د.مصطفى الضبع
حسن إبراهيم الحسن شاعر سوري من مواليد “جديدة الجرش” بريف دمشق 24 مارس 1976، درس المحاسبة في جامعة حلب، صدر له أربعة دواوين شعرية:
- المبشرون بالحزن – دائرة الثقافة والإعلام – الشارقة 2008.
- ها أنت وحدي – دار شباب النهرين – دمشق 2010.
- خريف الأوسمة – منشورات زين – الخرطوم 2014.
- غامض مثل الحياة وواضح كالموت – دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع – دبي 2015. وله مخطوط : كالصدأ العنيد على الصواري
حصل على عدد من الجوائز العربية، منها: جائزة دبي الثقافية (2012-2013)- جائزة دبي الثقافية (2006-2007) – جائزة الشارقة للإبداع العربي (2007) – جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع (2014) – جائزة أفضل قصيدة عن الأم (لندن 2011) – جائزة طنجة الشاعرة في دورتها التاسعة (2012) – جائزة حلب عاصمة الثقافة الإسلامية (2006-2007) – جائزة سليمان العيسى (دمشق 2008)- جائزة البحتري الشعرية ( 2005 )-جائزة عكاظ الشعرية( 2006 )- جائزة أبي الفداء الشعرية ( 2006 )جائزة ربيعة الرقّي الشعرية (2006 )- جائزة الجولان الشعرية(2006 )- جائزة اليرموك الشعرية 2007 ، جائزة الجولان للقصة ( 2007)- جائزة لقاء الأجيال الشعرية (حلب 2010) – جائزة ثابت بن قرة الحراني (الرقة 2011).
بما تملكه من مقومات الفن في بساطته والشعر في عمقه والصورة في فرادتها أثبتت شاعريته وجودها عبر المحافل العربية في مختلف البلدان العربية الداعمة للشعر والحريصة على تلقيه في أحدث إصداراته وفي حرص الشعراء على تبني قضايا الإنسان عامة ومواطنيهم خاصة فاتحين أفق متلقيهم بقدر من الوعي برؤية الشعر للحياة والكون .
في مجملها تهتم تجربة الشاعر حسن إبراهيم الحسن بالإنسان العربي مستلهما تراثه وشخوصه، ومشاركه تطلعاته وأحلامه ولأن تجربته تنتمي بقوة للألفية الثالثة فإنها انشغلت بأبرز أحداثها المؤثرة وقاربت التحديات الإنسانية التي يجابهها مواطنوه فيما تلا انطلاق أحداث الربيع العربي، وتكاد تجربته في معظمها تكون تعبيراً حياً نابضاً عن التجربة السورية الأقسى في تاريخ الإنسان السوري تلك التي لما تنتهي فصولها بعد وماتزال قيد التعبير، ويعد ديوانه “غامض مثل الحياة وواضح كالموت” نموذجا واضحة معالمه على هذا الجانب.
يتشكل الديوان في سبعة أقسام: برج الحصار – عادات سرية – السورياذة – آخر النبوءات – نهر التراب – من معجم الصعاليك – من هوامش معجم البلدان، ويضم كل قسم منها مجموعة قصائد تبدو مجازية الطابع، خلافا للقسم الأخير الذي يحيل متلقيه إلى فضاءات عربية تمثل نقطة انطلاق القصيدة وتحيل المتلقي عدد من القصائد التي يمكن الاصطلاح عليها بقصائد المكان “النجف – عيثة (قرية في بادية حلب الجنوبية الشرقية ) – شنشار (من قرى ريف حمص الجنوبي) – دبي –أبو ظبي – القاهرة – حمص” حيث لهذه المدن حضورها في مرجعية المتلقي أولا ذلك الحضور الذي يكون له تأثيره على عملية التلقي ثانيا، والشاعر يرفع المدينة لمستوى القصيدة عبر نقلها من حيزها الجغرافي إلى مجالها الشعري منتجا دلالتها الجديدة، فالمدينة على مستوى الجغرافيا مادة صلبة غير أنها على المستوى الشعري صورة ناعمة الملمس شديدة الدلالة تتطابق بقدر ما معرفة المتلقي بها قبل القراءة غير أنه يدرك طبيعتها الجديدة الممررة عبر القصيدة بعد القراءة.
في تجربة الشاعر، أنت لست أمام شعرية واحدة وإنما إزاء شعريات متعددة متنوعة تقوم كل منها على مجموعة من العناصر التي تتعاضد متصلة أو تتشابه منفصلة لأداء وظائفها الشعرية منتجة نسقها الخاص الذي قد يتماهى مع غيره من العناصر ذات الطبيعة الشعرية الثرية في قدرتها على التعبير عن الحالة الشعرية بكل قوتها فاللمدينة شعريتها وللإنسان كذلك، وللماء شعريته وللنافذة كذلك، وللتنويعات البشرية شعريتها أيضا.
هنانو الحاضرة داخل النص وخارجه
على مدار تجربة الشاعر في ديوانه الأخير، تفرض “هنانو” وجودها، منتجة شخصيتها الاعتبارية والجمالية وطارحة لمتلقيها مامن شأنه أن يضع في يده عددا من مفاتيح قراءة الديوان ومكاشفة العالم الشعري للشاعر وإدراك تفاصيل الصورة الكلية المتشكلة عبر الديوان بكامله.
الشاعر يقدم فضاءه مقترنا بتعريف لا يتجاوز أربع كلمات “هنانو: من أحياء حلب الشرقية” رابطا بين الحي “هنانو” والمدينة الشهيرة “حلب” وهو ربط يقدم مستويين للدلالة وفق معرفة المتلقي المسبقة بالمدينة التاريخية أو عدم معرفته، فمن يعرف هنانو سيكون عليه مكاشفة أفق ما للتلقي ذلك الأفق القائم على معرفة مسبقة بالمكان وتاريخه وأحداثه وشخوصه ، ومن لا يعرفها سيكون له شأنه المختلف القائم على الاستكشاف أولا ومحاولة معرفة طبيعة المكان سعيا لتحصيل معرفة حصلها العارفون بالمكان.
داخل النص تتردد المفردة داخل النص عشر مرات على مدار ست قصائد وخارجه يشار للمدينة ست مرات (ديوان خريف الأوسمة ) في قصائد: حرفان ص 11- خريف الأوسمة ص 17- وأنا كذلك ص 27- هنانو ص 31- غرفة واحدة ص 45- بعد نافذتين ص 53.
ويتكرر حضورها سبع مرات (ديوان غامض مثل الحياة وواضح كالموت ) في قصائد: ميلاد ص 9- الأحد ص 10- الثلاثاء ص 14- الاثنين ص 20- الجمعة ص 28 – الخميس ص 29- السورياذة ص 55. حيث تستقر القصيدة في مكان يطرح نفسه في نهايتها ليكون بمثابة مختتم الحالة الشعرية الذي يلتقي فيه الشاعر ومتلقيه
“هنانو” خارج النص تقيم دائرية مع ذكرها داخله ، هكذا يستهل الشاعر قصيدة “الأحد”:
“ماذا سأكتب عن (هنانو) في غيابك؟
قطة الجيران …
منذ الغارة الأولى استظلت بالجدار – جدار منزلنا
ولكن لم تجد طفلا يشاكسها فغابت” ([1])
وهكذا ينهيها :
“وأيضا غبت عن نفسي
ولكن لم تغب عيناني عنك …
وعن (هنانو) “([2])
وهكذا يذيل القصيدة بالإشارة المكانية:
” مدينة هنانو : الأحد 19- آب – 2012″ ([3])
وبذا يكون مجموع تردد مفردة “هنانو” سبع عشرة مرة لتسجل أعلى ظهور لمكان على مستوى الديوان، ولتجعل من ذاكرة التلقي معتمدة تماما على نقطة مكانية بعينها تفرض سيطرتها المكانية على جزء كبير منها، وتشكل خارجة للمأساة السورية أو السورياذة السورية على حد تعبير الشاعر، ووفق ما وثقه الشاعر من إشارات تذييلية للقصائد تجعل من هنانو مكانا للقصيدة حيث تولد القصائد وتسجل تاريخها ليكون المكان شاهدا على زمانه ويكون الزمان قرين مكانه للشهادة على العصر، عصر المدينة المنكوبة المفخخة بالأحلام الموءودة والتي لا يكتفي الشاعر بالإشارة إليها بوصفها منصة إطلاق القصائد والصور إذ تكون بمثابة المثير للإنتاج ، ولتمهد لهنانو بوصفها قصيدة للمكان حيث تشكل القصائد المتضمنة المدينة والتي يسرد الشاعر بها وعنها وإليها تشكل قطاعا كبيرا في ديوان الشاعر حتى لتدخل المدينة في نوعين من العلاقات :
- علاقة النص بالمدينة حيث المدينة خلفية معرفية ودلالية بالنصوص .
- علاقة تنافس بين المدينة وغيرها من المدن الواردة في النصوص .
معتمدا صيغة الجملة الخبرية يسرد الشاعر مجموعة من الأخبار عن هنانو التي تتكرر بوضعية المبتدأ المخبر عنه بمجموعة من العلامات الشعرية الدالة :
- ” هنانو ..
شارعٌ يحتَلُّ خاصرة المدينةِ مثلَ حرفٍ زائدٍ شارع –
تمحوهُ طائرةٌ ،
و تكتبهُ ابتسامة طفلةٍ ما بينَ قنبلتينِ تلهو بالشظايا” ([4])
- “هنانو ….
سيرةُ الحربِ التي تتزوجُ القتلى
و تنجبُ نازحينْ” ([5])
- هنانو …
الوحيدة مثل بوم
والصبورة مثل سلور يجدف ضده الماء – الطبيعة ” ([6])
- ” هنانو …
قشة /
ريش /
حصاة تسند الأرض التي مالت مساء الحرب
وارتدت الظهيرة ..” ([7])
ويستمر الشاعر في تركيبه المتكرر تسع مرات في قصيدة واحدة ، طارحا هنانو على وعي متلقيه وفق تقنية شديدة الدقة ففي كل مرة تذكر هنانو متبوعة بنقطتين (..) تمثلان وقفة تشكل الفضاء النصي وتشير إلى مساحة الشجن في نفس الشاعر ويقابلها مساحة التوقع في نفس المتلقي ، وكون الخبر كل مرة متبوعا بدوره بعدد من الصفات تدخل جميعها في إنتاج التماسك النصي الذي يتحقق في القصائد بدرجات تتعاضد جميعها لتجعل من قصائد الديوان قصيدة واحدة متعددة التكوينات ، ومن بينها مكون الحرب فلأن هنانو منحت الفرصة للشاعر أن يطرحها على وعي متلقيه فإن وعي المتلقي مأخوذ بتجربة المكان الأقسى ، الحرب تلك التي تنجب النازحين ، وتستدعي أسبابها التاريخية الممتدة إلى الطوائف .
ما بين مفردتين : الطوائف – النازحين تتيح القصائد لمتلقيها مجالا حيويا للحركة ، المفردتان تتراتبان زمنيا ، الأولى (الطوائف ) سبب تاريخي لوجود النازحين (النتيجة) ، الطوائف فعل عربي متكرر تسبب في زوال السلطة العربية في الأندلس ، ويتسبب الآن في فعل عربي بامتياز حين يعمل على نزوح أبناء الوطن ، هل يكون علينا أن نربط بين دمشق صنيعة بني أمية ، والدولة العربية في بلاد الأندلس المنتمية لدمشق وأمويتها ؟إن السؤال ينفتح لا لينغلق على ذاته ولكن لينغلق على آلاف الأسئلة التي يثيرها النص عن عروبة لا تستوعب الدرس ولا تقرأ تاريخها .
على مدار ديواني الشاعر “خريف الأوسمة ، فصل من تغريبة النازحين” و” غامض مثل الحياة وواضح كالموت ” تتكرر مفردة (الطوائف )ثلاث عشرة مرة ، تسع مرات في الديوان الأول (خريف الأوسمة ) وأربع مرات في الديوان الثاني (غامض مثل الحياة)
فيما تتكرر المفردات المنتمية للنزوح (النازحين – النزوح – النازحة ) ست عشرة مرة (16 ) موزعة بالتساوي على الديوانين ، وهو ما يشير إلى نوع من المجابهة بين القوتين (الطوائف – النازحين ) غير أن النزوح يفرض سطوته بوصفه نتيجة لفعل “صراع الطوائف “([8])
تنتمي المفردتان في صيغتهما المفردة إلى وزن واحد يوحي بحركة الانتقال (طائف – نازح ) غير أن الطائف والطائفة وهو ما يحققه قول الشاعر شرف الدين البوصيري :
ما لي اشْتَغَلْتُ بِزَجْرِهِمْ فكأنني بينَ الطَّوائفِ طارقٌ مَنْبُوحُ
جميل صدقي الزهاوي ([9])
اعتمد الشاعر مفردة النازحين رابطا بين الديوانين ، تحديدا العلامة المكونة من سبيكة المضاف والمضاف إليه ” تغريبة النازحين ” التي تتصدر عنوان الديوان الأول آخذة موضعها بوصفها عنوانا ثانيا ومفسرا وتتكرر في إهداء الديوان نفسه ” إليه في تغريبة النازحين ” ([10])، وتتصدر الديوان الثاني متصدرة الإهداء ” إلى خطاهن في تغريبة النازحين ” ([11]) تحيل العتبة الأولى (العنوان) إلى الديوان (العنوان هنا مبتدأ خبره النص ) فيما تحيل العتبة الثانية (الإهداء ) الديوان الأول بالنسبة للثاني واقع سابق مستمر ، والديوان الثاني بالنسبة للأول مضارع مستمر يدشن لحالة متجددة .
شعرية النوافذ
النافذة ، النوافذ صورة تفرض نفسها على تجربة الشاعر الذي يفتح نوافذه للمتلقي ليتابع من خلالها مشهد العالم حين يتشكل وفق رؤية الواقع ويعبر عنه الشاعر بطريقة إبراز جوانب ما لصالح دلالة ما ، الشاعر هنا مخرج يقدم لمتابعه مشاهده الدالة المنتقاة جاعلا من القصائد مجموعة من الشخصيات التي من شأنها تقديم أدوارها كما يريد الشاعر تأثيرا في المتلقي .
النافذة هنا تكون بمثابة عنصر شعري يقوم بوظيفته تأسيسا على قنوات التوصيل الشعري التي يتغياها الشاعر ، وتقوم بوظائف عدة منها :
- الكشف اعتمادا على أن كل كتابة نافذة يفتحها كاتب لمتلقيه ، نافذة مفتوحة بدقة على عالم مرسوم بدقة غير أنها نافذة لها طابعها الخاص ، ترتفع عن مستوى المتلقي بدرجة ليس تعاليا عليه بقدر ماهي تعمل على تشجيعه على السمو بفكره وعلى أن يعمد إلى تنمية قدراته التخييلية عبر معايشته عالما من الخيال .
- الإدراك ، إدراك المتلقي لغاية الشاعر ، ومجمل الرؤية المتحصلة بفعل القراءة .
- التعبير عن الحالة النفسية للرائي ، فكل نافذة تعبير عن حالة الرائي من خلال ما يرى .
- نقل المتلقي من طقس حياته اليومية إلى مناخ عام أشمل ، مناخ مقصود لذاته حين يلفت نظر متلقيه عن واقعه المعيش إلى واقع جديد يطرحه النص مستهدفا عملية التغيير .
في تجربته يفتح الشاعر نافذته / نوافذه على تجربته بوصفه مواطنا سوريا عايش الأزمة ، ورصد تفاصيلها وطرحها على متلقيه العربي عبر لغة خاصة تليق بشاعر يمتلك رؤيته الخاصة لتصدير رسالته.
“بعد نافذتين – نوافذها – نصف نافذة ” عناوين ثلاث قصائد على التوالي يضمها الديوان الأول ” خريف الأوسمة ” يتوزع خلالها العلامة الشعرية ” النافذة ” ، ففي القصيدة الأولى تتكرر العلامة ست مرات ، أربع مرات منها بصيغة المثني مكررا عنوان القصيدة ” بعد نافذتين ” موحيا بانتقال مكاني يفضي إلى انتقال بصري يعتمد على المكاشفة ، والتعبير ذاته يبدو تعبيرا حقيقيا في مقابل مرتين من مرات ورود العلامة اللغوية مفردة تقوم على التعبير المجازي ” نافذة القصيدة ” :
- “الحرب تنبح خارج المعنى ،
تماما بعد نافذتين …
أعني خارج المبنى
أحبك ..
هل سمعت الصوت ؟
ليس دوي قنبلة ، ولا جرس الكنيسة
ما يدق الآن نافذة القصيدة
إنها لغتي تجرب في مديحك مفردات الحرب ” ([12])
والقصيدة التي تستهل استهلالا مجازيا تضفر بين الأسلوبين : الحقيقي والمجازي ، منتقلا بعد نافذتين لفتح نافذة القصيدة ، فإذا كانت النافذتان لخارج القصيدة فإن نافذة تفتتح للداخل والشاعر يتدرج في الكشف :
- بعد نافذتين / يجلد شرفتي الظمأى .
- بعد نافذتين / يحدث أن أرى .
ويستمر فعل الرؤية فارضا نفسه على المشهد حتى تنتهي به القصيدة معلنة عن اكتمال فعلها الشعري :
“يحدث أن أرى ..
لغتي تجرب في مديحك مفردات الحرب
ليس دوي قنبلة ،
ولا جرس الكنيسة
ما يدق الآن نافذة القصيدة
إنه خلل طبيعي يصيب عقارب الساعات / قلبي…
بانتظارك ……” ([13])
وفي القصيدة الثانية ” نوافذها ” تتكرر العلامة مرة واحدة محافظة على الصيغة نفسها في إشارتها للغياب :
“نوافذها …
على قلق تبات
فكل الناس مذ عشقت رماة ” ([14])
وفي القصيدة الثالثة ” نصف نافذة ” يتكرر العنوان ثلاث مرات ، جاعلا من النافذة فاصلا مكانيا يشير إلى فعل الحرب الآكل للمكان ومافيه :
” وكان مابيني وبينك …
نصف نافذة ، وعمر لا يزيد عن الأصابع ” ([15]) والتركيب يتكرر بالصيغة نفسها مرتين ، وفي الثالثة يتغير التركيب قليلا لمناسبة المساحة الزمنية العابرة دالا على تبدل الأحوال :
“مر عام
لم يزل بيني وبينك نصف نافذة ..
وعمر لا يزيد عن الأصابع ” ([16])
ويستمر التغيير حتى المرة الرابعة:
” وتكفي نصف نافذة لألمح شالك البحري
يخفق مثل نورسة على حبل الغسيل
فأطمئن على القصيدة بانتظلرك /
أطمئن بأن ما بيني وبينك نصف نافذة
وعمر لا يزيد عن الأصابع أو أقل “([17])
الشاعر يجعل من النافذة مساحة لرؤية الشاعر المعينة على تأويل الشعر ، وهو حين يدرجها في القصيدة فإنه يحدد مكانا لمتلقيه ألا يقف في الظلام أو في عمقه وإنما يقف أمام نافذة كاشفة ، دالة بدورها ، قادرة على أن تجعله يرى اللوحة بكامل تفاصيلها المكانية والتاريخية ، ويدرك قراءة الشاعر لعالمه (عالم المتلقي ) ويلتقط مجموعة الرموز ذات الطبيعة الشعرية التي يبثها الشاعر لمتلقيه .
شعرية يوسف
يمثل يوسف عليه السلام أيقونة شعرية لها خصوصيتها في تجربة الشعر العربي الحديث ، إذ يستمر حضوره بصورة ملحوظة تتسع لتشمل خارطة واسعة تعتمد على دنيوية الأحداث وعمق الدراما في القصة التي تتكرر تفاصيلها المؤثرة دون توقف ففعل الخيانة والصراع بين الإخوة والتعرض للأزمات جميعها أمور لا يتوقف تكرارها والشاعر يعيد قراءة المشهد اليوسفي وفق رؤيته الخاصة .
في أربعة مواضع يستلهم الشاعر “يوسف عليه السلام” موزعة على ديوانيه بواقع موضعين في كل ديوان ، حيث لا يصرح الشاعر باسمه عليه السلام :
- يذكر يوسف من خلال يعقوب عليه السلام :
” من لست تبصره العيون
بقلبه يعقوبك الأعمى قميصك يلمح ” ([18])
- يذكر يوسف من خلال إخوة يوسف والقصيدة على لسان إخوة يوسف الذين يحملون الأب مسؤولية ماحدث :
” مذ كان أصغرنا ..
يهجئ ما تخبؤه الغمامة
في كتاب العشب …
……………..
.. سنقل فردا يا أبانا
كي تقسم بين من ظلوا رغيف الحب
أنت الذي مذ قلت :
(لا تقصص على أحد رؤاك )
نذرته للجب ” ([19])
- من خلال يعقوب :
” (يعقوبنا )الأعمى ..
ترى كم (يوسفا) في الجب
ألقته الشعوب (النازحة )؟”([20])
- مباشرة مقرونا بالجب :
” للجب “يوسفه “
ولي قمصان من رحلوا
” ويكفيني من الماء السراب ” ([21])
لقد أدار الشاعر تجربته وفق قراءته للعالم القائمة على خصوبة الرؤية ، وعلى قدرات موهبته الشعرية التي اعتمدت لغة ساردة لعالم يبدو مطروحا على وعي المتلقي بحكمة العارفين ببواطن القصيدة المدركين أسرار صنعتها ، المتذوقين مساحات شجنها ، المكاشفين حنين الأرض لأبنائها النازحين .
………….
هوامش وإشارات
[1] – حسن إبراهيم الحسن : غامض مثل الحياة وواضح كالموت – دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع – دبي 2015، ص10.
[2] – السابق ص 13.
[3] – السابق نفسه .
[4] – حسن إبراهيم الحسن : خريف الأوسمة – الشركة السودانية للهاتف السيار (زين)- الخرطوم 2015 ص 31.
[5] – السابق نفسه .
[6] – السابق ص 32.
[7] – السابق نفسه .
[8] – الطائفة : الجماعة وورد في لسان العرب “والطائفةُ من الشيء: جزء منه. وفي التنزيل العزيز: وليَشْهَد عَذابَهما طائفةٌ من المؤمنين؛ قال مجاهد: الطائفةُ الرجل الواحد إلى الأَلف، وقيل: الرجل الواحد فما فوقه، وروي عنه أَيضاً أَنه قال: أَقَلُّه رجل، وقال عطاء: أَقله رجلان.
يقال: طائفة من الناس وطائفة من الليل. وفي الحديث: لا تزالُ طائفةٌ من أُمتي على الحقّ؛ الطائفةُ: الجماعة من الناس وتقع على الواحد كأَنه أَراد نفساً طائفة” لسان العرب مادة “طوف ” .
[9] – قال الشاعر :
أعطيت نَفسي من الآلام تسلية وَقلت علّ جروحي سوف تلتئم
إن الخلاف الَّذي طالَت مسافته بين الطوائف بعد الموت ينحسم
لَيتَ الَّذي حازَ بعضُ الناس من نشب عَلى مصالح كل الناس ينقسم
نويت هجر بلاد قد شببت بها إلى بَعيد وَلكن عاقني السقم
لا سامح اللَه ناساً مِن بَني وَطَني داسوا بأَرجلهم حقي وَما ندموا
[10] – خريف الأوسمة ص 5
[11] – غامض مثل الحياة وواضح كالموت ص 7.
[12] – خريف الأوسمة ص 53.
[13] – خريف الأوسمة ص 56.
[14] – خريف الأوسمة ص 111.
[15] – خريف الأوسمة ص 113.
[16] – خريف الأوسمة ص 115.
[17] – خريف الأوسمة ص 116.
[18] – خريف الأوسمة ص 92.
[19] – خريف الأوسمة ص 93.
[20] – غامض مثل الحياة وواضح كالموت ص 61.
[21] – غامض مثل الحياة وواضح كالموت ص 85، والشاعر يتناص مع قول المتنبي :
وَخَيلاً تَغتَذي ريحَ المَوامي وَيَكفيها مِنَ الماءِ السَرابُ