حاوره: عماد فؤاد
منذ ظهوره الأول منتصف تسعينيات القرن الماضي في قلب القاهرة، بقصصه القصيرة التي تنافس الشِّعر على لغته، لم يتوقف طارق إمام (مواليد 1977)، عن إدهاشنا لحظة بقدرته المستمرّة على التجريب، عوّدنا على عوالمه الخيالية ولغته المكتوبة برصانة الحكيم. وإن لم تخل من رعونة الشاعر، عرف كيف تُشقُّ الطرق الجديدة في الكتابة، فقدم أعمالاً وضعته في مقدّمة مجايليه: 3 مجموعات قصصية لافتة “طيور جديدة لم يفسدها الهواء” (1995)، و”شارع آخر لكائن” (1997)، و”حكاية رجل عجوز.. كلّما حلم بمدينة مات فيها” (2010). لم يقتصر منجز طارق إمام في مشواره مع الكتابة على القصص القصيرة، بل قدّم أعمالاً روائية مهمّة: “شريعة القطة” (2003)، و”هدوء القتلة” (2007)، و”الأرملة تكتب الخطابات سرّاً” (2009)، و”الحياة الثانيّة لقسطنطين كفافيس” (2012)، وأخيراً روايته “ضريح أبي” (2013).
* أعلنت مؤخراً عن قرب إصدارك الجديد “مدينة الحوائط اللانهائية”، وهي تجربة جديدة عليك لأنها كما قلت ليست بالرواية ولا بالمجموعة القصصية. حدثنا عن تجربتك في هذا العمل الجديد؟
بالفعل “مدينة الحوائط اللانهائية” تجربة جديدة تماماً بالنسبة لي، لأنها تنتمي لنوع أدبي هو “الحكاية الخرافية”، التي أهواها قراءةً وكتابة، وأقدّم لأوّل مرّة كتاباً ينتمي نوعياً لفئة الحكايات الخرافية، التي لا يحتفي بها كثيراً النص العربي المعاصر، رغم أن كتّاباً غربيين كثيرين التفتوا لها وقدموا كتباً كاملة من الحكايات الخرافية، ورغم أن الحكاية الخرافية هي العمود الفقري للموروث السردي العربي والشرقي، بدءاً من “ألف ليلة وليلة” ومروراً بـ”منطق الطير” وحتى “كليلة ودمنة” وغيرها. منذ سنوات لديّ ولع بكتابة حكايات خرافية تستفيد من أدبيّات الحكي الشفاهي والموروث الحكائي، لكن بأفكار جديدة تخصّني، ولغة مختلفة تخلق ما أطمح أن يكون “حكاية شعرية”، تحتفي بلغة خاصّة، وتنزع للتكثيف لا الإطالة والإطناب، لكن قابلة للتعاطي مع فئات مختلفة من القرّاء وليس قارئ الأدب وحده.
الكتاب الجديد كتبتُ حكاياته على مدار نحو عشر سنوات من 2007 إلى 2017، قبل أن أعيد “تصميمها” في سياق يجعلها كتاباً حكائياً، وليس مجرد حكايات منثورة تم تجميعها، ولذلك أعدت كتابة العديد من الحكايات لدى التجهيز النهائي للكتاب، ووضعت ملامح أكثر تحديداً للمكان الذي تدور فيه الحكايات، وهو “مدينة الحوائط”، تلك المدينة المتخيّلة التي يتجاور فيها البشر والمسوخ، وتلعب فيها كافة الموجودات أدوراً محورية، كما ستختفي بعض الشخصيات لتعاود الظهور، بما يجعل هناك لمسة ما من روح “الرواية” في العالم السردي، وكأنّنا أمام حكاية كبيرة موزّعة على 36 حكاية هي عدد حكايات الكتاب.
* تستثمر في اشتغالك الروائي منذ بداياتك العديد من الثيمات في الكتابة، لعل أبرزها اللغة الشعرية والعوالم الفانتازية والتاريخية، كيف تعاملت مع هذه الأطياف المختلفة في الكتابة في عملك الجديد؟
يعيد كتابي الجديد بالفعل تجريب هذه الثيمات، لكن في قالب سردي مختلف، فالعنصر الفانتازي جوهري في كتاب أفقه “الحكايات الخرافية”، بل إن هذه التجربة تمثّل فانتازيا خالصة بسبب طبيعة عالمها وهي أكثر أعمالي جنوحاً للفانتازيا الخالصة، بعد أعمالي المبكّرة، ومنها روايتي الأولى “شريعة القطة” (2002). في ما يخص “اللغة”، أُفضّل الحديث عن “أفق شعري” وليس “لغة شعرية”، لأن الأفق الشعري يمكن تحقيقه بأكثر من طريقة في التعامل مع اللغة، بما في ذلك لغة الصحافة نفسها، ولا وجود في ظنّي للغة شعرية في ذاتها وأخرى غير شعرية. اللغة إمكانية مفتوحة، والأفق الشعري بالنسبة لي هو – ببساطة – قدرة عمل سردي “كنائي” على التحوُّل في الأخير “لاستعارة”، وبالتالي لا يصير مجرد “حدوتة” يمكن تلخيصها أو ردّها ببساطة لجذرها “الإخباري”، سواء كان إخباراً بمعلومات أو وقائع. الأفق الشعري هو ظل المعنى وهو ما أبحث عنه كقارئ في ما أقرأ وككاتب في ما أكتب، لأنّ هذا الظل هو الأثر الحقيقي لأيّ حكاية، وهو ما يستمر عمله بداخلنا بعد انتهاء الحكاية، أو حتى موتها. أما العنصر التاريخي، فهذه المرّة لا وجود لزمن محدد، الحكايات تدور في زمن مموّه، هو كلّ الأزمنة، لأنّ الحكاية الخرافية تفترض إمكانية تحققها في أيّ زمان ومكان، وتخاطب “الوعي الجمعي” كونها لا تخلو من حكمة وأحياناً عظة، لكني حاولت تخفيف ذلك الجانب، بحيث أبتعد بها عن الرسالة الأخلاقية، لصالح السؤال الوجودي الذي يخصّنا جميعاً أيضاً، لكن بطريقة مختلفة.
* سبق وقدمت رواية لافتة عن حياة الشاعر السكندري اليوناني قسطنطين كفافيس، وسمعنا مؤخراً أنك تشتغل على رواية عن الشاعر الإيطالي السكندري المولد أونغاريتي، لماذا هذا الولع بشعراء الإسكندرية الأجانب؟
أنا مهموم جداً بفكرة علاقة الفرد بالمدينة.. كيف تتعامل الذات الإنسانية أمام هذه العلامة المهولة والهجينية التي نسميها “المدينة”؟ هي فكرة تشغلني على المستوى الشخصي، وبالتالي أحاول التعبير عنها عبر “الأقنعة الروائية”، إن جاز التعبير. وأفدح تمثيل للفردية في نظري هو الفنان أو الكاتب، ولذلك تجد أن أغلب أبطال رواياتي يمارسون فعل الكتابة في مواجهة مدنهم.. من “سالم” الشاعر/ القاتل في “هدوء القتلة”، وهو يتقاطع مع مدينة القاهرة، إلى “ملك”.. “الأرملة التي تكتب الخطابات سراً” في مدينة غير مسمّاة، متحدّيةً التحفّظ المعلن بخرق الأعراف في الظلام، لتتمكّن من مواصلة حياتها كامرأة مغتربة، إلى بطل “ضريح أبي”.. الذي يعيد كتابة مخطوط للوقوف على حقيقة مدينته التي أنتجت “ولياً” غامضاً هو أبوه بالذات، وصولاً إلى كفافيس، وأونغاريتي الذي ما زلت في طور كتابة الرواية التي تتناوله. والأخيران تجسدت فيهما الشخصية الروائية قادمة من “التاريخ الحقيقي”، إن كان ثمة ما يمكن أن ندعوه تاريخاً، لكن السؤال نفسه يظل قائماً: الفرد الذي يمثله كفافيس مغترب مضاعف أمام مدينة لا يعرف إن كان ينتمي لها أم لا، مرّة لأنه “أجنبي” ومرّة لأنه “شاعر” ومرّة لأنه “مثلي”، ومشروع “أونغاريتي” استكمال للسؤال نفسه، لكن في سياق مختلف ولحظة زمنية مغايرة لمدينة كفافيس، فهو يواجه الإسكندرية، مدينة طفولته، التي تقاربها الرواية باعتبارها “مقبرة” الأب والأم، ليعيد تعريف المدينة في لحظة متأخّرة من حياته. والتفتيش في التاريخ ملهم بالنسبة لي لإعادة كتابته وتأويله، وليس لتأكيد ما وصل منه عبر روايات منحازة بالضرورة، التاريخ ليس رواية اتفاقية بل عدد لا نهائي من الروايات المحتملة، وبالتالي فهو في الأخير “قصة”. والإسكندرية في الحالتين هي تمثيل المدينة التي تسأل نفسها، تماماً كالأفراد، من أنا؟ ليصبح السؤال عن “العلاقة” وحيث الفرد والمدينة سؤال واحد وليسا “ثنائية” لأنني ضد فكرة الثنائيات.
* تتفرّد وسط مجايليك من الروائيين المصريين باطلاع مكثّف على التجربة الشعرية في مصر والعالم العربي، كيف استفدت من اللغة الشعرية في مشروعك الروائي؟
أنا قارئ شعر. وعندما بدأت الكتابة في التسعينيات كانت قصيدة النثر المصرية الجديدة، التي اقترحها الشُّعراء “الذين أحبّهم” في ذلك الجيل، ملهمة لي بشدّة، خصوصاً على مستوى التعامل مع اللغة، وكيفية تخليق الشِّعري من لغة قد يراها البعض “غير شعرية”. أيضاً قصيدة التسعينيات المصرية قصيدة سردية وليس فقط نثرية، ورغم أنني ككاتب لم أرحب ببعض مقولاتها (خاصةً في طورها الأوّل) مثل قطيعتها الحادّة مع الخيال، وإنكارها للأسئلة الكبرى، بدعوى “الالتفات للأشياء الصغيرة” وما إلى ذلك، إلا أنني استفدت كثيراً من فضائها، وخاصة أنّني أميل للتجريب اللغوي وأكره فكرة اللغة الثبوتية أو اللغة المصنّفة، بحيث تكون هناك لغة روائية وأخرى صحافية وثالثة شعرية.. اللغة سؤال المبدع المفتوح وليست إجابته النهائية.. وهذا ما تفعله الأشكال “المتألّبة” أو “المنزاحة” وفي مقدّمتها “قصيدة النثر“.
* لك إسهامك النقدي والصحافي في متابعة المشهد الثقافي المصري والعربي اليوم، هل يمكن أن تلخّص لنا، في ثلاث نقاط أساسية، مشكلة النقد العربي الراهن؟
لو حاولت تلخيص أزمة راهن النقد العربي في نقاط محدّدة يمكن أن أقول، أوّلاً إن نقادنا “مدرِّسو مواد” في الجامعات، ولا علاقة لشخص يدرّس مادة أدب، بناقد هو جزء من العملية الإبداعية، ولأنّني دارس للأدب الإنكليزي أعرف أن أغلب المنظّرين الكبار في الأدب الإنكليزي مثلاً كانوا مبدعين كباراً، بينما في العالم العربي ننظر للمبدع الذي يمارس النقد باعتباره “تقليعة” أو “صاحب بالين”، أيّ كاذب بالضرورة. لا أمل في النقد المدرسي لأنه ضد فكرة الإبداع نفسها، ونابع من التلقين والاستظهار، وبالتالي لن ينجح أبداً في موازاة حركة إبداعية تبحث عن الاختلاف وليس الاتفاق. الأزمة الثانية، وهي مرتبطة بالأولى، هي أنّنا لا نملك الناقد المغامر، كلّه يبحث عن الآمن والجاهز.. فتجد أكاديمياً من جيلك لم يقرأ حرفاً لمجايليه، ويبحث عن أديب “مضمون” ليعدّ عنه رسالته الأكاديمية، فالمراجع جاهزة و”المشرفون” العتيقون مرحبون، والدرجة الجامعية في هذه الحالة مضمونة!
أما المشكلة الثالثة، فهي أن نقادنا أصبحوا يحصلون على معرفتهم من الصحافة الثقافية، وتحوّلوا بالتدريج لكُتّاب متابعات خفيفة، ينافسون بها صحافيّي الصفحات الثقافية، بدلاً من أن يكونوا “غربالاً” لفوضى الصحافة التي لا ذنب لها. ولا ألوم الصحافة التي استحوذت على دور النقد، بل ألوم النقد الذي صار نوعاً من الصحافة.