَ لَهَا، حاول فيها المُؤَلِّفُ خَلْق اُسْطُورَتِهِ الخَاصَّة في ذات المرأة القويَّة التي امتهنت مِهنَةً صعبةً احتكرها الرجلُ وهي تَسلُّق النَّخْل، وأصبحت شَخْصِيَّةً شِبْهَ خُرَافِيَّةٍ بعد اختفائها الغامضِ. الحبكة تُرَكّزُ على تَحَدِّيهَا للمألوف، عَلَاقَتِهَا بالعَالِيَةِ، وحِكَايَاتِهَا الَّتي عَلِقَتْ في أذهانِ أهل القرية، خَاصَّةً الصِّغَار الَّذينَ ظَلُّوا يُرَدِّدُونَ روايتها رغم إنكار الكبار.

 هناك أيضًا حضورٌ قويٌّ لمفهومِ الأسطورةِ في العلاقة بين الإنسانِ والطَّبيعَةِ، إِذْ تَظْهَرُ “العَالِيِةُ” كنخلةٍ شاهقةٍ تبتلعُ أسرارها، ليست مجردَ شجرةٍ بل كيانٌ يحملُ رمزيَّةً خاصَّةً، فهي مُرتفعةٌ جدًا، غامضةٌ، وتُمثِّلُ الحدودَ الفاصلةَ بين الممكنِ والمُستحيل، بين الحياة والموت، وآخرَ محطَّة في رحلةِ البطلةِ الَّتي يُصبحُ اختفاؤها جزءًا من الحكاياتِ المتوارثة.

الزَّمنُ في النَّصِ دائريٌّ؛ إذْ يبدأُ بالسُّؤَالِ عن سِرِّ البلح المُتَسَاقِطِ، ثُمَّ يعودُ إلى الماضي، ليكشفَ مسيرةَ البطلةِ، ثُمَّ يعودُ إلى الحاضرِ حيثُ يتكرَّرُ سقوط البلح، كَأَنَّ الحدثَ يُعِيدُ نفسهُ عَبْرَ الأجيال.

في القصَّةِ الَّتي تُعنْوَنُ المجموعةَ بها “البحثُ ِعن الوليّ” يتخذُ النَّصُ من المولد الشَّعبي خلفيَّةً مكانيَّةً وزمنيَّةً، لكنَّهُ لا يبقى حبيسًا للوصفِ الواقعيِّ فقط، بل يتجاوزُ بالبحثِ عن “الوليّ” من مجردِ رحلةٍ جسديةٍ إلى البحثِ عن المعنى، وصراعٍ بين الشَّكِ واليقين، فالشَّخصيَّة المحوريَّة تعيشُ حالةً من التَّردُّدِ بين رفضِ الموروثِ والارتماءِ في أحضانهِ، وهو ما يظهرُ في ردودِ أفعاله تجاه الدَّرويش الغامض، الَّذي يمثِّل صوتَ القدر أو الحكمة المُتوارية خلف العبث الظَّاهريِّ، كما أنَّ طفولتهُ وتجاربهُ السَّابقةَ تعودُ إليهِ في كُلِّ تفصيلةٍ داخلَ المولد، من شراءِ الحلوى إلى رغبته في اللَّعب في نصبة النِّشابِ، وهذا يبرزُ الصِّراعَ بين البراءةِ القديمةِ والوعيِ الرَّاهنِ، كذلك فإنَّ مشاعرَ الرِّيبة نحو الدَّرويشِ تعكسُ عدم يقينهِ بما هو مُقَدَّسٌ، حتَّى تأتي لحظةُ الكشفِ عن سِرِّ الرِّسالةِ الَّتي حاول الدَّرويشُ إيصالها إليهِ.

اعتمدَ الكاتبُ على وصفٍ بصريٍّ دقيقٍ، إذ ينقلُ مشاهدَ المولدِ بألوانه وأصواته وروائحه، مِمَّا يجعلُ القارئَ يشعرُ وكَأَنَّهُ جزءٌ من الحدث، فوصفهِ الحي للأكشاكِ، الحلوى، الدَّراويش، وأصوات المنشدين، يعكسُ مهارةً في خلقِ بيئةٍ نابضةٍ بالحياةِ، مع وجودِ لغةٍ تحملُ طابعًا شِعريًا في بعضِ المواضعِ، فيضفي على النَّص لمسةً وجدانيةً تتناسبُ مع طبيعةِ المولدِ كفضاءٍ روحيٍّ.

مَثَّلَ المولد كمكانٍ للحياةِ بكلِّ تناقضاتها، فيهِ الفرحُ والاحتفالُ، لكنَّهُ أيضًا مسرحٌ للموتِ والثَّأرِ.

الدرويشُ الغامضُ، قد يكونُ رمزًا للقدرِ أو الحكمةِ الخفيَّةِ الَّتي لا يُدركها الإنسان إلا بعد التَّجربة.

النِّشَّابُ والبندقةُ، تمثِّلانِ فهمًا مزدوجًا، من جهةٍ هما متعةٌ طفوليَّةٌ، ومن جهةٍ أخرى سلاحٌ حاسمٌ يُغيّرُ مجرى الأحداث.

الرائحةٌ القويَّةُ الِّتي خَلَّفَهَا الطَّيفُ هو الأثر الرُّوحيُّ العميقُ الَّذي يتركهُ الوَليُّ أو الحقيقةُ الَّتي لا تُدرَكُ إلَّا بعدَ فَواتِ الأوان.

على الرَّغمِ من أنَّ المولدَ هو حدثٌ دَوريٌّ يُقامُ سنويًا، إلَّا أنَّ النَّص يجعلهُ مساحةً زمنيَّةً غامضةً، تتداخلُ فيها الأزمنةُ، فالبطلُ يستعيدُ ماضيه ويواجه واقعهُ، ويحاول اكتشافَ مستقبلٍ ما من خلالِ البحثِ عن الوليِّ، فيتحوَّلُ المكانُ إلى عالمٍ روحيٍّ مَلِيءٍ بالدَّلَالَاتِ، وتصيرُ كل خطوةٍ داخلَ المولدِ إلى انتقالٍ بين العوالمِ، ففي المولدِ رحلةٌ للبحثِ عن الذَّاتِ قبل أَنْ تكونِ مُجَرَّدَ بحثٍ عن شخصيَّةٍ صُوفِيَّةٍ غامضةٍ.

استطاعَ محمود صلاح في كُلِّ سطرٍ يخطهُ، أنْ يخلقَ عالمًا لا يُشْبِه إلَّا خيالهُ، شخصيَّاتهُ ليستْ مجرَّدَ ظلالٍ تمرُّ عبر الورق، بل أرواحٌ تتنفَّسُ بين الكلماتِ، تقفُ على عتباتِ الممكنِ، لكنَّها في ذاتِ الوقتِ تطرقُ أبوابَ المستحيلِ، هُمْ غُرَبَاءُ عن الواقعِ بقدرِ ما هُمْ يتَجَذِّرُونَ فِيهِ، يَعْبرُونَ الأزمنةَ دونَ أنْ تَفْقِدَهُمُ الأيَّامُ ملامحهُمْ.

في عالمهِ، الحديقةُ ليستْ رقعةٍ خضراءَ، بل ذاكرةٌ حيَّةٌ تَستَدعي من يشتاق، والمكان ليس مجرد مسافةٍ، بل خيطٌ بين الماضيِ والحاضرِ، يشدُّهُ الحنينُ نحو ما لا يعود، والشَّخصيَّاتُ هي انعكاسٌ لكلّ مَنْ شعر يومًا أنَّ العالمَ يتغيَّرُ دونَ أَنْ يُؤخذَ رأيهُ، لكلِّ مَنْ رَأَى الحقيقةَ تحتَ قِناعِ الوهمِ، ولكُلّ مَنْ وجدَ نفسهُ في قصَّةٍ لَمْ يكتبها بنفسهِ، فالكاتبُ وحدهُ مَنْ يمنحهم هذا الحقَّ، ليكونوا كما يجب أَنْ يكونوا، غرباءَ في عوالم مألوفةٍ، وحقيقيّينَ في عوالم من خيالٍ، لتصبح القصَّة ليستْ سرد لحكايةٍ، بَلْ رحلةً تَأَمُّلِيَّةً في زمنِ الهويَّةِ والمَصير، تجعلُ القارئَ يُعِيدُ النَّظرَ في معنَى العبورِ والتَّغيّر في حياتهِ الخاصة.

 

 

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع