عربة كارّو

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 23
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.مصطفى عطية جمعة

      قيظ ظهيرة في صيف ملتهب، يسير بعربته الكارّو، تجاه مسجد الروبي، وصل الميدان الفسيح، سخونة الأسفلت تلسع قدميه، مخترقة نعله الجلدي، آثر الابن الجلوس على العربة الخشبية، وأبوه يدفع الحمار الذي يجرّ العربة، ويضربه بحزام جلدي معلق في يمناه. الأب لاهٍ عن نتوءات الشارع، فيما استمتع الابن باهتزازات العربة. يقترب من سور المسجد الحجري، تسلل الباعة إلى ساحة المسجد الداخلية، أملا في الظل.

خلف المسجد، أوقف “رجب” عربته جانب السور، مصطفة مع عربات أخرى، وربط حماره إلى حجر ناتئ، واضعا أمامه كيس العلف الناشف. اتخذت العربة هيئة مثلثة: ذراعاها الخشبيتان إلى أعلى، وطبلية التحميل إلى الأسفل، نزل الابن “إبراهيم” ذو الأعوام الثمانية إلى أسفل الطبلية، ابتسم “رجب”، يدرك أن الشمس أولعت رأس نجله، فلاذ بظل العربة. مدّ إبراهيم يده إلى صندوق مثبت أسفل الطبلية، ليخرج جوالا قديما، ثم فَرَشَه، وتمدد عليه. ابتسم الأب، يعرف عادة ابنه أن يغط في الظهيرة.

    تسلل الأب إلى “ميضأة” الجامع، ومنها إلى ساحة المسجد، والمياه تقطّر منه، اصطف في جماعة لصلاة الظهر، ومعه عدد من “العربجية” الذين صفّوا عرباتهم خارج السور.

    حين عاد رجب إلى عربته، اضطر أن يمدد قدميه خارج الظل، جاعلا رأسه جانب ابنه، الذي ارتفع تنفسه المنتظم مطبقا جفنيه. تخايلت زوجته وطفلته ذات الأعوام الثلاثة في قرية “الزاوية”، التي يقطع مسافتها في ساعة عقب صلاة الفجر، وقبل أن تلسع سهام الشمس وجهه. يتذكر نصيبه من بيت أبيه.. غرفتين متداخلتين، أما دورة المياه فهي مشتركة بين باقي الإخوة، الذين اقتسموا طابقي البيت، وانفردت أمهم بغرفة في المدخل. يغيب الرجال عن البيت طيلة النهار، رجب بعربته إلى البندر، وأخوه محمود “نجار مسلح” يتعلق بسيارة نقل عمال التراحيل حسبما يأخذهم المقاول، ويكدّ الأخ الثالث عبد العالي في الغيطان.

    يضحك، وهو يتذكر الاتفاق اليومي مع “أم محمد ” بائعة الخضار، يحمل مقاطفها المربوطة بإحكام على أكوام من المقدونس والفجل والجرجير والكراث والبنجر. مسكينة أم محمد، عليها أن تسابق الفلاحين في الاستيقاظ قبل أن يرفع شيخ الجامع آذان الفجر، تحلف له كل يوم وهو يحمّل خضارها على عربته :

– والله يا “بو إبراهيم” كنت في الغيط والقمر منوّر في السماء، وصاحب الغيط يحشّ الخضرة، وأنا أعبئها في المقطف.

يضحك رجب ويداعب هذه السيدة التي تكدّ على ثلاث بنات وولد :

-ولكن القمر يختفي في ليال كثيرة.

 تضحك أم محمد وتبدو ثنياتها وتهمس :

 – ادع لي يا رجب، يرجع أبو العيال من ليبيا، ويريحني من الهم.

يتمتم رجب بدعاء العودة بالسلامة. كم حكت له أم محمد عن الزوج الذي يعمل فلاحا في مزرعة في صحراء الجنوب الليبي، غاب سنتين وعاد للبلد ليلا، خالي الوفاض، وهو يسب الذين سرقوا ما جمعه.

 – وسافر مرة ثانية يا أم محمد ؟.

 ترد وهي تمسح دمعة أفلتت من مقلتين أحكمت السنون قبضتها، فتحجر الألم فيهما، وأفلحت في تزويج بنتين، وأن يكمل محمد تعليمه إلى الثانوية. ترد بعطف، وهي تتذكر زوجا امتزجت الطيبة والهموم في سحنته :

– نعم يا رجب، مسكين زوجي، الدنيا ضاقت به هنا وهناك، والولد محمد يكد في الغيطان باليومية، ويقول  لي : أكسب مصروفي بعرقي.

– ألم تأت أخبار عن زوجك.         تتنهد، وتبتسم بصفاء :

– ربنا يرجعه بالسلامة.

على طبلية عربته الخشبية، تسند أم محمد رأسها إلى مقطف كبير، تغفو، بجانبها يجلس إبراهيم، يأكل شطيرة خبز مغطاة بجبن وزبد، أخذها من أمه.

                                  ******

       فتح إبراهيم عينيه، متطلعا لأبيه الذي أخذته سِنةٌ…، ثم انتبه على حركة إبراهيم، همس الابن :

  • سأشتري سندويشات من مطعم ” قرني “.

مدّ رجب يده بنصف جنيه، فطار الابن بها، دقائق، والتفّ الاثنان على قرطاس ” طعمية “، وأرغفة ساخنة، وسلطة طماطم وبصل وفلفل، وأخرج رجب من الصندوق تحت العربة ربطات جرجير وفجل، أعطتها أم محمد له في الصباح. ملأت رائحة الطعمية أنفيهما، وهما يشكّلان من الأقراص الساخنة والسلطة والأوراق الخضراء لقيمات.

– يا رجب، خذ الشاي.

كان عامل المقهى واقفا بصينية أكواب الشاي، يبيعها للعربجية المصطفين جانب الجامع. تناول رجب الكوب الساخن، ثم ناول العامل خمسة قروش.

مع رشفات الشاي..، يهمس الابن :

  • اكتب اسمي يا أبي.

انتبه رجب لطلب ابنه الذي بات يكرره كل يوم، فواصل الابن :

  • أتعلم كتابة اسمي على الورق، مثل عيال البلد.

تذكر الأب سني صباه في كتّاب القرية، حين كان يعلّمه ” الفقي ” آيات الذكر ومبادئ الكتابة. ابتسم الأب، فأسرع الابن بإحضار قطعة كرتون، وأخرج قلم “كوبيا ” من الصندوق. ثبت ” رجب ” أنامله على الكرتون، وضغط بقوة على القلم مسجلا : ” إبراهيم رجب إبراهيم خضر “. سرعان ما أمسك الابن القلم، وراح يكتب اسمه. ويتمتم :

  • نفسي، أروح المدرسة مثل عيال البلد.

وخزة في أعماق الأب، ” يروح الولد المدرسة، ويتركني أشيل بضائع الناس وأكدّ لوحدي “.. كررها الابن بصوت عال. يعلم الأب أن الولد تجاوز سن المدرسة بعامين.

  • أنت تساعدني، وأنا أعطيك يومية.. جنيها كل يوم يا إبراهيم.
  • أروح يا أبي، وسأساعدك..

أشرق وجه الأب..، ضحك الابن، ستزغرد أمه التي كانت تدعو أن تراه مهندسا أو دكتورا، ومعه الشهادة الكبيرة.

                                  ******

     مرّ على سوق الخضار، وضعت أم محمد مقاطفها الفارغة، ستغفو كعادتها، وهي تتمتم:

  • سأصحو مع “القمراية”، وأحشّ الخضرة إن شاء الله.

بجانبها، إبراهيم يحلم بالمريلة الصفراء، والشنطة الجلدية، والكتب الملونة.

رجب منهك، بعد يوم متكرر، يتنقل فيه بين الأسواق والبيوت.

مقالات من نفس القسم