ممدوح رزق
نشرت جريدة “أخبار الأدب” في 29 أغسطس 2021 عددًا خاصًا بعنوان “نجيب محفوظ.. في ذكرى البنّاء الأعظم”.. وصف استسهالي مبتذل مثل هذا فيه من الشوفينية الرادعة أكبر بكثير مما يمكن أن يخطر في ذهن كاتبه، وذلك لا علاقة له بأدب نجيب محفوظ نفسه الذي لا يحتاج إلى صيغ تفضيل مطلقة وطفولية كهذه لتقديره، لكنها كافية لمجابهة أي نزعة للتمرد على التراتبية الأدبية أو هيمنة (الرموز والروّاد) على قمة السلم الوهمي للقيمة.. يذكرني هذا بعنوان مماثل على غلاف نفس الجريدة منذ حوالي 15 عامًا، حينما جمع المسؤولون عن تحريرها وقتئذ عشرين كاتبًا شابًا تقريبًا ـ لا أحتاج للقول بأنهم قاهريون ـ في ملف أطلقوا عليه “كتّاب الألفية في مصر”.. مسارات النشر والنقد والترجمة والجوائز… إلخ قائمة بشكل أساسي على تشابكات لانهائية من التزييف والتواطؤ بين المكرسين مركزيًا (كتّاب، صحفيين، نقاد، ناشرين، أكاديميين)، وبمعنى آخر؛ لا يتحقق التاريخ الأدبي الرسمي إلا بتراكم متواصل من التضليل العام الذي يثبت تأثيره في النتائج الاستثنائية قبل التي تؤكده كواقع شامل.
يسهل تعرية الكليشيه التوصيفي هذا عند كل محاولة للإجابة على الاستفهام البسيط الذي يحتم طرحه منطقيًا: أعظم بالنسبة لمن؟.. بالتأكيد ليس للبشرية جميعها عبر العصور كافة, كما أن (الأعظم) قد يكون بالنسبة لأي إنسان متغيّرًا وليس ثابتًا، أي أن المعايير التي يقوم عليها حكم (العظمة) في لحظة ما بكل امتداداتها ربما تتبدل وتتلاشى فضلًا عن خضوعها طوال الوقت للمساءلة والجدل والمقارنة بمعايير أخرى، ولو كان بالنسبة للأغلبية كما يفترض (مبدع الوصف) فإنها الأغلبية التي يعرفها هو.. التي يستطيع قياسها وفقًا للحدود التي تتحرك داخلها فرديته وحسب وليست التي تتجسد في ذاتها داخل كل مكان وزمان كيقين كوني.. إذن هو أولًا وأخيرًا توصيف لوجهة نظر، وحينما يكون كذلك فإن موضعه البديهي هو عنوان مقال لصاحبها وليس عنوان ملف عن (كاتب) لا (إله).
أتذكر أنه منذ 4 سنوات طلب مني الأستاذ “السيد حسين” شهادة عن نجيب محفوظ لمجلة “الأهرام العربي”.. كتبت في هذه الشهادة تحليلًا مختصرًا لما أراها مظاهر دهاء الكتابة عند محفوظ.. لكنني فوجئت بنشر الشهادة مرفقة باقتباس يتضمن هذا التعبير: (رائد الرمزية السحرية) وهو ما لم يكن له أي حضور في الشهادة نفسها ويتنافر كليًا مع كتابتي بشكل عام، حيث أنني لا أستخدم كلمات مثل (رائد) أو (رمز) إلا لكي أسخر منها.. أدرك تمامًا الفرق بين تشريح جماليات الكاتب وبين التقديس الساذج له.. ببن التوحد والاشتباك بعوالمه السردية وبين تحويلها إلى سلطة لا تاريخية مرهبة.. رأيت الخطأ وقتئذ أقل أهمية من مجرد الإشارة له، ذلك لأن الشهادة نُشرت بالطبع في مدونتي بعنوانها الأصلي (الرمزية السحرية عند نجيب محفوظ) وكذلك في كتابي (استراقات الكتابة).
أستعير هذه الفقرة من كتابي “نقد استجابة القارئ العربي ـ مقدمة في جينالوجيا التأويل” للإشارة إلى الدور الذي تمارسه ألقاب مثل “البنّاء الأعظم”، أو “الصانع الأمهر” كما أطلق أحدهم على المعجزة الفكاهية “إله السرد” ذات مرة:
“أستطيع أن أمتد بهذا الخط على استقامته الآن كي أفكر في هذا الخطاب النقدي المهيمن عبر التاريخ، والذي تقوده (أسماء) لم تمتلك (السلطة) إلا بفضل الأنساق المعرفية (المؤسسية) التي تكوّنت وتراكمت تدريجيًا من خلال آليات الفرز والتنميط والإقصاء، ولم يعد لزمنها الخاص تعريفًا إلا بواسطة لامركزيتها، أي التناسل العشوائي لعلاقات القوة المتشابكة داخل أنظمتها المحكومة بالمفاهيم. تُشكّل هذه الأنساق إذن منهجًا من القواعد التي تُخضع القراء بصورة عفوية لـ (بداهتها المطلقة)؛ حيث كل إدانة، أو كل إقرار للصواب أو الخطأ يمارسه القارئ سيستمد (شرعيته الجمالية) من هذا الوجود المعرفي الذي يمتد طغيانه كغرائز توجيهية وإرشادية تمثل (الحقيقة)”.
هل أنا في حاجة الآن للتأكيد على تقديري واحترامي الشخصي لأسرة تحرير “أخبار الأدب” وخاصة الكاتبة منصورة عز الدين والأستاذ طارق الطاهر، وأنني أتشرف كثيرًا بالأعوام التي قضيتها في كتابة مقال شهري لـ “بستان الكتب” قبل أن أتوقف منذ عامين تقريبًا بصورة مؤقتة عن كتابة القراءات النقدية، وأنني كتبت مقالًا تهكميًا عن “كتّاب الألفية في مصر” قبل سنوات في موقع “شبكة شباب الشرق الأوسط” والذي كان يحرره الكاتب والمترجم “أحمد زيدان”؟.. ربما أنا في احتياج لذلك حقًا نظرًا لأنني لا أتحدث مع أحد ولا أتبادل المكالمات الهاتفية أو الرسائل الإلكترونية أو المحادثات الخاصة مع من يمكنهم أن يجعلوني في غنى عن هذا التأكيد.
ثمة فرق بين من يتصدى لماكينات التأليه الثقافي راهنًا وتاريخيًا بمعزل عن أطر الحماية النخبوية ومجردًا من التكاتفات المتحيزة للقبائل والجماعات الأدبية، وبين من يفعل ذلك ضامنًا لصلابة ما يرد عنه الأذى وما يوطده في الوقت نفسه كمتن مغاير.