البشير الأزمي
أتذكر ..
أتذكر أنكَ عَبَرْتَ طفولتكَ في وُجْد..
وضعتَ قدميك على قنطرة العشرين وأنت تستعدُّ لتعبرها بسلام وتصل إلى ضفة أحلامك..
أتذكر تلك الفترة التي تقاسمتها وإياك، أتذكرها بالتفاصيل الدقيقة. كنتَ قاعداً وأذناك متأهبتان لسماع خبر يفرحك.. التعبُ يُراقِصُ جسدك وأنت تودِعُ قلبك أحلاماً تنزفُ من ذاكرتك.. قلبٌ مُتْرَعٌ بالأحلام. كانت أحلامك صغيرةً بقدر صغر عمرك، وكبيرة بِسِعَةِ الأفق؛ كان حلمك أن تضحى مقيداً بوثاق العشق وأنت تركضَ سعياً للحاقِ بالسماء.. قلتُ لك حينها إن السماء مأوى العاشقين. ابتسمتَ، وقفتَ، اقتربتَ من النافذة، نظرتَ إلى السماء وقُلْتَ وأنت تخاطب طيفاً تراءى لك:
” لَبَّيكِ.. سأُبحرُ وإن كنتُ أدري أنَّ لُجاجَ العشق قادرٌ أن يجرفني إلى الأعماق. “.
فتحتَ عينيّك وإذا بك غارق في يَمِّ قلبك. يلْفَظُك القلبُ يلفظ.
أتذكر…
أتذكر أنَّ لُجاجَ العشق جرفكَ إلى الأعماق؛ إلى أعماقٍ لا عقرَ لها.. حَدَّثتني عن عشق تبخرَ كتبخر سحبِ يوم قائظ وتركَ قلبك الندي ينزف وُجْداً وصبابة.. حَدَّثتني عن بيوت أعياها الزمن وتداعت أغلبُ دورها. حَدَّثتني عن أحلامٍ طويتها ووضعتها في درج دولاب عتيق حتى تخفيها عن أعين المتلصصين على فرح قلبك.. ومضت الفكرة في ذهنك بسرعة البرق وحاولت تطبيقها، غالبك خدرُ الفكرة، سكرتَ وانتشيتَ..
أتذكر أنك اقتربت من النافذة ووقفت على بنان قدميك كي تطل، أطللتَ، حدَّقتَ في الفراغ ونزتْ دموعٌ من عينيك. أحسستُ برطوبة الدمع في عينيك، وأنت تكز على أسنانك وتتجنب النظر في عيني..
أتذكَّرُ أنك حدثتني، وقتئذٍ عن عشقك وهواك.. عن كليوباترا وماركو أنطونيو، عن أبولو ودافني، عن باريس وهيلين، عن شهريار وشهرزاد، عن قيس وليلى.. عَنْ وعَنْ وعَنْ…
لكنك لم تحدثني عن موت زوجة أنطونيو وزواجه من أوكتافيا، وفقدان كليوباترا صوابها لكثرة غيرتها وموت ماركو أنطونيو بين يديها، ولا حدثتني عن إيروس وهو يرمي أبولو بسهامه الذهبية ويغرقه في حب دفني ويرمي دفني بسهم معاكس فترفض أبولو، ولا حدثتني عن باريس وهيلين ولا عن شهر زاد وشهريار ولا عن قيس بن الملوح وليلى.. عُدْ إلى رشدك، انظر حولك، عصافير كثيرة متشبثة بأغصان الأشجار وأخرى تحط عليها وسرعان ما تطير. أغمض عينيك وَتَنَصَّتْ لنداء القلب..
أتذكر ونحن نشرف على الموت والعمر يتقدم بنا ويضغط علينا بكل قسوته أنك همست لي يوماً: ” إن السكون يغمر الفضاءات إلا داخلي..”، صمتَّ للحظة تنتظر ردة فعلي. لما رأيتني متمسكاً بالصمت تابعتَ:” أتساءل لماذا اختار التعب أن يستوطن قلبي … وكلما نظرتُ إلى المرآة يطالعني جسدٌ يحمل وقعَ الوجع.. غيابُ الطيف ترك فراغاً بحجم الفقد.. فقدٌ جعلني أقتاتُ من الألم.
أتذكر أنكَ عَبَرْتَ طفولتكَ في وُجْد..
أتذكر أن حلمك كان أصداء فرح…
أتذكر أن الوجد لم يعرف، يوماً، طريقه إلى قلبك..