طائرة ورقية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البشير الأزمي

تحركت السيارة تاركة وراءها غباراً كثيفاً، وتحركتْ معها أشجاني..

ركضتُ خلفها والغبار يصل إلى عيني ويعميهما. توقَّفْتُ أستَرِدُّ أنفاسي، نزت دموع من عيني، مسحتها بسبابتي وإبهامي، نظرت إليها، كانت قطرات سوداء عالقة بهما..

أحس بذاتي ممزقة وكأنِّي أنظر إلى مرآة مكسرة. منذ أن قَرَّرَ أبي أن يغادر البيت وأنا أشعر بذاتي تذوي..

عدتُ إلى داخل المنزل، فوق موقد النار إبريق شاي ينفث البخار، النار هادئة عكس النار التي تغلي داخل البيت، وتنفث شظايا قادرة أن تحرق كل ما تجد في سبيلها.

ما كنَّا نتوقع؛ أنا، وأمي أن يغادرنا أبي ويتركنا نتلظى بنار غيابه. في غضون العشرة أيام التي أعقبت غيابه، أحسستُ بالفراغ المهول الذي تركه بيننا. بعدها بيوم أو يومين عرفتُ السببَ. وقفتْ أمي عند النافذة شبه المفتوحة تَتَنَفَّسُ نقاءَ الشتاء، لَفَّتْ ذاتها ببطَّانية من الصوف لتَقِيَ جسدها من البرد.. كانت، من قبلُ، وَطَّنَتْ نفسها على عدم الحديث في الموضوع من جديد. قَطَعَتْ عهداً أن تلتزمَ الصَّمْتَ إلى حين رجوع أبي إلى الصواب. كديدان تنخرني كانت رغبتي لمعرفة ما يجول في خلد أمي، وَلِمَ غادر أبي البيت.

كانت أمي تصرخ في وجهه، وهي متدمِّرةٌ:

اختر إحدانا.. هي أم أنا..

 يظل أبي، لحظتها، واقفاً دون حركة كصخرٍ صلد. الصمتُ يبصم على فمه، والمساحة المحيطة بعينيه متغضنة.

كنت مُفْعَماً بحب الاستطلاع عندما أجد نفسي وحيداً إلى جانب أمي. أقترب منها، انظر إلى وجهها، وحينما أحس أن القلق توقَّفَ عن الزحف إلى أعماقها، وأنَّ غضبها أَزِفَ، أَتَمَلَّى وجهها وأسألها:

من تقصدين بإحدانا؟

تومِئ برأسها كأنها تريد أن أُنْهيَ الحديث، تصمتُ للحظة وتهمسُ لي:

“من فضلك.. لا داع للحديث، رأسي يوشك أن ينفجر..”

تنساب دموع من مقلتي عينيها، وينسابُ المساءُ مُفْعَماً بكوابيس تحاصرني الليلة كلها.

وأنا مُمَدَّدٌ في فراشي،  تزورني أطياف نساء، يضعن خُمُراً تستُرُ وجوههن، لا تُرى منها سوى عيون تنفث شرارة الخُبْثِ والمكْرِ، يقتربن من أمي.. يحاولن خنقها.. تبتعدُ عنهن.. تتهاوى على كرسي وتشيرُ بسبَّابتها الدقيقة إلى صورة أبي المعلقة على الجدار. تتقدم الأطياف من الصورة، ينزعنها، يحملنها، ويغادرن البيت.

 أستيقظ مذعوراً، أطل من النافذة، لا أثر للأطياف. في الأفق غبار كثيف يغطي المكان ويشوش علي الرؤية.

عاد أبي، كعادته، لونُه باهتٌ ووجنتاه ممتقعتان. بادرته أمي بنفس السؤال:

اختر بين إحدانا.. هي أم أنا..

نظر إليها نظرة عابرة، تَجَهَّمَ وجهه، أخرج من جيب معطفه قنينة خمر، قَبَّلها، وبدل أن يصرخ في وجهها كعادته، تَمْتَمَتْ شفتاه كجندي يرفل بالنصر، وقال:

لن أتخلى عنكما كليكما..

اقترب من أمي في محاولة لتقبيلها هي أيضاً.. انسابت إلى أنفها رائحة كريهة. أشاحت بناظرها عنه، انهمرت الدموع على وجنتيها. من جديد اقتربت منه، صرختْ وصفعتْ خديها بقوة.. أمطرته سَبّاً، وَتَلَمَّظَتْ كأنَّ ما فاهت به ترك طعماً لذيذاً في فمها.

كصنم ظلَّ أبي واقفاً، يمسك بقوة قنينة الخمر كأنه يخشى أن تضيع منه.

أخذتُ طيارتي الورقية، خرجت، تَسَلَّقْتُ الهضبة، رفعتُ الطيارة الورقية إلى أعلى، داعبها نسيمُ المساء، ارتفعت عالياً، أحدق فيها.. ألوانها الزاهية تمحو أحزاني.. تُطَهِّرُني..

 …………..

تطوان 20/09/2016

مقالات من نفس القسم