“سيجارة سابعة”.. رواية الحنين والنهايات غير المكتملة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رواية أخرى ممتعة وتستحق القراءة .. "سيجارة سابعة" الصادرة عن دار ميريت لمؤلفتها دنيا كمال ترسم لنا بحساسية فائقة لوحة لفتاة تفقد أكثر مما تجد، تحلم أكثر مما تتحقق، وتمتلك حنينا رائعا لذكريات منقوشة فى القلب وفى الذاكرة، نوستالجيا بديعة تتقاطع مع حاضر ثورة جيل بأكمله، أجمل خطوط الرواية علاقة البطلة بوالدها، وأحلى معانيها فى هذا التعبير العميق عن قلق البحث عن الذات وعن الآخر، الذى لاتكتمل الحياة بدونه، وأبرز ما يميزها تيمة الفراق والرحيل، وهما يعادلان الموت سواء بسواء، ولايخفف منهما وجبة طعام تتفنن بطلتنا فى إعدادها، أو سجائر تحرقها، أو جلسة صامتة فوق كنبة داخل حجرة ضيقة، هذه رواية النهايات غير المكتملة بامتياز، قصتان للحب لاتكتملان، وأب يعانى من مرض القلب، ويودع الحياة، وثورة نجحت فقط فى إزاحة الفرعون، ومع ذلك فإن الرواية ليست كئيبة على الإطلاق، نادية بطلتها تمتلك أملا، وحلما، وخزانة ذكريات تضع فيها لحظاتها المقتنصة، وتجيد إحياء من تحب وقتما تشاء.

نجحت المؤلفة الى حد كبير فى تشكيل ملامح بطلتها التى تعيش فى طفولتها مع جدتها بسبب عمل الأب، وسفر الأم الى الخليج لتحسين دخل الأسرة، نادية تعرف الموت مبكرا، يحتضنها جدها، يغمض عينيه، فيرحل، ولكنها تعرف أيضا معنى الإحتفاء بالحياة من خلال جدتها التى تصنع أمامها الطعام، تتواصل على صفحات الرواية تفاصيل الأطعمة التى تبدو كما لوكانت إحدى الخيوط التى تربط نادية بحياة رتيبة ومملة، الطفلة التى عاشت فى بيت جدتها ظلت مغتربة عن العالم الخارجى، ظل ذلك حتى بعد أن استقلت بحياتها، وبعد أن أصبحت تمتلك أصغر شقة فى العاصمة، وبعد أن اصبحت تعمل كمترجمة، فى الثلاثين من عمرها، و ما زالت تمتلك أحلاما: ” كانوا يقولون عنى ، ماليش كبير .. أفعل ما أفعل وأذهب الى الأراضى المجهولة والبحار البرتقالية والزراعات المتقشفة والجبال اللينة . أذهب وأجرى بكل قوتى الى المجهول .. الترحال هو الغاية ، والولع باللحظة التى لاتدرى عنها شيئا هو صلاتى” ، وما زالت تمتلك حقيبة ذكريات ثرية، تسرد لنا طفولتها بكل أصواتها وألوانها وروائحها، أغنيات أم كلثوم، رائحة صينية البطاطس، وطعم فنجان القهوة الذى شربته منذ طفولتها المبكرة.

ثلاثة رجال فى حياة نادية، الأب المناضل القديم، الذى يحكى لها عن ذكريات السجن فى الواحات بكل معالمها، ضربات الكرباج، ولمة الأصدقاء، ولحظات الألم، ولكنه يشارك معها فى ثورة يناير، رغم أوجاع القلب الضعيف، كما يحكى لها عن حكاية حبه لأمها، رسائل الأم إليه قبل أن تقابله، ردود الأب من ألمانيا التى عاش فيها فى نهاية الستينات، أجبرا الجدة على الرضوخ، ذهبا وتزوجا رغم أن العريس صحفى يعمل حسب الظروف، سيظل الأب، وعلاقة نادية به، العمود الذى يمسك بالذكريات المتناثرة، والتى تنتقل بها الساردة نادية بين الزمان والمكان بلا ترتيب، حضن الأب هو سلام كل الأكوان والمجرات، ولكن نادية (وهى شخصية رومانيتكية بامتياز) تعيش أيضا حبا جارفا مع رجلين: زين الشاعر الخمسينى الذى تفقده بالموت، و”على” الشاب الذى ترى فى عينيه براءة تفتقدها فى المدينة الصاخبة، ولكنها تعلم أن علاقتهما محكوم عليها بالنهاية، تبدو وكأنها علاقة من طرف واحد يعطى، فى ميدان التحرير، هناك ايضا شاب ثائر، ولكن تفاصيل إعجابها به مثل كثيرات، تنتهى بنهاية مشاهد الميدان، التى تم تقديمها بحيوية كبيرة، فى تأمل نادية للثورة ما يحمل بعض الإستغراب، توقعت أن يثور الذين لايملكون شيئا، وليس أولئك الذين يقفون فى الوسط من كل شىء، الذين لايمتلكون شيئا هم الأقدر فى رأيها على التغيير الجذرى، تكاد نادية تتوقع أن تنحى مبارك  لن يحقق الكثير، نهاية أخرى غير مكتملة.

الذات التى تروى مغتربة بالأساس، ورغم أن بطلة الرواية تجمع فى شقتها أحيانا زملاء وأصدقاء لا تعرف كيف اتسع لهم المكان الصغير، إلا أنها تبدو منعزلة عن جيرانها، ولا تعلن عن وظيفتها لجارها الذى يطاردها بنظراته المتأملة إلا وقت مغادرتها الشقة فى نهاية الرواية، علاقة نادية بمطبخها ووجباتها أقوى بكثير من جيرانها، إنها تحكى بالتفصيل طريقة شرائها لللبصل والثوم والطماطم والباذنجان، ولا تتركنا إلا وقد تصاعدت رائحة صينية المسقعة، ولكن إحدى وجباتها أيضا لن تكتمل، وستلقى ببقاياها فى سلة القمامة، هناك حلقة مفقودة فى حياتها مصدرها الرحيل والفراق، ما يجعلها متماسكة شخصيتها القوية، تعلمت من والدها ألا تكون على الهامش، وسعت دائرة اهتمامها من البيت الى الوطن، كانت طفلة عصّية الدمع، لاتبكى كثيرا، لايدوم ذلك عندما تكبر، بين ذكريات حية طوال الوقت، وحاضر لا تتحقق فيه، تنشأ معاناة داخلية أجادت دنيا كمال وصفها وتحليلها، لا السجائر المتتالية تحل هذا الإغتراب، ولا الطعام الذى تصنعه يجد من يأكله، لم يبق إلا أن ترحل الى صديقتها رضوى التى غادرت مصرمنذ سنوات طويلة، اغتراب مكانى بعد اغتراب نفسى استمر طوال الرواية، الإندماج فى أحداث الثورة انتهى بنهاية الثمانية عشر يوما، ينغلق القوس دون أن تستقر نادية ، غابت الأشياء وبقى الأب : ” اكتشفتُ منذ زمن عدم قدرتى على الإرتباط بشىء ، منذ متى أصبحتُ هكذا؟ منذ مات أبى؟ منذ تسع سنوات؟ كان القرار واضحا منذ ودعته فى طرقات القبر الضيق، لن أستثمر مشاعرى ثانية فى مخلوقات حية، اتفقتُ معه على ذلك فى غضب عارم أمام ثلاجة المستشفى، وأنا ألومه على خداعه لى عندما تركنى أتشعلق فى وجوده وهو يعرف أنه لن يبق طويلا، أخبرته فى هدوء وأنا أفك الكفن عن رأسه وعن قدميه أننى لست غاضبة منه، ولكننى مغتاظة وحانقة وأمثل الهدوء حتى لا أزيد همومه” ، بوفاة الأب، يفقد المكان والزمان معناهما، تفتقد نادية الخيط الأخير الذى يربطها بالوطن، تطفىء سيجارتها السابعة التى ارتبطت دوما بالإنتظار أو الرحيل ، تأخذ باسبورها وتذكرتها الى رضوى، تتأمل الحياة من نافذة السيارة كما كان يفعل والدها، تقول إنها ربما تعود فى يوم ما لتبدأ من جديد.

لا يعنينا فى الروايات حجم الذكريات والأحداث الواقعية التى استقى منها الكاتب عمله، لأن الوقائع عندما تدخل بنية الرواية تتحول الى عمل فنى مختلف، الفن يصنع حقيقته الخاصة، وهذه الرواية تنضح صدقا وحنينا وحلما، تصلك عبر سطورها ملامح أب وابنة وزمن قديم وحاضر، ولا يفرق كثيرا أن تحمل البطلة اسم نادية أو دنيا، لا يفرق أن يكون الأب الحقيقى لم يشارك فى الثورة لأنه مات قبلها، المهم أن أب الرواية كان متسقا مع ماضيه، فأصبح فى الميدان، المهم هو هذا التماسك الفنى الذى تحقق بدرجة واضحة، رغم الذكريات المبعثرة، ورغم الشخوص التى لا تكمل المسيرة. ربما يكون أحد المفاتيح أيضا العبارة التى تصدرت الرواية اقتباسا من “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، والتى تقول : “ولا يحول بيننا وبين السعادة، إلا العفاريت الكامنة فى أعماقنا”، لعلها محاولة من دنيا كمال لكى تطرد العفاريت بإسقاطها على بطلتها المغتربة، ولعل الكاتبة تكون أقرب الآن الى السعادة، بعد أن تحررت بالسرد، وبعد أن أخرجت شخصياتها الراحلة من خزينة الذكريات . 

مقالات من نفس القسم