ممدوح رزق
كان يمكن لعمرنا القصير الذي توزع بين نادي الأدب بقصر ثقافة المنصورة والندوة الأدبية الأسبوعية بحزب التجمع ومقهى الفراعنة ومقهى اللبن وفندق مارشال المحطة أن يكون ذا مزاج رائق ولكنكم للأسف لم تجعلوه كذلك.. لم يكن من الممكن أن أفكر ـ إلا نادرًا ـ في توجيه إهانة أو مجرد تلميح جارح يتعلق بحيواتكم الخاصة، حتى مع محاولات فرض الهيبة الماكرة (المضحكة دائمًا) أو السخرية من الارتباك الشخصي المقترن بالتنازلات المهلكة التي قُدمت لإشباع الرغبة في اكتشاف ما يُسمى بـ “الصداقات الأدبية”؛ حتى مع ذلك لم يكن الأمر ممكنًا.
كل ما فعلته أنني كتبت قصصًا قصيرة عن شاعر قصيدة النثر وزوجته وعن الفنان التشكيلي وممثل المسرح وصاحب متجر الكتب على سبيل المثال.. لم أكتبها كانتقام أخلاقي بالطبع؛ فالهازئ بالآثام لن يستهدف أحدًا بها، ولكنها كانت تمرر لبصائركم الخربة معادلة تهكمية بسيطة: إذا كان هناك أشخاص جديرين بالأذى لأن بعض البشر (مثلكم) يرونهم أطفالًا غافلين؛ فإن هناك أشخاصًا آخرين جديرين بالأذى أيضًا لأن بعضًا آخر من البشر (غيري) يرونهم قوادين ولبوات.
“كان أيضا يريد أن يتصرف مع صديقيه الآخرين وفقا لهذه الحكاية.. لم يكن يريد أن يجرح أو يؤذي أحدا وللعلم هو صادق جدا في هذا.. كان فقط يريد أن يستخدم حكاية الصديقين والزوجة في تثبيت مصباح أحمر داخل روح كل من صديقيه بحيث يضيء فورا حين يفكر أي منهما في خدش كرامته.. كان يريد أن يخبرهما بشكل غير مباشر أنه يعرف الحكاية أو يلمّح لهما مجرد تلميح بالأمر وأن عليهما إذن أن يحرصا تماما على عدم استفزازه حتى لا يتكلم بصراحة مطلقة أمامهما وأمام الجميع.. الصديق الثالث فشل ببراعة وكالعادة في أن يحقق هذا ولم يتمكن من إحداث أي تغيير في علاقته بصديقيه.. كالعادة أيضا ظل يرجع كل ليلة من المقهى إلى بيته سعيدا وهو يردد بدخله: أنا أعرف الحكايات.. أنا أعرف الحكايات.. أنا أعرف…”…
قصة “أفراح العين الزجاجية المحتقنة” ـ مجموعة “قبل القيامة بقليل”
كانت استجاباتي تستثمر تلك القصص ـ التي كانت ستُكتب في جميع الأحوال ـ لتمرير ثأر بديهي مما يمثله حضوركم في العالم وليس مما كنتم عليه في الواقع.. تصفية حساب مع الغيب تتضمن تذكيرًا ـ كعاهة مستديمة ـ بأنني أعرف أسراركم، وتوثيقًا ساخرًا لتلك الفصول المسلية من تواريخكم يتضمن إشارات دالة على شخصياتكم لمن أراد أن يتعرّف على (أبطال) تلك الحكايات.. كانت قصص يتجاوز جوهرها الانتقام الشخصي إلى محاكمة المشيئة الخالقة والضامنة للألم الذي يمكن أن يصيب أحدًا ما لمجرد أنه يتلعثم أحيانًا أو لا ينتبه إلى تعليق لئيم أو يتعامى عن ابتسامات وإيماءات لاذعة.. الألم الذي يمكن أن يصيبه من أحد الشعراء (المناضلين) كان يجلس معه في المقهى بينما زوجة ذلك الشاعر تنام مع صديقه (المبدع) في تلك اللحظة أو فنان تشكيلي يحمل سرًا كارنيه عضوية الحزب الوطني أو يضاجع القاصرات من طالباته أو “ناشط ثقافي” يستعمل مقر عمله في استضافة حفلات الجنس الجماعي مثلًا.. كانت تلك حقائق وجودكم المتداولة لدى أقرانكم محل الثقة، وعلى النحو ذاته الذي جعلكم تتعاملون مع الأقنعة (الطفولية) التي ألصقها الآخرون بوجهي كحقائق أيضًا.
” كنت أظن أنني سأقدر على امتلاك المدينة بعد اختفاء الكتّاب والفنانين الذين كنت أجلس بجانبهم في مقهى “الحرية”.. بعد غياب القوادين، ولصوص الكتابة، والكاذبين، والواشين، والمدعين، والأنذال، وخدّام الاستعراضات الساذجة.. الذين لم تتوقف أرواحهم الوضيعة عن فضح العورات المبهرة التي كانوا يحاولون إخفائها وراء أقنعة المعرفة والهيبة والخبث المثير للشفقة”.
نوفيلا “جرثومة بو”
كان يمكن لعمرنا القصير أن يساعدني على الاختباء بذكريات أقل سخافة.. أن تكونوا امتدادًا ـ ولو بصورة محدودة ـ للحياة التي كنت أعيشها مع زملائي في قصر ثقافة الطفل: جماعة صغيرة من المغامرين يستكشفون غموض العالم من داخل فضاء ضئيل، حميمي ومقفل.. كان يمكن أن نتشارك في تجربة الصداقة الأدبية كما كانت تتجسد في دراما الثمانينيات داخل المقاهي الشعبية القديمة وحجرات المكاتب وصالونات البيوت المنطوية على الشغف والسكينة والتشوّق النقي لامتلاك الدنيا وما ورائها, لكنكم للأسف أهدرتم تلك الفرصة.
“كنت أريد أن نضحك ونتكاتف في تشريح العالم كشلة مغامرين يشبهون أبطال السلاسل البوليسية القديمة، حيث عشت دائمًا أنتظر من يشاركونني تحقيق هذا الرجاء، ولكنكم كنتم تجبرونني طوال الوقت على التعامل معكم كعبيد، مُقدِمًا المسايرة والتغاضي والكبح المتعشّم للكراهية حتى أحصل على الثمن بتقديسكم لي”.
نوفيلا “جرثومة بو”