“ضحايا حريق الفن”.. بحث شاعري عن أنقاض جيل

ضحايا حريق الفن
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أكرم محمد

يتسم كتاب “ضحايا حريق الفن.. الجيل المفقود في مسرح بني سويف”، للكاتب والباحث عيد عبد الحليم، والصادر عن “بيت الحكمة”، بشاعرية خاصة، تنبع من اقتفائه للهامش، والتقاطه إياه من خلال مفهوم التجييل، فلا يؤرخ الكتاب لحدث مأساوي، بل يُقدم مشاهدة أدبية لها فضاء دلالي وشاعرية، بين ثنائية الخاص والعام، متضفرًا بمروية إبداعية ومشاهدات أدبية تُؤاخى بفعل التأريخ والعرض الصحفي، والرؤى النقدية الموازية.

الحدث هو احتراق مسرح بني سويف عام ٢٠٠٥، ومن نقطته لا يكتفي الكتاب بالتأريخ للخط الحدثي؛ بل يقدم تأريخًا للفن المصري، ومتابعة وعرضا صحفيا لجيل السبعينيات، المستيقظ على آلام نكسة يونيو 1967، فنهض به “التمرد”، والتجريب الفني، ومحاولة البحث عن الجذور الفنية من خلال الموروث الشعبي، وإضفاء التجريب والبنية الدلالية عليه.. ذلك جيل، في نظر الكاتب، تحولت دفة مجتمعه للبرجماتية، والرأسمالية، وتحول كل شيء، حتى الفن إلى منتج مادي، حتى تمردهم بعد اعتقال دولة محمد أنور السادات لهم، فتحولت تجربتهم المأساوية مع القمعية والرأسمالية، التي همشت فنهم إلى تجربة فنية لم تكتمل؛ لإهمال المؤسسات الحكومية والفنية، المتسببة في حوادث كثيرة ذكرها الكاتب عيد عبد الحليم، مثل: احتراق مسرح البالون عام ١٩٧٥، واحتراق مسرح محمد فريد في السبعينيات.

يبدأ الكتاب أول فصوله بطرح نص تسجيلي يؤرخ للفنان الراحل بهائي الميرغني، وهكذا يبتدر الكتاب طرحه لعرض صحفي ومشروع تأريخي لأحد أكثر الأجيال المصرية تجديدًا وتمردًا ومعاناة بتقديم عرض صحافي لفنان عني بمعنى المسرح الأساسي، وبنيته الأولى، وهي كونه فعلا اجتماعيا تشترك فيه ثنائية المتلقي/ المنتج، لذا اهتم “الميرغني” بتقديم منتجه الفني في قاعات مفتوحة، ليقدمها لأبناء الهامش في الريف، وقد أحب أهل أحد القرى مسرحية “الفأس والشمروخ”، حتى حملوه على الأعناق، وجاء هذا الإقبال من تشييد “الميرغني” لبنية مسرحية مغايرة، جمعت بين ثنائية الموروث الشعبي والأدب العالمي، وهو تأثر بما حدث في الدولة المصرية ما بعد هزيمة يونيو، ومواجهة لتحول المجتمع للاستهلاكي الرأسمالي، ومن مشروعه التجريبي، ومن خلال تجديده في البنية المسرحية وهيكلة تقديمها والإفلات من بيروقراطية المؤسسات الرسمية، قدم بهائي الميرغني عدة مسرحيات دون قاعات مسرحية مغلقة، فأقام مسرحيات عدة في الأرياف وعلى شواطئ الترع، وكأنه، كمحض هامش، يهب الهامش منتجه الفني، وكأن بنية مشروعه نضحت لحظة الكارثة، فبعد نجدة “الميرغني” من الحريق قرر الدخول مرة أخرى؛ لإنقاذ رفقاء عمره، الرابض منهم في محور المقال التالي صالح سعد، ذلك الفنان، الذي يقدم استقراء لمفهوم الفن وجدواه، وتأثيره على المتلقي، خاصة هامش المتلقين.

 قدم المخرج المسرحي صالح سعد مع فرقة “السرادق”، التي أقيمت عام ١٩٨٣، واستمرت حتى عام ١٩٨٨، عدة مسرحيات قدم بها معايشة فنية غير مسبوقة، تخطى، بتجريبيته، الجدار الرابع، طرح مفهوم جديد لثنائية المنتج/المتلقي، فجعل من منتجه الفني محاولة لإعلاء فكر المتلقين من مهمشي الأرياف وفقرائه، ففي مسرحية “يحدث في قريتنا الآن”، المستلهمة من نص “ياسين وبهية” للراحل نجيب سرور، وكأنه باقتباسه لها يخلق جدارية للفن ومهمشيه ومجدديه، عمل على معالجة بنية النص، وكسر الجدار الرابع، فتبدل الشخصية بشخصية واقعية هي الصياد “حسن”، ويشارك المتلقون من أهل الريف في خلق حوار النص، ويقومون بتجمهر أفضى لاعتقال خمسين منهم.

هذا المقال لا يقف عند فعل التأريخ والعرض الصحافي، لكنه يمتد لفعل استنطاق معنى الفن، جدواه في انعكاسية الشعوب عليه، وتأثيره عليه، كذلك يقدم الكتاب نصًا توثيقيًا، يعرض فيه تتبع لمشروع فرقة “السرادق”، التي طرحت مشروع فني خاص تربضه أيدولوجية واضحة عن تغيير وعي المواطن، دون الوقع في أحادية فكرية؛ فيقدم الكتاب بيانا للفرقة نشر في مجلة “المسرح”، كما يطرح نص نقدي موازي لمنتجهم الفني، وهو ما يمارسه الكتاب في كل فصوله.. يمارس الكتاب في الفصل المتناول الفنان الراحل د. صالح سعد طرح تأريخي موازي بتقديم نص لصالح سعد نوقش في أحد اجتماعات فرقته “السرادق”، ويعيد ذلك النص استنطاق مفهوم الفن، ويعيد بناء مفهوم أكثر خصوصية للمسرح، رابطا به ثنائية الخاص/العام، فتنضح الذاتية كخلفية فنية وإنسانية وفلسفية تتضفر مع التراث، في تعرية الشخوص الذاتية المتأثرة بالتراث، والطارحة فنها لعقل جمعي يقطنه التراث، فيكون الفضاء المكاني لمسرحهم تراثي، كما يقيمون منجزهم الفني في مكان له خصوصية ثقافية محلية كبيرة، تعود لمصر القديمة، في مكان حنطت فيه الموتى، وهو “السرادق”، ومع تشفر تلك الذاتية مع مفهوم الفن تتجلى حالة التوحد بين ثنائية المتلقي/ المنتج، وهو مفهوما عام ترميزي للفن، وله بعد دلالي لمشروع الفرقة وآفاقها.

ثم يطرح الكتاب متابعة وعرضًا صحفيًا، وتأريخًا فكرياً وشخصيًا لناقد ومسرحي آخر هو حازم شحاتة، الذي قدم ثنائية جدلية لموقع النص من المسرح، الثنائية تتضافر مع النصوص السابقة لذلك المقال، فعلى عكس د. صالح سعد الغير معني بالتقنيات التكنولوجية، يعنى منجز حازم شحاتة الفني والثقافي، المنبثق بعد إتمام دراسته في كلية الآداب، بعد التمرد على مزاولة مهنة الهندسة، ثم تقديم مشروع دكتوراة قدمه د. جابر عصفور، بعلاقة حداثية بين علاقة النص والمنتج الفني، فيرى “شحاتة” أن النص جزء يجب أن يعنى بالأربعة حوائط الكائنة بالعرض، وأن يقدر تقنياته، وينتج على أساسه، فيشمل فضاء بنيوي موحد بين النص والعرض، ليس كمحض ثنائية ينتصر فيها النص، وهكذا تندرج تحت رؤيته للمسرح رؤية حداثية، أيضاً، للتقنيات التكنولوجية، التي تربط الفن الجمعي بين الثنائية الشهيرة، المتلقي/المنتج، كما يقدم التأريخ الفكري والشخصي لحازم شحاتة رؤى نقدية تطبيقية من خلال مروية ذاتية للناقد والفنان الراحل، فيسرد وقائع إعداده مسرحية «حكايات ناس النهر»، المقتبسة عن نص للكاتب المصري حجاج أدول، والتي أشرف فيها “شحاتة”، أيضاً، على دور “الدراماتورجي”، وهو مستشار فني يقوم بدور نقد يتضفر مع تهيئة النص، وهنا يتضح مفهوم “الدراماتورجي”، كما يتجلى من إنتاج النص كعمل مسرحي موقع التراث من البنية الفنية والمسرحية، كفضاء دلالي، وكعنصر بنيوي موضوعه ذاته، إضافة إلى طرح سردية إنتاج مشروع «حكايات ناس النهر».

يتناول الكتاب بعدها فعل التتبع المقرون بتشفر الرؤى النقدية والتأريخ مع محسن مصيلحي، الذي قدم منجز نقدي اهتم بالمسرح والموروث البريطاني، وهو ما وازاه في منتجه الفني الموروث المصري، وقدم بحثاً عن ميخائيل رومان، ويهب الكاتب عيد عبد الحليم نصه رؤية نقدية عن مسرحية “كفر عسكر”، التي قدمت على مسرح “الغرفة”، القاطن إياها فضاء دلالية ورؤية فلسفية وجودية عن واقع التراث وعلاقة الإنسان بالإنتماء والحرية وسط المجتمعات البرجوازية البرلمانية، ثم يقدم أطروحة تمثل سيرة فكرية للناقد والمسرحي الراحل مدحت أبو بكر، المعني في منجزه النقدي، المتمثل أهميته في سلسلة التجريب المسرحي الصادرة في مصر، على التجريب في بنية المسرح، ومسرحة كل بقعة مكانية، فلا يقف الفضاء المكاني للعرض عند المسرح المعتاد «مسرح العلبة الإيطالي»، وهكذا يتناول، أيضاً، الكتاب عرضًا، ومتابعة نقدية توازي العرض الصحافي، لمنجز أحمد عبد الحميد النقدي، القاطن منتجه النقدي التقاط واقتفاء للهامش، سواء في محور الفن ذاته، باهتمامه بالكتابة عن أعمال هامشية عكس الأعمال الشهيرة، المحققة الكتابة عنها ثروة وشهرة في مجتمع برجماتي، وفي اهتمامه باقتفاء فضاءات توازي الأعمال، وتحيط بها، كدعوته بالاعتناء بالفن المسرحي في الجامعات المصرية، بعيداً عن قمعية النظام التعليمي وبيروقراطيته، ووأده المواهب، واقتفاءه للعروض الإقليمية، وكتابته عن فنانين شباب وعن موهبتهم، كعائلة كامل وأحمد السقا.. قامت بنية نصوصه النقدية على التحليل النقدي، بتفكيك ترميز النص وسيمائيته، وانصهارها في ذاتية الخلفية المجتمعية والسياسية، كأساس للبناء الدلالي والفلسفي، وكتضفر بالنقد الثقافي، كما اهتم، كمثيل جيل مأزوم، بالتراث والتجريب بتحويله إلى المركزية الفنية، ك”خيال الظل”.

في المقالات الأخيرة بالكتاب، يعرض مروية إنسانية وفكرية ثورية لنزار سمك، المعتقل في ظل قمعية دولة “السادات”، وصاحب الأثر الثوري في الثقافة الجماهيرية والنقد المسرحي، ويعرض نصًا عن حسن عبده، صاحب التاريخ المسرحي الحافل، وأحد مؤسسي فرقة “أتيليه المسرح”، التي استقلت بعد التخرج الجامعي ١٩٩٠، وشاركه في إدارتها بيومي فؤاد ومحمد عبد الخالق، وهي الفرقة الحاصلة على عدة جوائز منها جائزة عن عرض “حفلة المجانين”، من إخراج الراحل حسن عبده وتأليف الفنان خالد الصاوي.

مقالات من نفس القسم