حاوره: خالد رفاعي
شريف رزق شاعرٌ وناقدٌ مصريٌّ بارزٌ، بدأ نشْرَ أشعارِهِ منذُ أواخِر الثَّمانينيَّاتِ من القرنِ الماضِي، في مِصْرَ وغيرِهَا منْ الدِّول العربيَّةِ، أصْدَرَ مجموعةً من الأعمالِ الشِّعريَّةِ، منْهَا: عُزلةُ الأنقاض، طبعة أولى: 199، لا تُطفِئ العتمة، طبعه أولي:1996، مَجَرَّةُ النِّهايات، طبعة أولى:1999، الجثَّة الأولى، طبعة أولى: 2001، حَيَواتٌ مَفقودَةٌ، طبعة أولى:2003، طبعة ثانية: 2010، أنتَ أيُّها السَّهو، أنتَ يا مَهبَّ العائلةِ الأخِيرَةِ ، طبعة أولى: 2014، هَوَاءُ العائلةِ، طبعة أولى: 2014.
كما أصدرَ مجموعةً منْ الأعمالِ النَّقديَّةِ البارزَةِ في دراسَةِ قصيدةِ النَّثرِ، منْهَا: شِعرُ النَّثرِ العربيِّ في القرنِ العشرين، طبعة أولى: 2010، قصيدَةُ النَّثرِ في مشهدِ الشِّعرِ العربيِّ، طبعة أولى: 2010، آفاقُ الشِّعريةِ العربيَّةِ الجديدَةِ في قصيدَةِ النَّثر ، طبعة أولى: 2011، طبعة ثانية: 2015، قصيدَةُ النَّثرِ المصريَّةِ: شعريَّاتُ المشهدِ الجديدِ ، طبعة أولى:2012، الأشكالُ النَّثرشعريَّةُ في الأدبِ العربيِّ، طبعة أولى 2014.
وقد سَاهمَ شريف رزق في سَاهمَ في تحرير مجلَّة (الشِّعر)، تحتَ رِئاسَةِ تحريرِ: خيري شلبي، فى الفترةِ منْ أكتوبر1993حتَّى أكتوبر1998، كمَا سَاهمَ في تأسيسِ مُلتقى قصيدة النَّثر، وترأسَ اللجنةَ العلميَّةَ بِهِ، كمَا قامَ بالتَّحكيْمِ في جوائزِ اتِّحاد الكُتَّاب، وجائزة الدَّولة في الشِّعرِ، كمَا اخْتِيْرَ عضوًا للجنةِ الشِّعر بالمَجْلسِ الأعْلَى للثَّقافةِ.
شريف رزق صَاحبُ الإسْهَامِ الأبْرَزِ، في دِراسَةِ قصيدَةِ النَّثرِ، مَعَنَا في هذا الحِوَارِ، عن قصيدةِ النَّثرِ الآنَ:
– بصفتكم شاعرًا وناقدًا، لماذا انتشرتْ الرِّواية وتراجعَ الشِّعرُ؛ حتَّى قيلَ أنَنا في نعيشُ في زمنِ الرِّواية؟..
بدايةً: ليسَ الانْتِشارُ – دائمًا – مِعيارًا، على العكسِ؛ فانظُرْ إلى أكثر الرِّواياتِ توزيعًا، وحدِّثني عن السَّببِ، وثانيًا: لا أتقبَّلُ مقولةََ:(زمن الرِّواية)، وأرَاها تدخُلُ في بابِ الحَمَلاتِ الصِّحافيَّةِ الدِّعائيَّةِ، وفيْهَا تعميمٌ وإقصَاءٌ، وهيَ مسبوقةٌ بمقولةِ:( زمن الشِّعرِ)؛ الأولى كانَ وَرَاءَها جابر عصفور، والثَّانية جعلها أدونيس عنوانًا لأحدِ كتبِهِ، وكمَا رأى القدماءُ أنَّ الشِّعرَ ديوانُ العربِ، رأى نجيب محفوظ ، في بداياتِ الأربعينيَّاتِ، أنَّ الرِّوايَةَ (الآنَ) ديوان العرب، وفي أواخرِ الثَّمانينيَّاتِ رَأى د. عبد القادر القِطّ أنَّ الدِّراما التِّليفزيونيَّةَ (الآنَ) ديوانُ العربِ، وأنا لا آخُذُ هذه الأحكامَ مَأخذَ الجدِّ، وأتساءَلُ: وَلمَاذا لا نعتبرُ هذا الزَّمنَ، زمن قصيدَةِ النَّثرِ، وهيَ نصُّ المَرْحَلةِ بامْتياز؟..
– فما رأيك في الرَّأي القائلِ أنَّ قصيدةَ النَّثر وراءَ الانصرافِ عنْ الشِّعر؟..
هلْ هُناكَ إقبالٌ على الأنواعِ الشِّعريَّةِ الأخْرَى؟، ومَا مِعيارُ تراجُعِ الشِّعر؟، وأعني بالشِّعر هنا قصيدةَ النَّثرِ؛ صاحبة الحضورِ الفِعليِّ في المَشْهَدِ، ومَنْ الذي يحكُمُ بتراجعِهِ؟، وبخصوصِ الشِّعر، الآنَ، فواقعُ الأمْرِ، أنَّ شكلَ القصيدِ النَّثريِّ هو الشَّكلُ المُمثِّلُ لِشِعْرِ المَرْحَلةِ، وهو الأكثرُ مُلائمَةً و تعبيرًا عنْ روحِ العَصْرِ وطبيعتِهِ، والأكثرُ حُريَّةً ومرونَةً، وهو الذي أنقذَ الشِّعريَّةَ العربيَّةَ منْ طريقٍ مسدودٍ دخلتْهُ في الثَّمانينيَّاتِ، ويُشاركُ في التَّحوُّلاتِ المُختلِفَةِ لهذا الشَّكلِ الشِّعريِّ، مُنذئذٍ، عدَّةِ أجيالٍ، في شتَّى أنحاءِ الخريطةِ الشِّعريَّة، وهذا الشَّكلُ في تجلِّياتِهِ الأخيرَةِ – التي تُنْشَر على صفحاتِ الفيس بوك – يتخطَّى شتَّى المَقولاتِ التي حاولتْ تحديدَهُ، وأوْقَعَ مَنْ يتناولونَهُ في مَواقفَ بائسةٍ؛ فهو يقترحُ جماليَّاتٍ مُتعدِّدةً على الدَّوامِ؛ كأنَّهُ يُغيِّرُ ملابسَهُ باسْتمرَارٍ، عَبْرَ تجاربَ عديدةٍ، لأجيالٍ مختلفةٍ، تكتُبُ بحُريَّةٍ مُطْلقةٍ؛ مُشدِّدةً على ما هو إنسانيٌ وحقيقيٌّ في التَّجربةِ الإنسانيَّةِ، مُلتحِمَةً بروحِ المكانِ ولغتِهِ، أمَّا مَا تتعرَّضُ له من نفيٍ، فأراه ضِمْنَ رُؤيتي ما يحدُثُ في المجتمعِ منْ تمدُّدِ الوعي الرَّجعي والعُنفِ السِّياسِيِّ ونفي الآخَرِ..
– ولكنْ كيفَ أنقذتْ قصيدةُ النَّثرِ، الشِّعريَّة العربيَّة منْ طريقٍ مسدودٍ دخلتْهُ في الثَّمانينيَّاتِ؟..
قصيدةُ النَّثرِ بَرَزَتْ كظاهرَةٍ شِعريَّةٍ، مُغايرَةٍ لمسيرَةِ الخِطابِ الشِّعريِّ، مُتأثِّرَةً بتحوُّلاتٍ دوليَّةٍ وقوميَّةٍ عاتيَةٍ، منذُ أواخِرِ الثَّمانينيَّاتِ؛ منْها تفكُّكُ الاتِّحادِ السُّوفيتيِّ، وانهيارُ حائطِ برلينَ، والاتِّحاد التِّشيكسلوفاكيّ والاتِّحاد اليوغسلافيّ، وتفكُّك ما يُسمَّى بالمشروعِ القوميِّ، على إثْرِ غزو العِرَاق الكويت، وما أعقبَهُ من الحرْبِ الإنجلوأمريكيَّةِ على العراقِ، وتفتيتِهِ، وتفتيتِ النِّظامِ العربيِّ بالكامِلِ، وإغْرَاقِ المنطقةِ في صِرَاعاتٍ طائفيَّةٍ، وصُولاً إلى السّقوطِ الحَضَاريّ الكامل في أيَّامِنَا.. وَالوَاقعُ أنَّ هذَا النِّظامَ العَرَبيَّ كانَ يتشقَّقُ ويتصدَّعُ بالتَّدريجِ؛ مُنذُ نكسَةِ 67، مرورًا باتِّفاقيَّاتِ السَّلامِ المِصْريَّةِ الإسرائيليَّةِ في أواخِرِ السَّبعينيَّاتِ، وصولاً إلى غزوِ العِرَاقِ الكويتَ.. وفي كلِّ هذِهِ المَرَاحِلِ كانَ القصِيْدُ النَّثريُّ مُقترَحًا شِعريًّا للخروجِ من الأزمةِ ومنْ حالةِ الانهيارِ، ومُنذُ مَطَالعِ التِّسعينيَّاتِ ظَهَرَتْ سِمَاتُ مُقَاوَمَةِ في هذا القصِيْدِ، تمثَّلتْ في التَّمسُّكِ بالشَّخصِيِّ واليومِيِّ والمَعِيشِ، رَفْضًا لنظريَّةِ العَولمَةِ؛ الَّتي أطلقتَهَا الآلةُ الأمريكيَّةُ في هيمنتِهَا على العَالَمِ وسَحْق القوميَّاتِ والهُويَّاتِ الأخْرَى.. وقدْ انْطلَقَتْ قصيْدَةُ النَّثرِ في المَشْهَدِ ؛ فغيَّرَتْ مَلامحَهُ، ومثَّلتْ علامَةً فاصِلَةً بيْنَ عهديْنِ، وبَدَتْ كأنَّ كلَّ التَّحوُّلاتِ الشِّعريَّةِ السَّابقةِ تُمهِّدُ لـ قصِيْدَةِ النَّثرِ، وتحْلُمُ بحُرِّيتِهَا؛ فأصْبَحَتْ بحقٍّ حاليًا جنسًا شِعريًّا مُسْتقلاًّ وحَدِيثًا..
– ولكنّ هذا الجنس لا يفهمُهُ كثيرونَ..
هذا شَأنُهْم، وشَأنُ النِّظامِ التَّعليمِي الَّذي سَلَكُوه، وشَأنُ ثقافتِهِمْ، هُمْ أُسِّسوا على فَهْمِ مفهومٍ وَاحِدٍ للشِّعرِ، لا يُشرِكُونَ مَعَهُ أحَدًا، هلْ عَجَزُوا عنْ فَهْمِ هذا الشِّعرِ، وفَهِمُوا التِّلالَ الَّتي تَرَاكَمَتْ أمَامَهُمْ منْ شِعرِ التَّفعيلةِ، على مَدَى عقودٍ، من شِعْرِ الطَّنطنَاتِ اللغويَّةِ المُوقَّعَةِ المُتكرِّرَة؟
– مَا أبْرَزُ مَا حَقَّقتْهُ قصِيْدَةِ النَّثرِ في رأيكَ..؟
أبْرَزُ مَا فعلتْهُ أنَّهَا اسْتعَادَتْ إنسَانيَّةَ الإنسَانِ، ورَكَّزَتْ على شِعريَّةِ اليومِيِّ والحَيَاتيِّ والسِّيَريِّ، فأعَادَتْ اكتِشَافَ الوَاقِعِ منْ حَوْلنا؛ باكتِشَافِ أشيائِهِ البسِيطَةِ في الخِطَابِ الشِّعريِّ؛ فأنقذَتْ التَّجربَةَ الإنسَانيَّةَ منْ التَّشيُّؤِ، وقدْ قادَهَا اهتمامُهَا باليومِيِّ والحَيَاتيِّ إلى بناءٍ سَرْديٍّ، وتصويْرٍ مَشْهَدِيٍّ؛ فانفتحَتْ بحُرِّيَّةٍ كامِلَةٍ على شَتَّى آليَّاتِ الأنْوَاعِ الأدبيَّةِ والفنيَّةِ، كمَا جَنَحَتْ، بوضُوحٍ، إلى أدَاءٍ شِفاهيٍّ، يستمِدُّ مَرْجِعِيَّتَهُ منْ الحَيَاةِ المَعِيشَةِ، وكثيرًا مَا نَرَى في هَذا الشِّعرِ تفاصِيْلَ الحَيَاةِ اليوميَّةِ..
– ولكنَّ الشِّعرَ القديْمَ أيضًا احْتَفَي بالتَّفاصِيْلِ..
نَعَمْ، الاحْتفاءُ بالتَّفاصِيْلِ الحَيَاتيَّةِ موجودٌ في الشِّعرِ العَرَبيِّ، مُنْذُ امْرئِ القيسِ حتَّى صلاح عبد الصَّبور، ولكنّ هذِهِ التَّفاصِيلَ في قصيْدَةِ النَّثرِ هِيَ الأسَاسُ الَّذي يبْنِى بهَا النَّصُّ صِوَرَهُ المَشْهديَّةَ وصورَهُ السَّرديَّةَ، والكلامُ نفسُهُ يُقالُ عنْ السَّردِ في الشِّعرِ..
– هلْ هناكَ مدارسُ نقديَّةٌ حداثيَّةٌ جديدةٌ، تُواكِبُ التَّحوُّلاتِ الشِّعريَّةَ الجديدةَ، في قصيدةِ النَّثرِ؟..
لا تُوجَدُ مَدرسَةٌ نقديَّةٌ مُحدَّدةٌ يُمْكنُهَا النَّفاذُ إلى شِعريَّةِ النَّصِّ الشِّعريِّ الجديدِ، وسَبْر أغوَارِهِ، ومَا أرَاه أنْ يحدُثَ في خِطابِ النَّاقدِ تداخُلاتٌ للمدارسِ المُختلِفَةِ، وشتَّى علومِ الخِطابِ، كمَا حدثتْ في النَّصيَّة تداخُلاتُ آليَّاتِ مُخْتلَفِ الأنْوَاعِ، وأنْ يقتربَ النَّاقدُ أكثرَ منْ أصْوَاتِ النَّصِّ وبناه واسْتراتيجيَّاتِهِ.. والواقِعُ أنَّ أكثرَ الذين تصدُّوا لدراسَةِ قصيدةِ النَّثرِ قد سَارُوا في عكسِ اتِّجاهِهَا؛ ففيمَا ظلَّتْ تتحوَّلُ وتتعدَّدُ في فَضَاءٍ حُرٍّ، ظلَّ هاجسُ اكتشافِ قوانينِهَا، هو الشَّاغلُ الرَّئيسُ لهم ، وظلَّتْ تُؤكِّدُ في كلِّ وقتٍ أنها تتخطَّى التَّأطيْرَ وتتجاوزُ ما يُستقرُّ عليْه.
– هلْ نَجَحَتْ الدِّراسَاتُ النَّقديَّةُ التي تناولتْ قصيدةُ النَّثرِ، في وَضْعِ مَعَاييرَ، ورَسْمِ صُورَةٍ شِبهِ كاملةٍ لهَا ؟..
الكِتابَاتُ النَّقديَّةُ التي كُتِبَتْ في مُوَاكَبَةِ قصيْدَةِ النَّثرِ لمْ تَرْقَ إلى مُنْجَزِهَا الشِّعريِّ النَّاجِزِ، وتناولتْهَا بذَاتِ الآليَّاتِ التي تتناولُ بهَا مَا قبلَهَا منْ شِعْرٍ قامَتْ قصيْدَةُ النَّثرِ في مُوَاجَهتِهِ، وأكثرُ هذِهِ الدِّراسَاتِ أُطروحاتٌ مدرسيَّةٌ، لا تليقُ بالبحثِ العِلميِّ ولا بقصيدةِ النَّثرِ، هيَ أشْبَهُ بالكتاباتِ الاسْتهلاكيَّةِ محدودَةِ القِيْمَةِ، وتظلُّ قصيدةُ النَّثرِ الحقيقيَّةُ، باسْتراتيجيَّاتِهَا النَّصيَّةِ الخَاصَّةِ، لا علاقةَ لهَا بهذِهِ الكتابَاتِ.
– ما الذي تهدُفُ إليْه دِرَاسَاتِكُمْ لقصيْدةِ النَّثرِ، على وجْهِ التَّحديد؟..
تَسْعَى دِرَاسَاتي إلى الكَشْفِ عنْ نظريَّةِ قصيْدَةِ النَّثرِ العَربيَّةِ، وآفاقِهَا الشِّعريَّةِ المُختلِفَةِ، ورَصْدِ تحوُّلاتِهَا الشِّعريَّةِ العربيَّةِ النَّاجزةِ، مُنذُ النَّشأةِ إلى الآنَ، ورَصْدِ شِعريَّاتِ كلِّ مَرْحَلةٍ، وهذِهِ الدِّراسَاتُ أصْبَحَتْ الأسَاسَ لبَحْثِ شِعريَّةِ قصيدةِ النَّثرِ، بعضُهَا طُبِعَ أكثرَ منْ مرَّةٍ، وهيَ المَرْجِعُ الأسَاسِيُّ في أطروحَاتٍ عديدةٍ في عدَّةِ دولٍ عربيَّةٍ.
……………………………
*” نُشر في مجلة: “الشِّعر”، العدد:161، ربيع 2016 “