سعد القرش.. التمرد على الظلم والعوض في أجيال آتية

موقع الكتابة الثقافي writers 90
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

   د. جورج جحا

   في «وشم وحيد».. الرواية التي صدرت أخيرا للكاتب المصري سعد القرش ثورة مستمرة على الظلم وعلى ازدراء الإنسان، ودعوة صارمة إلى تقويم ما اعوج أو استوحش من التصرف البشري الذي يظهر من خلال التحكم بمصائر الناس.

   إلا أن الثورة في الرواية هي ذات مدى طويل وكفاح مستمر، وقد لا تؤتي ثمارها للمناضلين إلا بعد زمن، وربما جاء التعويض في شكل أجيال جديدة تولد من رحم العذاب.

   تدور الرواية وتجري الأحداث مع بطلها «وحيد» خلال حفر قناة السويس. المشروع كبير ووراءه مصالح كبرى، ومن يعمل فيه مثل وحيد وأبيه يتحمل السياط والعذاب والموت دون دفن يليق بالإنسان وكرامته.

   في الدين الاسلامي تشديد على أن إكرام الميت دفنه. وفي القصص الأسطوري اليوناني القديم

تواجه «أنتيجوني» (أو أنتيجونا) العذاب والآلام الرهيبة لأنها رفضت أن تترك جثة أخيها دون دفن كما أمر قريبها الحاكم الطاغية.

   السؤال هنا هو هل نترك الميت دون دفن فنرتاح، أم نتحدى القانون الظالم والحاكم الطاغية وندفنه فيحكم علينا بعذاب لا مثيل له؟ أنتيجوني اختارت الدفن مع ما يستتبعه ذلك من العذاب، وفي الوقت نفسه استسلمت لقدرها بعناد. بطل سعد القرش اتخذ القرار نفسه، لكنه لم يستسلم لقدره بل بدا كأنه يسعى إلى كتابة هذا القدر بيده هو.

   حمل جثة أبيه من مكان إلى مكان، هربا من الطغاة الذين قرروا رمي الجثة وغيرها من الجثث في الفلاة دون دفن حقيقي لائق. وقد كافح الظلم وارتكب القتل دفاعا عن النفس في سبيل هذا الهدف. الأثر الديني في هذا الموقف أكيد، ويبدو مسلما به، لكن العنصر الدرامي لا يقل عنه قوة بالنسبة إلى هذا العمل الروائي.

   الدفن هنا فعل محبة وفعل انتصار على الظلم واللاإنسانية.

   في الإهداء نقرأ ما كتبه سعد القرش: «قال ابن بطوطة حين زار مصر: «يستبد العسكر، والشعب يئن تحت وطأة الحكم، ولا يهتم الأقوياء بذلك، والعجلة تدور». إهداء خاص إلى شهداء ثورة يناير 2011» في مصر.

   تبدأ الرواية على الشكل التالي وبتأثير في النفس وكثير من الإيحاءات عبر وصف الحدث:

   «حمل وحيد أباه. رفعه بين يديه، ودفء الحياة لم يتسرب تماما من الجسد الهزيل. لم يصدق ما جرى. حدثته نفسه أن أباه مجهد، أتعبه العطش وحمل الرمال، مع آلاف لا يعرف لهم حصرا ممن يحفرون القناة.

   ـ ابعد الميت عن الشغل.

   كاد وحيد يقتل صاحب اللسان البارد… لم يبال وحيد بأمر «المقدم». عز عليه أن يكون الجسد في مقطف من الخوص، واحتمل سوطا لسع ظهره، وهو يضع أباه برفق في العربة. ذهب به بعيدا، أبعد بقليل من المكان المخصص لدفن من يموت من العمال.

   أيقن وحيد أن أباه مات. عليه أن يهرب بالجثة إلى مكان آمن، لا تصل إليه عيون الحرس، ليتمكن من العودة إلى «أوزير»، ويدفنه هناك، فترتاح روحه، ويرجع وحيد نفسه إلى بلد سمع به، ولا يحتفظ له بملامح».

   إلا أن الذهاب إلى أوزير فردوسه المفقود صعب بل مستحيل.

   قال المقدم: «فرغه من الغلق يا بهيم، وادفنه تحت رجليك». لكن وحيد رمى حفنة رمل في عينيه، وبعد عراك أدرك أنه مقتول لا محالة. لم يفرق المقدم بين الجثتين. أنزل عليهما اللعنات والضرب بقوة حركت بقايا الروح في جسد وحيد.

   سقط المقدم بين يدي الشاب. «خنقه بالسوط، ونزع جلبابه وروحه، وحمل أباه، وتسلل إلى الصحراء».

   ومن هنا تطول المعاناة والمغامرات والآلام، وتتجدد قوة الصراع في نفس وحيد الذي قرر السعي بكل ما فيه من قوة للوصول إلى «أفندينا»، وقتله انتقاما لأبيه ولآخرين.

   دفن أباه بمساعدة رجل طيب أطلق عليه اسم الشيخ إبراهيم فكان جديرا بهذ الاسم.

   وأخذ إبراهيم يعمل على وحيد وينصحه. أوصاه بالحكمة المتمردة، على طريقة غاندي، ونصحه بالتدرب على الصبر، «وعلمه كيف يغزل الصوف، ثم يصنع منه طاقية، حتى تمر الأيام الأخيرة، ويتمكن من أخذ جثة أبيه في الشتاء، أو يرجع إلى قريته آمنا».

   السيل العرم الذي نتج عن أعمال الحفر ضرب المنطقة، وأخذ زوجة الشيخ إبراهيم ومواشيه. وقرر الشيخ ابراهيم الانتقام من «أفندينا».

   جاء هذا سببا قويا دافعا لوحيد للسعي إلى قتل «أفندينا»… لديه أسبابه الخاصة، وها هو الآن صديقه الشيخ إبراهيم يكلفه عمليا بالانتقام من الخديوي. الاثنان سينتقمان من الباشا.

   وقد جرى القبض على الشيخ إبراهيم، فصارت المهمة الآن تقع على عاتق وحيد.

   وبما أن للمشاريع الكبيرة أثمانا كبيرة، فقد كان عذاب وحيد وأمثاله من ضمن هذه الأثمان.

   بعد مغامرات وأهوال وعذاب نصل إلى عنصر مصيري هو المرأة. أنقذها من معتدين، فتم

التعارف بينهما بهذه الطريقة، ونشأ بينهما نوع من الحب والاهتمام.

   وقد جرب وحيد حظه فوفق إلى العمل في قصر الباشا ظانا أنه بهذا يستطيع اغتياله. واكتشف أن من المستحيل على أمثاله رؤية الباشا في هذا القصر الذي يشبه مدينة أو عالما في حد ذاته.

   وبعد مزيد من الأحداث نصل إلى زبدة مهمة هي قدوم ابنهما هاشم إلى الحياة. كأن كل الوعود والآمال تجسدت في الطفل، وكأن هذا الطفل هو التعويض عن كل المعاناة. ولعل هذا الطفل سيكمل الرسالة.

   رواية سعد القرس «وشم وحيد» تشكل قراءة ممتعة مشوقة، وهي فوق كل ذلك تحمل رسالة تغييرية صريحة لم تغب عن سطورها ولو مرة واحدة، لكن دون أي وعظ وحديث مباشر.

…………..

* ناقد لبناني  

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم