ولنا أن نتساءل، بينما نقرأ قصصه الصغيرة والآسرة، إذا كنا نشهد انتعاشة حقيقية لهذا الفن الصعب، خصوصاً وأن مجموعته تصدر إلى جانب مجموعات قصصية أخرى تمتلئ بها أرفف المكتبات، لكتّاب مهمين من أجيال مختلفة، منهم على سبيل المثال منصورة عز الدين وإبراهيم فرغلي وهاني عبد المريد ووجدي الكومي، وغيرهم ممن أعادهم الشوق إلى القصة القصيرة بعد تجارب روائية معروفة، ليس هذا وحسب بل لعلّ السياق العالمي هو أيضاً يرشح هذه الدفعة الجديدة لفن القصة بعد فوز الكاتبة الكندية أليس مونرو بنوبل في الأدب 2013، وإن احتج البعض بأن بعضض قصصها تساوي في الحجم روايات الكتاب الجدد، فإن الأمريكية ليديا دافيز الكاتبة المعروفة قصصها الصغيرة للغاية قد تسلمت مؤخراً مبلغ ستين ألف جنيه استرليني، قيمة جائزة المان بوكر العالمية التي نالها من قبلها كبار الكتّاب.
لن نبنى آمالاً كبرى مع هذا، فمازالت الرواية هي الأخت الكبرى في الأسرة الأدبية، الأخت التي تحظى بالقدر الأكبر من الاهتمام والاحتفاء. ومع ذلك، وبعيداً عن تجربة الاستغراق التام لساعات في عوالم سردية معقدة لإحدى الروايات، وكما قال الكاتب الأمريكي ستيفن كينج فإن “القصة القصيرة شيء مختلف تماماً – إنها مثل قُبلة في الظلام من شخصٍ غريب”.
غير أن محمد خير ليس غريباً على عالم الكتابة عموماً أو عالم القصة خصوصاً، فهو كاتب بسبع أرواح، يكتب المقال الصحفي منذ سنوات، وأصدر ثلاثة كتب لقصائد النثر، اثنان بالعامية وواحد بالفصحى، ثم صدرت روايته الأولى سماءٌ أقرب، وقبل مجموعته الثانية هذه صدر له قبل سنوات مجموعته عفاريت الراديو عن دار ملامح، التي نالت ما تستحق من الاحتفاء والجوائز في ذلك الحين، ومع ذلك فهي فإن قصصها الجميلة لم تكن بنفس هذا المستوى من ثقة الأداء والبراعة التقنية وأناقة اللغة، هذا المستوى الذي يمكن للقارئ أن يلمس تحققه بوضوح في معظم قصص كتاب رمش العين.
فإذا كانت قصص مجموعته السابقة تقتنص غالباً لحظةً مبتورة من سياقها العريض، وتؤطرها كأيقونة، وتلعب على المفارق والمخفي بعناية بين السطور، فثمّة إضافة جديدة هنا، قد تكون إحساس الراوي بالامتداد الزمني، بفخاخ الوقت ودورة الساعات. هذا الإحساس بالزمن يمكن أن نلمسه من السطور الأولى للكتاب، في كلمة البنت الصغيرة للراوي “يا عمّو”، ثم على مدار أغلب قصص الكتاب، مثل طائر حين يلاحظ الراوي ذراعي امرأته وكم نحلتا، أو في قصة بينج بونج، بكل وضوح، حين ينظر الراوي مثلاً إلى مجموعة من الشباب في المقهى فيستعيد لحظتهم وضحكاتهم هم القديمة، ثم يختم خير قصته بمشهد ذي إضاءة شمسية قوية في مدرج الجامعة، حيث أول الحب والضحكات خالية البال. قد نستعيد في قصةٍ كهذه ركن الشباب في مقاهي الأعمال المحفوظية، وقد نستعيد أيضاً قصة جار النبي الحلو طعم القرنفل، والحنين إلى أشياء غامضة لا يمكن تسميتها بوضوح. ليست استعادة التأثر المباشر بقدر ما هو التراسل الحي بين أجيال مختلفة من الساردين المصريين، وكل منهم يبني حنينه بهندسته الخاصة.
ونلحظ أيضاً حالة من الاهتمام المبالغ فيه بالدقة الزمنية الصارمة من جانب الراوي في قصة وقت مستقطع، وهي أصغر قصة حب مكتملة يمكن قراءتها.
الارتباك عنصرٌ آخر طوّره خير من قصصه الأولى في عفاريت الراديو، واشتغل عليه هنا بصور درامية لافتة، فانعدام اليقين قد ينجم عن أن الراوي يكوّن أحياناً ذكريات مخترعة كما في قصة رمش العين، أو من أثر تعاطي أقراص مخدرة وتدخين الحشيش كما في قصة الخروج من الليل، حيث يحبسنا خير بداخل دماغ راويه في كابوس متقن الصنعة، أو لأسباب أقل وضوحاً، كما في قصة الأيام المفقودة، التي لا نعرف إن كان راويها قد بدأ يفقد الذاكرة أم قد اتخذ أولى خطواته نحو فقدان العقل تماماً.
غير أن تلك الألحان ما كان لها أن تُعزف إلا بآلات لا تشوبها شائبة، وهنا تأتي أهمية لغة محمد خير المصقولة عبر جهدٍ واضح وطويل، سواءً في تجربة الكتابة الصحفية أو قصيدة النثر. وفي الحالتين هو ميّال إلى الكتابة الخاطفة، التي لا تثقل كاهل القارئ بالتفاصيل، فشأنه شأن راوي قصته، يحاول العثور على تلك النبتة المجهولة الغامضة، رمش العين، التي سرعان ما تولد وسرعان ما تموت، لكنها تتجدد باستمرار.