سَفـر .. من رواية وصــال
أسماء جابر
الوحيدون لا يَمُتُّون إلى عالم البهجة بأي صلة .... لاصلة بين النبض الذي في ضلوعهم وبين الأفراح ، لكن بينهم وبين الحزن ميثاق غليظ ، تعتاد قلوبهم الألم ،وتفيض عيونهم حتى وهم صامتون ، وإذا.زاد عليها الأسى تفجرت بما لم تتفجر به المقل، تمتلئ بهم الأرض، لا يشعر بمرورهم أحد، كأطياف يعبرون ، يعيشون كما الأنبياء منبوذين، على سفر ، وإن حلُّوا فقلوبهم رحَّالة دائمًا .
مَثَلُ هؤلاء كثيرون .... رأيت منهم أول ما رأيت أمي ثم أولئك العابثة وجوههم على أرصفة القطار، كانت تنتظر كما ينتظرون ، يرحل هؤلاء وتستبدل المواطئ أقدامهم بأخرى ..ولا يتبدل الوجوم الرابض بين عينيها، لا يغادرها الأسى ، هكذا كانت أمي البيضاء ذات العشرين ألمًا ،كلما رن صدى طار في أرجاء النجع ،وكلما صدحت زغاريد في أقصى الدرب ، وكلما زفت البشرى مكتوبًا لإحدى الجارات من زوجها المغترب ،وكلما عاد مسافر إلى زوجته وأولاده فامتلأت داره صخبًا ولغطًا وإيناسًا ، تكتم لوعتها فتبدو لا فرق بينها وبين طائر القمري الحزين ،كانت صدَّاحة بموال ٍ لا شبيه له في الحزن ...لطالما أرهفتُ السمع لهدير حزنها الهامس، حفظتُ موالها عن ظهر قلب ، وأصررت أن أسترد نضارة قلبها المحزون.
كانت صامتة دامعة، كسماءٍ يجتمع فيها الإشراق والغيم، يتلبد قلبها بالوجع فتذرفه عيونُها، لم أقو أبدًا على مساءلتها ،كانت جمرة الجهل بداخلي تتقد مع كل عام يمر شبيهًا بسابقه، مرارًا حاولت أن أفصح بما يعتصرني لكن الحروف تعثرت على لساني كأني لا أعرف الكلام ، ظل السؤال متحجرًا ما بين شفتيَّ حتى هذه اللحظة، كم مرة حجبتني تلال الحزن الشامخة في صوتها المبحوح عن الكلام، حنجرتها لا تنساب إلا بالعديد ... ربما يجيبني أبي عن سبب الحزن الذي اتخذ من قلب أمي وطنُا له ، لكن المحطات لم تنته بَعْد ،تلقيني محطة لأخرى فــيُلقم الشوقُ قلبيَ جمرةً أخرى، أرصفة المحطات الممتدة بلا انتهاء لا تحنو على الغرباء، تَخَلَّى المتعبون عن أوجاعهم وتربعوا، ,والمتحرقون شوقًا مثلي ظلوا متأهبين على أطراف أقدامهم يقفزون نحو أبواب القطار قبل أن يستقر في وقفته، ثم يغوصون مثلي في بخار الأنفاس المتكدسة داخل العربات، أهرب من خاطر الخيبة ، فتغوص عيناي بعيدًا حيث لا تتباين حدود الأشياء... من نافذة القطار أبصر الرجال المسافرين بلا رفقة ،ينتظرون قطارات أخرى ستلقيهم كأبي في أماكن بعيدة، وقد استندوا على ما حمَّلَتْهم به الزوجات ، بينما اتكأت الشمس بصهدها على رؤوس الجميع.
منذ يومين أخبرتُها بما انتويت ، نهرتني بعنف وسَبَّت الحياة والغربة، ثم قالت بنفاد صبر:
_وابقى حصل ابوك ولا ترجعش إنت كمان.
_ربما إذا رآني كبرت تحن روحه إلى داره وأهله.
_داره الغربة.
نظرت في عينيها مباشرة وقلت لها بإصرار:
_ سيعود معي
قالت بنبرة من فوّض أمره للأقدار:
_الغربة حرية، وأبوك طِير عاشق الغربة.
يروقني دائمًا اختلاس النظرات الطويلة إليها، وبخاصةٍ عندما تضجر، أرشف من بقايا الابتسامة القديمة المتعلقة بأهدابها ، ترويني قوةً ،أتعجب من قدرة تلك العينين الناعمتين على الصلابة أعدها في سري بأن أنقذ تلك البقايا من التلاشي ، ترى كيف ستكون لو انسابت الابتسامة وروت كل ملامحها، تطاردني من نافذة القطار طلة وجهها المستدير في ذلك الصباح، ، تختفي السماء ،يضرب الهواء بعنف وجهي، يقتحم جيوب أنفي، أحاول الحفاظ على عينَيَّ مفتوحتين ، لا أستطيع ، أحتضن النخيل الممشوق ، والسحابات الباسقة ، ... تحدثني الأشجار الجافة والمجتثة عن عهدها المنقضي ، ثمة فروع طويلة عجفاء تشهد أطرافها الجافة بأنها كانت ذات ظلٍّ .... أي رياح تلك التي اقتلعت جذورها ، بل أي جفاف ذلك الذي أصابها فأيبس أوردتها الخضراء ... جريد النخيل تطوحه الرياح فيتماوج في الفراغ الأزرق ، تمرق صورتها من جديد بين الخوص الأخضر ، يغيب ضجيج القطار
ويعلو صوتها :
" ح تحصل أبوك ، حتروح وتسيبني ، وتسيب جدتك وتسيب إختك ..حتسيب الأرض ...؟
_قولي لي الحقيقة.
تصمت فيخترق صخب القطار أذني ، يرتج بعنف ثم يُبْطِءُ شيئًا فشيئًا.. يستقر على القضبان واقفًا ، فيتزاحم المهزومون والحيرى والغرباء للولوج، ألعن في سري ....تبًا للمحطات التي لا تنتهي ...تبًا للمجهول الذي يراوغني ...تبًّا للماضي المأسور في قلوب أحبتي، ولم يجرؤا على البوح لي به ...تبًّا للبلاد التي أدفأت أبي وآنَسَتْهُ فأَنْسَتهُ أهله ... ماذا لو لم أجده هناك بعد كل الأميال التي قطعتُها، والعناء الذي تكبده قلبي إثر بكاء أمي ، منذ أسبوعين ، لما جلست بجوارها وهي تغزل في الظهيرة ، وأفشيت لها ما انتويت القيام به ، احمر جبينها اللامع ، وضمت شفتيها بشدة ، بدأ المغزل يدور بعنف في يدها ، ولما كررت ما قلتُه ، ألقته من يدها فوق نثار الصوف البني ، والتفتت نحوي وبدأت محاولات إثنائي عن السفر ، أعرفُ ...هي مغامرة غير محسوبة العواقب ، كان تعليلها للرفض أنني صغير ولا أعرف من الدنيا شيئًا وقد تعترضني المخاطر مما لاشك فيه ، وربما تبتلعني متاهة البلاد الغريبة .
يغويني لمعان الذكريات فأنساق خلفه ، أسحب من صرة ملابسي كشكولا ثم أربطها مرةً أخرى، لا مهرب من زحف الاستفهامات المسنونة على عقلي إلا بأن ألقيَ بكل حواسي في بئر الوجع ، أنظر في الجالسين حولي ، متكئون في الحقيقة على أوجاعهم وليس على جدارات القطار ... كل من حولي عم في الحقيقة آبار آلام ٍ وبحيرات أوجاع ، لا يعلم قيعانها إلا الذي فطرها، يتصببون عرقًا ،وأنزف أنا على سطور كشكولي الذي يرافقني دومًا ...أو أعيد قراءة ما كتبته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقطع من رواية (وصـال) الحائزة على الجائزة الأولى في مسابقة المجلس الأعلى للثقافة 2016