مارثيلو بيرماخير
ترجمة: أحمد عويضة
دمرت الفوضى المملكة الوسطى، وشهد الإمبراطور على تفكك قواته. كل ما تُظله السماء انهار.
وجِدت الإمبراطورية منذ الأزل، وسيعاد توحيدها ذات يومٍ. لكن الحاكم يريد أن يتذكره الرعية بأنه هو من أنقذها وأعاد الانسجام، وألا يُنسى أو يُنظر إلى أنه الشخص الذي فشل في تحقيق ذلك. دمّر لوردات الحرب الحقول، وتقاتلت المدن حتى سُقيت التربة بالدماء وفرشتها بجثث الأطفال والنساء والمسنين. لجأ ابن السماء إلى خبرائه الاستراتيجيين، قادته العسكريين، حكماءه، بل وحتى الأجانب، وعبثًا كان لجوءه. عندها قرر أن السحر هو فقط ما سيوقف تلك الكارثة. ومن بين كل السحرة ذائعي الصيت وذوي الخبرات لا يقدر إلا إثنين فقط على أن يطمحا إلى منصب الساحر الإمبراطوري الأكبر: الساحر ينج والساحر تسو.
ولِد ينج في بيت فقير في الريف. ثم هجر الريف منتقلًا إلى المدينة في مراهقته. بدا كأنه في الأربعينات من عمره رغم أنه في العقد الخامس.. وسيمًا، ساخرًا، مغويًا. له حيل سحرية مذهلة. حوّل جذع شجرةٍ إلى سبيكة من الذهب، وأحيا رجلًا مقطوع الرأس وجعل الأمطار تتبع عربته.
أما الساحر تسو فهو قديم، لا يتذكر أحد شبابه. قضى حياته رحالة بين القرى الفقيرة البائسة المحاذية للنهر، وبفضل مهنته الدائمة كساحرٍ لم يقضي يومًا دون أكل أو شراب أو مكان للنوم. عاش وحيدًا، لا يتقربون منه إلا طلبًا للمساعدة ولم يشعر هو بالاستياء من هذا الوضع. لم يكن قذرًا أو مهلهل الثياب، ولم يكن جذابًا أيضًا. طويل القامة تائه النظرات، يسير بشكلٍ مميز، ذو لحية مدببة، ويرتدي نفس الثياب دائمًا.. ودائمًا نظيفة. حيله السحرية خفية، ينقذ الحيوات والمحاصيل. هو ليس طبيبًا ولا مزارعًا، لا عاملًا ولا مشعوذًا. يخفي قدراته العجائبية تحت غطاء تأثير الطبيعة.
ارتدى الساحر ينج عباءة ذهبية، لحيته بوهيمية لم تشذب، لامع العينين يسير مثل حيوانٍ أنيق مفترس. سرعان ما التقى الساحران أمام مذبح الإمبراطور في ساحة الخصيان، داخل المدينة المحرمة.
سيتنافسان أمام ابن السماء وسيفوز المنتصر بقيادة الجيوش الإمبراطورية التي لا تُحصى. ظنّ الإمبراطور ومعاونوه الرئيسيون أن هذا القرار سيكون هو نواة إعادة توحيد المملكة الوسطى للألف عامٍ القادمة: وهي فترة أبدية بالنسبة للممالك الأخرى، لكنها فترة معقولة بالنسبة للمملكة الوسطى.
بينما يقترب المتنافسان – تسو وينج- من بالاثيو، طافت بطرقات المملكة شائعاتٍ بأن داخل المدينة المحرمة تكمن المؤامرات المحاكة ضد الإمبراطور. هذا يخطط لاغتيال.. وذاك سيعطيه نوعًا من السم يجعله يعيش عقيمًا.. ومحظية تخطط للهرب أو للخيانة. وأن الإمبراطور أحبط تلك المحاولات من خلال بعض المناورات التي قام بها جواسيسه، ورغم ذلك تزعزع حلم ابن السماء. لن تُقدّر له الراحة إلا بعد انتخاب أحد الساحرين، سيضمن هذا الهدوء للمملكة والولاء داخل المدينة المحرمة.
وصل ينج راكبًا عربته: عربة من الخشب المعطر تجرها أربعة خيول، يرافقه حوذيّه الخاص وفتاتان جميلتان. أما تسو فأتى على قدميه، يمكن القول بأنه أتى وحيدًا، ربما رافقه غبار الطريق وأرنب تحت إبطه. خلال أعوامٍ كرس وقته – سرًا – لتعليم الأرنب التكلُم، تلك هي الحيلة السرية التي سيحاول بها الفوز باختيار الإمبراطور.
تم استقبال الساحرين بشكلٍ احتفالي من قِبل الموظفين المعنيين في البلاط الإمبراطوري، خصصوا مخدعًا لكل واحدٍ منهما حيث يمكنه الاغتسال وتناول العشاء. وفي اليوم التالي قبل الغداء سيكون الأمر قد تم.. سيتناول أحدهما غداءه في بالاثيو أما الآخر فسيغادر المملكة إلى الأبد. قبِل ينج وتسو بنتائج الإنتصار وعواقب الهزيمة لأن الحقد الدفين الذي سينجم داخل الساحر المهزوم لن يتناسب مع النظام على هذه الأرض.
شغل ابن السماء عرشًا على قمة الدرج، وفي درجةٍ تحته جلس على يمين العرش قائده العسكري، وزيره، وكاتبه. وفي درجة أسفل منها المسؤولون الرئيسيون عن شئون مختلفة في المملكة الوسطى. أتى الملك إلى الساحة محمولًا بواسطة اثنين من الخصيان عندما قرر أنه سيشهد الحدث بنفسه.
بدأت المنافسة بإشارة من وزير المراسم، وأصبح ينج غير مرئيًا، فجأة.. دون ستار أو أضواء أو أي حيلة أخرى، اختفى على مرأى من العالم. رنّ صوته العالي في الهواء خارجًا من العدم وهو يقول:
ـ أنا غير مرئي يا مولاي الإمبراطور، في خدمتك.
وقف الوزراء والموظفون والخصيان بأفواهٍ مفتوحة وأفكارٍ ملتبسة. فرضت أعجوبة ينج نفسها كبداية لعصرٍ جديد، ونسوا الساحر تسو. لم يشكّوا للحظة في أن الساحر ينج قد حسم المباراة لصالحه، من ذا الذي يمكنه التغلب على رجلٍ خفي في تضميد وعلاج جراح المملكة الوسطى وإعادة توحيد المدن المتناحرة تحت راية الإمبراطور، ونزع سلاح لوردات الحرب؟ اعتبروا أيضًا أن تسو صار محرومًا من أرضه الحبيبة ومن آله.. ماذا سيحدث لأرنبه المسكين؟ هل سيصير غداء ينج؟ عندها همس الأرنب إلى معلمه، خائفًا من مصيره المرتقب، مستفيدًا من الهبة التي وُهِبها خلال سنواتٍ من الصبر والتدريس في ضوء تعاليم كونفوشيوس وقال:
ـ سيدي الساحر تسو، ليس المهم هو أن الأرنب يتحدث.. بل ما سيقوله الأرنب.
مدفوعًا برياحٍ قادمة من الشرق، قرّب تسو الأرنب من أذن الإمبراطور، الذي كان مغلق الفم ولم يبد عليه أثرًا لإعجابٍ أو مفاجأة على عكس حاشيته وخصيانه ووزير مراسمه، بل وحتى محظياته اللآئ عرفن، بشكلٍ ما، بخبر اختفاء ينج الذي عاد للظهور كنجمٍ بزغ فجأة. تمهل الامبراطور وكأن السماء هي من سيخبره بالقرار الأخير. رغم ذلك همس الأرنب في أذن الإمبراطور الذي استمع إليه مغلق العينين غارقًا في نفسه:
ـ يا سيد الجميع.. يا ابن السماء.. بوجود ساحرٍ مثل ينج داخل المدينة المحرمة، وبقدرته على الاختفاء.. هل ستقدر على النوم في سلام؟
ضاقت عينا الامبراطور، وصبغ المكر والدهاء ملامحه وقرر:
ـ يُنفى الساحر ينج في الحال من المملكة الوسطى ويُعين الساحر تسو في منصب الساحر الإمبراطوري الأكبر.
أعيد توحيد المملكة الوسطى بفضل براعة الساحر تسو الرصينة وحزمه واستمرت هكذا لألف عامٍ آخر. ولم يُسمع عن الساحر ينج قط منذ ذلك اليوم.
………………….
* نُشِرت على موقع زيندا في نوفمبر 2022