عبث

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علقمة بونار

داخل مقهى قروي تعطره رائحة الشقوفة الممزوجة برائحة البن؛ أجلس متجاهلا تلك النظرات التي تحاصرني من كل جانب. أحدهم يؤبد نظره علي؛ عله يجد وجه شبه بيني وبين واحد من سكان هذا القطر المتخلف من الوطن.

مرات كثيرة تجرأ أشخاص لم يستطيعوا الصبر؛ وسألوني من أكون؟ أجيبهم بلا مبالاة.. ثم أنصرف باصقا على وجوههم في خيالي.

أزيح الجريدة جانبا، بعدما أطالع موضوعات تافهة تبعث على الغثيان؛ لأرتشف قطرات تتخللها مرارة مغرية؛ لكنها ليست بمرارة هذا الوطن؛ الذي تختزله عيون تلك الشقراء على التلفاز؛ توزع أخبار القتل والدمار ككل يوم؛ لست أدري لماذا يختارون الجميلات لنقل أخبار تضج بالدماء والعنف؟

هدأت النظرات من حولي؛ يبدوا أنهم تناسوا أمري؛ لكن أحدهم ما زال يقلب نظره تجاهي بين الفينة والفينة.

أكتب سطورا عن هزيمة العرب في المونديال؛ ثم أمسحها؛ إنه أمر لا يستحق الاهتمام..

فاشلون نحن في التعليم؛ فاشلون في الفكر؛ فاشلون في السياسة؛ فاشلون في الاقتصاد.. ولذا؛ من الجنون تعليق أمل الفوز؛ على فريق تلك أوصافه؛ وإذا عرف السبب بطل العجب.

أكتب بعضا من ذكرياتي؛ لكني أقوم بمسحها هي الأخرى.

إننا حين نكتب ما نسميه ذكرياتنا؛ نؤلف قصصا عن ماض ينتابنا الحنين إليه وحسب. نوهم القارئ أن تلك ذكرياتنا؛ بينما هي في الحقيقة أعمال متخيلة؛ لأنه يصعب أن نحكي كل شيء؛ وأن نتذكر كل شيء.

ثم إن ذكرياتنا واسعة شاسعة؛ يصعب الإلمام بأطرافها؛ وإذا نحن كتبنا جزءا منها أقبرنا باقيها.

لن أكتب إذن؛ لا رغبة لدي في الكتابة بقدر رغبتي في الإنصات إلى مواويل ميمون الوجدي التي تذكرني بإحداهن.. كانت تحفظ كل أغان الوجدي؛ رغم صوتها المبحوح إلا أنها كانت تلح في الأداء؛ لتجعلني أضحك ملأ طاقتي.

بدأ الناس يتوافدون على المقهى؛ يبدو أن مباراة ما على وشك الانطلاق؛ وأن الناس على موعد مع رؤوف خليف أو الشوالي بتعليقاته التي تتنوع فيها المقامات بين النقد أحيانا والإطراء أحايين أخرى.

يهتم الناس بالمعلقين أكثر من مجريات المباراة؛ تستهويم اللغة وتستمليهم الأساليب العازفة على وتر العاطفة.

لا عجب؛ فنحن أمة تعشق الخطباء؛ وتلقي إليهم بكل ما لديها؛ ولا نحسن شيئا إحساننا الخطابة؛ حتى إنه ليصدق فينا أننا ظاهرة صوتية.

طال مكثي داخل المقهى الذي إخاله قريبا من السقوط؛ لكثرة الجثث المكدسة داخله. ولذا قررت لفظ نفسي خارجا؛ حيث بدت الطبيعة تموج في فوضاها؛ غير آبهة بهؤلاء التعساء المتسكعين في حقول الكيف يبغون حياة رغيدة كتلك التي سمعوا عنها..

لست أدري لماذا فقد هؤلاء البدويون ابتسامتهم التي كانت عنوان بساطتهم يوما ما. أتكون صروف الدهر بهذه الحقارة التي تجعلنا ننسى فطرنا وسجايانا؟

إننا بحق فقدنا فطرنا بل حتى أنفسنا؛ لم نعد كما كنا؛ فقدنا إحاسيسنا ومشاعرنا؛ تهنا ولم نعد نرى إلا عالما تؤطره المنافع ويحكمه العبث.

العبث؛ نعم؛ العبث في كل شيء؛ في المشاعر والفكر والدين؛ العبث في كل شيء؛ حتى إنه ليصح أن أنقول إن الإنسان صار حيوانا عابثا.

مقالات من نفس القسم