أضاف الكاتب قبل بداية كل قصة مقاطع شعرية لشعراء مُختلفين كانت بمثابة الإضاءة المُصاحبة للقارئ أثناء قراءته ، تكشف بمقدار لكنه ليس كشفا ً كاملا ً . ” صامتة أحوم فوق الهاويةالصقيع الثقيل الذي حمل به البحر جسدي وحوش أسطورية لها ثغور آلة البيانو تتكئ على المهاوي مرتاحة في الظل عارية أنام ” جويس منصور .
في القصة الأولى ” فيما يرى النائم ” التي كالمدخل الذي أراد الكاتب أن يُمسك بيد القارئ ويجعله يتحسس خطواته الأولى داخل الكتاب . مثلما دخل الراوي قاعة المحاضرة و يرى نجيب محفوظ مؤسس الأحلام ، التناص بين الفكرة و المشهد ، الكاتب مثل محفوظ الرمز و الراوي مثل القارئ يتحسس خطواته داخل قاعة المحاضرة . و السيدة التي دخلت قاعة المحاضرات التي يحاضر فيها محفوظ ترمز إلي الشهوة و الغواية مثلما يسرد محفوظ علاقته بالكتابة فكلاهما غواية تستحق أن نتبعها حتى النهاية .
في القصة الثانية ” خارطة الجسد ” نجد العنوان مُعبر للغاية . فالراوي الذي يكتشف جسده للمرة الأولى في خارطة جديدة، فالمدلكة تجوس بأصابعها في اللا معلوم من عضلات جسده و تجعله في حالة انتشاء غير مسبوقة . ” كنت أكتشف مع كفيها ما لا أعرف من عضلات خفية في جسدي . عضلات صغيرة بين الكتف و الظهر، و أخرى بين الخصر و أسفل الظهر”. حالات الحلم داخل النص جعلت القارئ يتحير هل ما يرويه الكاتب حلم أم واقع ؟ حتى تأتي النهاية كاشفة لحالات الحيرة السابقة .
قصة ” موديل عار ” : لا أدري لماذا لم تكن هذه القصة هي القصة الرئيسية للمجموعة ؟ فمنذ أن قرأتها منشورة في أخبار الأدب منذ عامين تقريبا ً و حماستي لم تتناقص لهذا النص .
تشاء الظروف أن تكون سهام هي الجسرالمُوصل إلى الغواية بالنسبة إلي الراوي الفنان التشكيلي . نورا الفتاة الراغبة في الانتحار ، التي حددت موعد موتها سلفا ً ولا يتبقى سوى الوقت الذي يمر ببطء . و كمحاولة من الراوي لإنقاذها من الانتحار يوافق أن يرسمها ، لكن بشروطه هو أن يرسمها عارية تماما ً . يقف أمام اللوحة البيضاء و يجد نفسه مُرتبكا ً ، فسطوة جسدها حتى أنه يفقد القدرة تماما ً على استكمال الرسم و تحديدا ً بعد السقوط في علاقة معها في أشارة إلي تمكن رغبته و تحكمها فيه . لدرجة أنه لا يُكمل لوحاتهو يرسم فيها وجهه وهو ينظر في المرآة و كأنه أقتنع بكلام نورا عن سببها للانتحار بأن الناس لا ينظروا في المرآة ليدركوا خطأهم . جاءت النهاية مثيرة و باعثة على الإعجاب .
أستدعى الكاتب في قصة ” ما يراه النهد ” عوالم هيرمان هيسه الروحية ، لكنها هذه المرة مُفعمة بالحسية . يسعى الراوي لاستكشاف صوت نهد الفتاة المُستكينة على حافة البحيرة . فيغوص في عوالم روحية مُنصتا ً لجمالها . لتأتي النهاية الغير مُتوقعة التي تكشف أن الفتاةكفيفة . و أن أصابتها بالعمى لا تمنع أو تُخفف من حدة غوايتها .
قصة ” ساحر الموسيقى ” : الصوت أو الراوي هنا مختلف عن القصص السابقة ، من يروي هذه المرة امرأة ، و المثير أن القارئ يكتشف أن الرجلأيضا ً يصلح أن يكون رمزا ً للغواية وليس الأنثى فقط . مشهد إعجاب الراوية بالأصابع يُحيلنا لكتاب عزت القمحاوي ” الأيك في المباهج والأحزان ” تحديدا ً الفصل الأول المعني بالأصابع و رمزيتها . المشهد الخاص بإخراج العود من السيارة تبدو أشارة واضحة لتأجج شهوة الراوية و محاولة إفراغ شهوتها بالعزف على العود ، وكأن العود شريك يؤنس وحدتها و يطفئ رغبتها . ترغب البطلة في دفن أحزان صديقها و أحزانها و مخاوفها هي الأخرى في جسدها . المشهد الأبرز في هذه القصة الذي يرصد العلاقة المتشابكة بين الآلة الموسيقية و الرغبة ، هنا تبدو الآلة الموسيقية عامل إثارة . ” تأججت شهوتي فجأة . استعدت عزفي للحن أنت عمري ، داعبني إحساس بالغبطة لتمكني من عزفها أكثر من أي مرة سابقة ” .
حينما تتحول الرغبة إلي مرادف للقتل ، هذا مع ترصده قصة ” دون كيشوت ” ، يتورط الراوي في جريمة قتل نتيجة الانسياق وراء رغبة صديقته المهووسة بالجنس . فيقتل صديقتها خنقا ً في لحظة شبقية فريدة ، العنوان يشير إلي رواية ثربانتس “دون كيشوت” الذي كان يحارب طواحين الهواء لكن هنا البطل يحارب رغبته و جريانه وراء صديقته و خيالها المسعور حتى يغرق تماما ً في لجُة الجنون .
قصة ” الغابة السوداء ” مبدئيا ً لا أعتقد أن العنوان موفق، فلا أفهم سبب تسميته بالغابة السوداء . لو سمي النص بالغابة الحمراء لأصبح ذو دلالة . لكن هنا العنوان يسبب الارتباك ، توقعت أن تكون الغابة في أفريقيا ، أو البطلة أفريقية . لكن جاء السرد ليكشف أن كل هذه التوقعات خطفتها الرياح . لحاء الشجرة أشبه بالدعوة للغواية . امرأة لا يدري الراوي عنها شيئا ً تدعو صديقها من الفضاء الالكترونيلمغامرة . يزور الغابة و يكشف عن الشجرة صاحبة اللحاء ، لكن الشجرة واللحاء ليس أكثر من فخ منصوب له ، ليصل لصديقته التي تصل به لدروب مغايرة من الرغبة والشبقية لم يتذوقها من قبل .
في قصة ” عفاريت العولمة ” نجد مشهد البداية بوقوف البطل مُحتميا ً من المطر رومانتيكيا ً بعض الشيء، لكنه سرعان ما يعود للحاضر بعرض الفتاه لجسدها ليكتشف البطل وهجه . يتعرف الراوي على المرأة المُحتمية مثله من المطر ، تندهش هي من معرفته بالثقافة الفليبينية ، و هنا تبدو الثقافة أقصر الطرق للتعارف . تأخذ عنوانه على أن تزوره لكنها ترسل له فتاتينليقضي سهرته معهن ، ليتذوق الفتاه الخلاسية بحسيتها المفرطة ، ويتمنى لو يظل بين أحضانها . العنوان مُحير لكنه لا يكشف عن نفسه ألا مع نهاية القصة ، فالعالم يختلف في أي شيء لكنه يتفق على شيء واحد فقط وهو الرغبة و الجنس ، على فراش الغواية ينسى المُتحاربون أيدلوجياتهم و خلافاتهم السابقة ليتحدوا معا ً عازفين سيمفونيتهم الخاصة .
تبدو الطبقية واضحة للغاية في قصة ” شامات الحسن ” فالبطل الذي ينساق في علاقة مع سيدته ، تتحكم هي في مسار العلاقة و صعودها و هبوطها ، لدرجة انه لا يبادر برغباته فيها ، يترك نفسه لها ، خشية إغضابها . و نتيجة لهذه العلاقة المُرتبكة يسرح في جمال جسدها ليكتشف وجود خمس شامات للحسن مُبعثرة في جسدها .
قصة ” عينان شاردتان ” : الراوي أو الصوت هذه المرة عاهرة ، يطلبها أحد الزبائن ، لكنه يختلف عن الآخرين ، يتحسس جسدها بُحب ، يكتشفه يغوص في دروبه مستكشفا ً مكامن لذته . لتكتشف بعد ذلك أن هذا الزبون كفيفا ً . أكتشفها في حلمه و بين أروقة خياله قبل أن يلتقيها في الواقع ، بصحبتها يصل لدروب من المتعة لم يصلها من قبل و تسكتشف هي بصحبته عالما ً أخر لم تكن تدري عنه شيئا ً . النهاية المثيرةالتي تشير إلى أن الفنان الكفيف لم يتورع حتى عن استخدام جسد رفيقته وتقديمه قربانا ً ليس فقط للفن و إنما قربان انزواء موهبته و رحيل الفن للأبد .
جاء الحوار غير مناسب على الإطلاق في بعض القصص ، مثل قصة ” فانتازيا ” المفترض أن الأبطال أجانب ، فنجد أن احد الابطال يقول لصديقته ” أيوة كدة أطربيني يا مزة “. بالتأكيد توجد في اللغات الأخرى ما يعادل كلمة ” مزة ” لكن هذه المرة بدا المشهد وكأنه مزيج بين الأجنبية و العامية المصرية .
المثير أن إبراهيم فرغلي قدم توليفة من مختلف الجنسيات، جميعها تحتفي بالجمال، و ألقت بخلافاتها وراء ظهورهم . مما جعل القارئ يغرق في متعة الحكي التي تنفد بالتدريج مع قراءة قصة تلو أخرى.
ـ