على مدى عشرة أيام، فى منتجع قصر السراب الصحراوى، بصحراء ليوا، حيث يوجد أكثر تجمع للكثبان الرملية فى العالم، وتحت رعاية الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان بدأت رحلتنا مع السحر والكتابة.
الصحراء كانت تبث شيئًا حقيقيًّا من السحر، كانت محملة بالصمت والأسرار تمامًا مثل البحر، لكنها أكثر غموضًا.. الآن بت أعرف كيف ضمت الرمال والصحارى حضارة العرب القديمة، الشعر والفروسية ومناجاة النجوم ودراسة الفلك. المشهد الصحراوى كان جديدًا تمامًا على مشاهدتى، لكنه حمل لقلبى كل السكينة، ولقلمى كل الجلد الذى تحتاجه امرأة لتكتب عما أوجعها وأحزنها، عن كل هواجسها ومخاوفها تجاه العالم بلا أى مواربة.. فى قصر السراب اكتشفت حقيقتى المختبئة فى روحى، وأنى ربما كنت فى حياة أخرى، ذرة رمال شقية ترحل حسبما حركتها الرياح.
الأصدقاء الذين اكتسبتهم من تلك الرحلة كانوا هم هدية العام لى، عام تألمت فيه كثيرًا وحزنت واهتزت ثقتى بذاتى وبكتابتى وبكل ما أحب، فردت لى الحياة كل أشيائى وربتت روحى المرتبكة وأهدتنى أصدقاء وكتابة حلوة. أحتار حقيقة لرغبتى فى سرد كل الحكايات معهم، وكيف أننا جميعًا تجرى فى قلوبنا دماء واحدة وهموم واحدة ومحبة عميقة للكتابة ولبلادنا العربية.
كيف بقت مصر فى قلوب الجميع بفنها وحضارتها، وكيف اكتشفت أن كل بلادنا العربية فى قلوبنا جميعًا.. وكيف تنوعت النصوص التى عملنا عليها بالورشة، وكيف أنجز كل منا نصًا يشبهه فيه من روحه وثقافته وهواجسه وأحزانه وإنسانيته. كيف كنا رغم اختلاف بلادنا ولهجاتنا قلب واحد ينبض بالمحبة والأخوة.
فكانت لبنان حاضرة برقة وثقافة مى منسى مشرفة الورشة الرقيقة مثل نسمة صباح، الفواحة مثل عطر باريسى الخجلة مثل طفلة صغيرة وهى تتحدث معنا عن كتابتنا وتجاربنا وتمنحنا من روحها قطعًا من اللؤلؤ.
وذلك الرجل المضىء مثل فكرة مبهرة صادفت كاتبًا بعد طول عناء الشاعر والروائى المغربى محمد الأشعرى الذى كان مشرفًا على الورشة أيضا، والذى كان طوال أيام الرحلة مرحًا ومهذبًا وعملاقًا فى خبرته وتعليقاته على نصوصنا ومتواضعًا كدأب النبلاء.
فى قصة لؤلؤة المنصورى الكاتبة الإماراتية الشابة التى حازت جائزة دبى الثقافية لهذا العام حملتنا هواجسها عن مدينة الموتى التى تقبع تحت «رأس الخيمة» كما تقول حكايات الجدات.. كيف عذبنا ذلك الخاطر كما أرقها كثيرًا. عبد الله العبيد الكاتب السعودى الشاب، المحمل بمحبة عارمة للسفر وللغناء والموسيقى العربية الأصيلة الذى يكتب بشجن زخم يحمل النص لأرواحنا فلا نفلته أبدًا، يكتب كأنه يغزل بتأنٍ بيتًا للحياة.
سمير القسيمى وهو كاتب جزائرى شاب، كان أول كاتب جزائرى تصل روايته للقائمة الطويلة للبوكر العام الماضى، وهو قطعة من وهج، موهبته كبيرة وقوية جرفنا لداخل نصه بحرفية ربان سفينة أغرقنا هناك ووقف يبتسم بوداعته وروحه الجميلة الصافية. أيمن العتوم وأنا أتحسس كلماتى وأنا أكتب عن «أيمن» الكاتب الأردنى الذى ما رأيت أكثر منه تهذيبًا ورقيًّا، هو الذى يتكلم عربية فصحى صحيحة فتقع فى غرام اللغة فور حديثه، هو الذى قرأ لنا الشعر فى ليلة سمر بالصحراء على ضوء القناديل فكانت النجوم تتلصص على ما يقول، هو الروائى المتمكن من أدواته، الموهوب بشكل يثير الحسد الكثير منه فى الحقيقة.
بشرى المقطرى الكاتبة اليمينة التى تمرر طاقة من القوة والعذوبة، تصمت كثيرًا وتتحدث نادرًا إذا ما طلب منها، لكن طاقتها الروحية حاضرة وكبيرة.. تكتب عن اليمن وتعز درست التاريخ، وشغلتها هموم البشر فى حاضرهم، مدت خيطًا من الموهبة والإيمان بالإنسان لتصل بيه للصراخ.. تكتب كى تقول هنا بشر يتألمون ويعانون. نسرين طرابلسى مزيج الثقافات، قطعة البهجة فى مجموعتنا الصغيرة، كاتبة قصة ومذيعة بالتليفزيون الكويتى.. حكاؤه مثل شهر زاد.. ومفرحة مثل ليلة عيد، وقريبة كأنها صديقة قديمة وكانت هنا دومًا، لا تصادفك الحواجز أبدًا وأنت تتعامل مع رقيها وثقافتها، تمد جسر الحكايات فتختلط أحزان دمشق بلبنان ومصر واليمن والمغرب والجزائر، نشبك أيدينا ونصدق أن غدا سيكون أحلى. الورشة ضمت أيضا كاتبًا شابًا واعدًا من المغرب هو هشام بن شناوى، كثير القلق والانتقاد والبحث عن الكتابة.
وأخيرًا كانت هناك فلور مونتانارو منسقة الجائزة، بريطانية الجنسية ودرست الأدب العربى وشغوفة به فى الحقيقة تتحدث العربية بلهجة شامية وتبدو مهتمة ومنصتة للجميع، لها ابتسامة حلوة وعقل يستحق التقدير.
طوال أيام الورشة كنت أسمع الكلمات العربية بلهجاتنا المختلفة، وأشعر أنى أنتمى لها جميعًا، وأنها مرسومة بشفرتى الإنسانية. وذات صباح كانت نسرين تتحدث وكانت تحكى لنا حكاية طعمتها بمثل شعبى «كان يضع العصا بالدواليب» قاطعتها وأنا أسأل: هل هذا المثل كأن نقول عندنا «العقدة بالمنشار» كان حدسى صحيحًا.
عدتُ من الصحراء بمنشار وعصا وكتابة حلوة، وصداقات استثنائية وبهجة تكفى قلبى عامًا ليهنأ ويدفأ فى كل أيام الصقيع القادمة.