شطرنج

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

منتصر القفاش *  

كنا أنا وياسر نلعب أدوارنا الأولى في الشطرنج في الغرفة المطلة على الشارع. تعلمناه من أخيه الكبير الذي علمنا أيضا خطة نابليون. تلك الخطة التي لو تمت فإن الملك يموت في أربع خطوات. وعلى الرغم من أننا تعلمناها معا لكن كلا منا كان يبدأ بها متمنيا غفلة الآخر أو نسيانه تحريك قطعة واحدة: عسكري أو حصان أو وزير كي تموت الخطة في مهدها. ولم نستطع تنفيذها إلا مع أصحابنا الذين علمناهم الشطرنج وأخفينا عنهم تلك الخطة، ولم يكتشفوا كيف يواجهونها إلا بعد عدة هزائم.

عندما أتذكر تلك الأدوار الأولى أجد أنني خسرت الكثير منها بسبب تركيزي في سماع الأصوات الآتية من الشارع، والتي يستحيل أن أسمعها من شقتي بالدور الثالث. المسافة لا تذكر بين الدور الأرضي والثالث وكنت أقطعها صعودا أو هبوطا في لمح البصر، لكن الفرق بين الدورين كبير في وضوح الصوت. اثنان يتحدثان وهما يمشيان في الشارع فأسمع بوضوح وأنا جالس في الغرفة صوت أقدامهم المسرعة كما أسمع اختلافهما على وقت الموعد " لسه ناقص نص ساعة "، " هو قال الساعة عشرة يعني دلوقتي ". وكانت تشدني أكثر الكلمات المتطايرة من سيارة مسرعة أسمعها واضحة رغم هدير الموتور. في الألعاب الأخرى مثل الكوتشينة والطاولة كانت سرعة إيقاعها وصخبنا ومشاجراتنا لا تسمح لي بالتركيز في تلك الأصوات. لكن في الشطرنج كنا نتمهل أكثر من اللازم لنقلد الكبار وهو يلعبون ولنحس بأننا نفكر بعمق مثلهم على الرغم من أننا كثيرا وبعد طول تفكير نكتشف ما إن نحرك قطعة أننا أخطأنا. هذا التمهل أتاح لي أن أصغي للأصوات وأترقب ما سيأتي منها. وصرت أتخيل الشارع غرفة كبيرة ملحقة بشقتهم. وكلما ازدادت الأصوات وتتابعت كانت هزيمتي مؤكدة. لكن علاقة ياسر بتلك الأصوات كانت سببا آخر لخسارتي أدوار كثيرة. مرة وقد حل الصمت على الشارع سمعت صوتا خفيضا لشيء يتم سحبه على الإسفلت. وظننت في البداية أنها ورقة يحركها الهواء بشكل متواصل. وكان عليّ الدور في اللعب. طللت من الشباك. رأيت قطة تسحب دجاجة ميتة من جناحها إلى مدخل البيت المواجه لنا. وكانت رأس الدجاجة مطروحة للوراء وجفناها انسدلا بارتخاء على عينيها. ناديت على ياسر ليرى فوصف لي ما أراه دون أن يرفع عينيه عن رقعة الشطرنج. وصاح في:

–  دورك

تابعت القطة وهي تعبر الشارع كأنها تنفذ وصف ياسر إلا أنها توقفتْ فجأة ونظرت ناحيتي ثم شدت مسرعة الدجاجة وتوارت خلف الباب. لم تكن أول مرة أرى مشهدا كهذا، لكن تعرف ياسر السريع عليه دون رؤيته جعلني أحس بوجود شيء في المشهد لم ألمحه ولم أسمعه من قبل.

ثقته وهو يصف لي كانت عكس تردده الدائم في تحريك قطع جيشه. لدرجة أنه كان يكرر طلبه بإعادة قطعة حركها مع وعد بأن يسمح لي بالمثل. وكنت أرفض في البداية لأطيل فترة تظاهري بالقوة وبأنني صرت أسبقه بخطوات. فهمت يومها بأنني لا أستطيع أن أكون مثل ياسر في التعرف على الشيء من صوته إلا إذا سكنت معه في شقته. وبما أن هذا مستحيل لم يعد أمامي سوى أن أرهف سمعي أثناء لعبنا الشطرنج محاولا تبين العلامة المميزة لكل صوت خاصة الأصوات التي تبدو متشابهة. لم أجده أبدا متفاخرا بهذه القدرة رغم أنه أثبتها أكثر من مرة ودائما كان صوته واثقا. نسمع صوت ركض في الشارع فيقول ” كلب الواد علي ” وأطل من الشباك فأجده هو بالفعل وليس كلبا آخر من كلاب الشارع. يعلو صوت إغلاق باب عربة فيقول ” الأستاذ حسين رجع بدري النهارده “. كان يتعامل مع قدرته هذه على أنها ليست شيئا غريبا ولم يكن ينتظر مني أي تأكيد وأنا أسرع نحو الشباك لأرى ما عرفه قبلي. ومن ناحيتي لم أظهر أي اندهاش، ولم أعلق بكلمة كلما نجح في التعرف على شيء دون أن يتحرك من مكانه أمام الشطرنج. وعندما أعود إلى مكاني وصوته يتعجلني لأستأنف اللعب أظل مشغولا بدقة تعرفه على الصوت، وعدم قدرتي على أن أكون مثله فأخطئ في تحريك جيشي. ومرة لم أنتبه إلى أنه نصب لي خطة نابليون فارتفع صوته:

–  كش مات

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم