رمزية البئر والسرداب قراءة في ديوان “يمشي كأنَّه يتذكر” للشاعر البهاء حسين

يمشي كأنه يتذكر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. شاكر عبدالحميد

في دراسته الشهيرة حول “أطياف ماركس” حبَّذ “دريدا” الفكرة الخاصة بالطيف بوصفه عائدًا بعد غياب، يعود كي يفكك كل تلك الأشكال التاريخية الماضية التي تقوم على أساس وجود صدع ما في الحاضر، ومثلما يعود الطيف أو الشبح بعد غياب؛ فكذلك تعود بعض أفكار الماضي إلى الحاضر، وتعود معها بعض الأفكار والصور والذكريات التي كُتبت في الماضي، وتكون عودتها هذه غريبة. هكذا ترتبط فكرة الأشباح والأطياف العائدة بأفكار المراودة والشبحية والعودة من الموت والغرابة وغيرها من تلك الأفكار التفكيكية المتعلقة باستحالة تجميد الماضي تصوريًا أو معرفيًا، وبصعوبة منع ما كنا نعتقد أنه ميت من الأفكار والذكريات والأشخاص من العودة بعد غياب. وردًا على السؤال: لماذا يعود الموتى؟ قال جاك لاكان، المفكر الفرنسي المعروف: لأنهم لم يدفنوا على نحو مناسب، أي لأن شيئا قد حدث على نحو خاطئ فيما يتعلق بمواراتهم الثرى، فعودة الموتى هي علامة على اضطراب ما حدث في ذلك الطقس الرمزي الخاص بدفنهم.
هنا، في ديوان “يمشي كأنَّه يتذكر” للشاعر البهاء حسين، نوع من القلق الخفي وولع بطبيعة الموت؛ رغبة ما، كما تقول “مرجريت آتوود” في الذهاب نحو العالم السفلي، لإحضار شيء ما، أو شخص ما من بين عالم الأموات. إنه عالم مسكون بالأرواح والأشباح والأطياف، عالم لا تبقى فيه خلف حطام هذه الأجسام المرئية سوى الروح، وسوى الذاكرة أو الظل والصدى، فهنا تحضر الذات في تلك المنطقة المتداخلة التي تقع بين التذكر والنسيان، بين الهدم والبناء، في تلك المساحة الثالثة التي تتجول فيها أشباح كثيرة وتكون الأداة “كأن” هي أداة استحضار هذه الأشباح.
والذات المتكلمة في هذا الديوان ذات مزدوجة منقسمة بين ماضيها وحاضرها، بين ما كانت عليه وما صارت إليه، بين طفولتها ومراهقتها ورشدها وكهولتها، بين صحتها ومرضها، بين أحلامها وتبدد أحلامها، إنها ليست ذاتًا منقسمة فقط، بل ذات متعددة متكاثرة متناثرة مشتتة متبعثرة أيضًا، ذات تراقب البشر والصور والذكريات وترى وتدرك ما أصاب ذلك كله من تغيرات وأمراض، الأمراض التي لا تصيب البشر فقط، بل تصيب الصور وتصيب الذاكرة أيضًا.
دلالة العنوان
“يمشي كأنَّه يتذكر”، والمشي حركة في المكان، والتذكر حركة في الزمان، وما بين الحركة المكانية (المشي) والحركة الزمانية (التذكر)، تجيء الأداة “كأن” كي تضعنا في قلب هموم الذات وانشغالاتها وآلامها؛ في تلك المنطقة البينية الخاصة؛ منطقة الالتباس التي تقع ما بين حدوث الأشياء وعدم حدوثها؛ حضورها وغيابها، محاولة الإمساك بها ثم هروبها الدائم من قبضة الوعي والذاكرة. و”كأنَّ” أيضًا أداة تشبيه وأداة مطابقة، وأيضًا أداة نفي للتشبيه والمطابقة، أداة للتمويه والإيهام والاحتمال واللايقين، هي قريبة من “ربما” و”يحتمل” و”قد يكون”، هكذا تصبح الصورة أكثر ضبابية وأكثر غموضا.
“يمشي كأنَّه يتذكر” من الذي يمشي؟ ومن الذي “كأنَّه يتذكر”؟ إنها الذات المتكلمة في القصائد، والتي من خلالها تحول التعبير “كأنَّني أتذكر” إلى “كأنَّه يتذكر” فتحولت الذات المتكلمة الحاضرة إلى ذات تبدو وكأنَّها تتكلم عن ذات أخرى غيرها، عن ذات كانت موجودة هناك في الماضي، عن ذات يتم استحضارها الآن “وكأنها” ذات أخرى، وهكذا تقوم هذه الأداة “كأنَّ” بتحويل الذات إلى آخر، هكذا تكون “كأنَّ” أيضًا أداة معبرة عن انقسام الذات وازدواجيتها، وهكذا تكون حالة المشي أيضًا حالة غير مؤكدة أو يقينية وذلك لأن فعل “التذكر” يحل محل فعل “المشي” مثلما يحل فعل المشي محل فعل التذكر، وهكذا تكون الأداة “كأنَّ” أيضًا أداة لاستحضار تلك الذات الأخرى الغائبة في الزمن، أداة لاستحضار أشباح الماضي، أشباح الذات والأب والأم والحبيبة والأخت، وأداة لتذكر الأبواب والشرفات والكلاب والعُكَّاز والموسيقى والتاريخ القديم. هكذا يتواصل الحكي والتذكر، ويتواصل الاقتراب شيئًا فشيئًا من سرداب الذات ومن بئرها العميق.
البئر والسرداب
في قصيدة: “أسند ذاكرتي بعُكَّازك” تقول الذات المتكلمة في القصيدة:
عائد إلى البيت
أحصي التنهدات
سأحكي لنفسي عن المستقبل
كأنَّه أرض الميعاد
عن جسدي
كأنَّه رغيف خبز
عن الأشخاص الذين يتعاركون بداخلي
كأنَّهم أصدقاء مختلفون في الرأي
عنك
كأنك عُكَّاز يسندني كلما أردت أن أتذكر.
هنا تكون الحبيبة أشبه بالعُكَّاز الذي كانت تتوكأ عليه، أشبه بالأداة “كأن” أيضًا التي تتكئ الذات عليها في تذكراتها، هنا التذكر يتكئ على عُكَّاز، على شيء ناقص، والذاكرة نفسها محرفة غير كاملة، ذاكرة تُحضر أشياء وتُخفي أشياء أخرى، ذاكرة تجمع بين الحضور والغياب. وليس الحضور هنا كاملا ولا الغياب تامًا. والعُكَّاز أداة من أدوات الأشباح، العُكَّاز شبح يسند الذات المتكلمة كلما أرادت أن تتذكر، أداة تتكئ عليها حين تخشى السقوط، أداة ترتبط بالموت والقتل واليتم والإهانات، وأشياء أخرى كثيرة مخبوءة في سرداب الذات المرتبط بالخوف والفزع والدماء وآلام اليتم والإخفاقات وغياب الأحبة والأحلام غير المتحققة. هكذا تتحول الذاكرة إلى بئر، ويتحول البئر إلى سرداب، وتدلف الذات المتكلمة، شيئًا فشيئًا، متوكئة على عُكَّازها أو على قدميها، إلى منطقة الظل والالتباس والغموض، وحيث توجد مياه كثيرة لا تكف عن التدفق والجريان.
في قصيدة “جدة”، تقول الذات المتكلمة في القصيدة:
أقول يا جدتي
لا تبك فوق البئر
كي لا تمسك
فيرن صوتي/ في القاع/
ويرتد إليّ متشنجًا أكثر
وفي قصيدة “أسند ذاكرتي بعُكَّازك” تقول هذه الذات
مع الأعداء
تكون على أهبة نفسك
تواتيك الشجاعة للنظر في البئر
قد تعرف قوة اليأس التي يتحلى بها القاع
السنوات المرمية فيه،
مثل جثث لا تجد من يغطيها
أو ينش عنها الذباب
وفي قصيدة “بيت” تبدأ الذات المتكلمة بسرد حالتها عندما كانت في مرحلة الطفولة وهي تنظر إلى واجهات البيوت “بشغف، كأنَّني أشفها” ومع الشغف كانت هناك الأمنيات المستقبلية المرتبطة بتلك البيوت القديمة وتحولاتها:
“كأنَّني أشفها ، لأبني بيتًا يتسع لأحفادي
بيتًا صغيرًا
بستائر ينفخها الهواء
كزوجات حوامل ينتظرن في النوافذ عودة الأزواج
بيتًا بأبواب واطئة
لا يسمح بمرور النعوش
هنا أمنيات كانت موجودة في الماضي ومتعلقة بالمستقبل، تفكير في الأيام القادمة والأحفاد والبيوت التي تريد أن تسُدَّ الطريق والأبواب أمام الموت ثم تتبع لحالات تراجع الأمنيات وغيابها التدريجي، وتفكير في الموت والأبواب الواطئة والنعوش، ثم تذكُّر للجدة وهي توزِّع الصدقات أو تتسول وتتجول في القرية وكأنَّها قد أصابها مرض فقدان الذاكرة أو الزهايمر، بعد أن فقدت بصرها عبر السنين، وكانت “تفتش في الفراغ عن باب.. عن جدار” كانت تبحث عن أعزاء قد غابوا عنها، كانت تمشي من بيت إلى بيت تبحث عن شيء ضائع منها تجد ما يذكرها به في رائحة الخبز، الخبز المرتبط بالحياة، الحياة التي أصبحت بلا طعم، الحياة المرتبطة بالروائح، والروائح الخاصة بالغائبين، الروائح التي تذكِّرها بالموتى، الموتى الذين تستدعيهم وتستعيد أشباحهم من خلال المشي ومن خلال رائحة الخبز، وأيضًا من خلال المشي والتجول مع حفيدها، ذلك الذي كان يدرك أن جدته تطارد الموتى وتبحث عنهم من خلال الخبز وروائحه، وعلاماته التي تدل عليه.
يا جدتي
خالي مات
وفي البيت خبزٌ
الأولاد يعيّروننى بك
ثم أمسك بيديها،
أرجوهما
ومثلما صارت جدته تبحث عن ابنها الذي فقدته وتتذكره من خلال المشي، فقد صارت الذات المتكلمة في هذا الديوان تمشي وكأنَّها “تتذكر” أيضًا، وأصبح هو يمشي ويتذكرها ويتذكر حياته الماضية أيضًا من خلال المشي، وكأنَّ المشي هنا أداة للبحث والتنقيب والحفر في أعماق الذاكرة، الذاكرة التي هي بئر زاخر بالأحزان. يقول عن جدته:
بسبب البكاء كادت تسقط مرة
في البئر
ومن حسن الحظ تشبثت بعماها
وأنا سقطت ثلاث مرات
هكذا تشبثت جدته بعماها، بذاكرتها، أو بعصاها، بذاكرتها قبل أن تفقد بصرها، بقدرتها الماضية على تقدير المسافات وحساب الأبعاد والإحداثيات، أما هو فقد سقط في ذلك البئر ثلاث مرات من قبل، ثم إنه قد واصل بعد ذلك السقوط بعد السقوط في بئر حياته الذي لا قرار له ولا قاع. والبئر هنا رمزٌ للأرض، للزمن، للذاكرة، للقبر، والنوم والأحلام.
والبئر رمز للحياة والموت والحقيقة، لأنه يحتوي على الماء، لكنه ماء ليس سريع الجريان. البئر رمزٌ مزدوجٌ، رمز للحياة وللموت، للعطش والارتواء، للموارد الطبيعية والاجتماعية أيضًا، للتواصل بين الناس ووجودهم معًا للسقاية والشرب من البئر ورمز لتشتتهم وتفرقهم بعيدًا عن البئر، والبئر عميق الغور أيضًا وهو يرتبط عند باشلار برمزية الصناديق والكنوز والسراديب وكل ما هو خفي أو غامض، والبئر رمز لسرداب الذات، للمكان الذي توجد به جروح هذه الذات، وفي هذا الديوان، لموت الأب والأم والجدة والعم والخال والحبيبة ولليتم والطفولة التي تبدَّدت والأحلام التي تبخَّرت. والبئر أيضًا هو الرمز الدال على ذلك السرداب، للمكان الموجود داخل النفس والذي يتم تكوينه نتيجة للفقد والخسارات، إنه مكان الظل والصدى، وهو جانب يظل حيًا يعاود الظهور على أنحاء شتى على الرغم من سريته وخفائه، إنه يبقى أيضًا خفيًا داخل الذات مسكوتًا عنه، وربما غير متاح لعمليات التمثيل أو التمثل المناسبة، هو مستودع الموضوعات النفسية والرغبات المفقودة، صندوق الخبرات المتعلقة بالفقدان والخسارة و”السردبة” Cryptonomy عند ماريا توروك ونيكولاس ابراهام، مفهوم يشبه اللاشعور عند جانيه وفرويد، لكنه أكثر خصوبة منه، وذلك لأن اللاشعور فردي، بينما السرداب فردي وجمعي فى الوقت نفسه؛ إنه يرتبط بالعائلة والأسلاف، والعائلة والأسلاف هنا يتعلقان بالذات المتكلمة وحدها، وليس بجميع البشر كما كان حال اللاشعور الجمعي عند يونج، إنه مكان ومن الأسرار والأشباح والصراعات التي لم تتمكن الذات من دفنها أو كبتها، والخاصة بالأب والأم والأخت والأخ والحبيبات والطفولة.
هكذا كانت عملية دفن الموتى في ديوان “يمشي كأنَّه يتذكر” للبهاء حسين عملية غير كاملة وذلك لأن باب التذكر ظل مواربًا، أو شبه مفتوح، ومن ثم لم تكف أشباح الماضي أبدًا عن الخروج من سرداب ذاكرته وعن مواصلة الحضور عبر حياته، هكذا ظلت الذات “تمشي” عبر قصائد الديوان وظلت أشباح ماضيها تمشي معها، وهكذا كان يمشي “كأنَّه” يتذكرها، وهكذا كانت تمشي كأنَّها تتذكره وظل نشاط الذاكرة والنسيان هو النشاط المهيمن على عمليات الاستعادة للماضي وعلى السرد كذلك لأحداثه القديمة، وخلال ذلك كله ظلت للشوارع قدرتها أيضًا على الفعل والتغير والتذكر، وهكذا كان:
المشي زينة
عن نفسي لا شيء يشغلني سوى المشي
لا شيء غيره
حبيباتي في الذاكرة
والمشي، كما قلنا، وسيلة في التذكر، وخلال المشي تأتي أشباح الماضي، يأتي ما تبقى من ذلك الماضي من أحداث وتأتي ذكريات تلك المرأة التي كانت تخرج من غرفتها حين كانت تسمعه ينادي على البقال يطلب أشياء لا يبيعها، فقط ليراها.
كما أنه يتذكر أيضًا تلك الصديقة التي كانت تمشي مستخدمة عُكَّازا بعينيها على الحركة. يمشي ويتذكر، والذاكرة ليست دائمًا ذاكرة خصبة أو متوهجة: “مررتُ على مؤونتي من الذكريات، فاكتشفت أنها، هي الأخرى، تقدَّمت في السن”، ويتكرر ذكر الذات المتكلمة للفعل “مررتُ” الذي يتضمن ذاتًا مندمجة في حركة خاصة بالمشي عبر الزمان والمكان، ومن خلال عبارات مثل: “مررتُ على تجاربي” و”مررت على سلالة” و”مررتُ على بستان صغير”، ثم:
مررت على تجاربي،
متوقعًا أن تتقد مرة أخرى ما دمتُ تذكرتُها
لكنني صرتُ موقدًا بلا جمرات
ويتذكر الصحة والمرض والأوجاع والعاهات، ويتذكر المرض الذي هو:
“خطاب يصل إليك على حين غرة
لتجد نفسك شخصًا غيرك
مجرد شخص ينفق حياته
في عدِّ أنفاسه”
ويتذكر صحته أيضًا:
كانت صحتي جيدة
لم أفق بعد من يتمي
من طفولتي
ما زلت أحلم، لم يحن وقت المرض،
ليس هنا في العمود الفقري
ثم إنه يواصل الاجترار لذكرياته وإدراكاته لحالته التي أصبح عليها بعد أن أصابه المرض.. غير قادر حتى على حمل ابنته الرضيعة أو “أن يدور بها في الهواء حين تريد أن تلعب”.
هكذا كان المرض الذي أصابه مرضًا مرتبطًا أيضًا بالمشي، بالحركة، بالوقوف والبهجة واللعب، وتتوالى الإشارات عبر القصائد إلى المشي وإلى الحركة الحرة الطليقة وإلى اللعب وإلى الرقص وإلى حالات اليتم والفقد والطفولة الحزينة وذكرياتها التي لم تزل بعد قابعة في سرداب الذات، وتأتي إشارات أيضًا وصور تتعلق بالأرض التي كان يثرثر معها حين يلعب، الأرض التي كانت “كأنَّها أمك” وكيف كان في طفولته وصباه ينسى الحفر “ويعتاد المطبات التي تُغيِّر مسار الكرة” وكما في قصيدة: “بلا أهداف.. بلا ذرية”. وكيف كان يجعل من ساقه “فأسًا تحرث بها الأرض” وكيف مرت الأيام وتحوَّلت تلك الساق الآن بفعل الأملاح والمرض إلى ساق متصلبة، لم تعد قادرة على إحراز أي هدف، وكيف أن الحياة كذلك أشبه بالمباراة وأن هذه المباراة “قد أوشكت على الانتهاء” وكيف أن هذه الحياة، ومع مرور الزمن، وما جرى فيه من أحداث ومقادير، وما أصاب الساق من تصلب والروح من كهولة قد جعلت مقاعد هذه الحياة/المباراة “خالية من الجمهور” لم يبق فيها سوى الظلال و”المقاعد ما زالت خالية بلا جمهور سوى ظلك”. ويتذكر زملاءه في اللعب ويتذكر أمه وبكاءها من الوحدة بعد موت أبيه، ويتذكر طفولته، ويحاول أن يواسي نفسه ويقول لها “أنا بخير يا طفولتي”.. لكنه ما يلبث أن يقول أيضًا في مواجهة مؤلمة مع الذات “أنا الآن شخص وحيد أجرب” ثم يعود ليقول في هذه القصيدة أيضًا:
أنا بخير رغم صمت المُدرَّجات وغياب الحكم
رغم الذاكرة التي أتلفتها الرطوبة
كل ما هنالك أنَّني أفتقد اللعب
أن أمر باتجاه المرمى وسط هتاف الجماهير
ومع هذه الإشارات المتكررة عبر قصائد هذا الديوان إلى مرور الزمن، وإلى غياب الحيوية وحضور المرض، وإلى الافتقار كذلك لحضور الآخرين وإلى الفوز والإعجاب والهتافات والوجود معًا وإلى الشعور بنشوة الفوز وإحراز الأهداف والفرح؛ تتواصل حركة المرور والمشي عبر أنحاء الذاكرة ومساراتها، وهي حركة كانت تُسرع أحيانا فتتحول إلى نوع من اللعب والرقص الاستيهامي، وكانت تبطئ أحيانًا، فتتحول إلى حركة يقودها أو يقوم بتوجيهها عُكَّاز.
حركة من خلال عُكَّاز
العُكَّاز أداة تستخدم في المساعدة على المشي، لكنه في ذاته أداة دالة على وجود عجز ما يتعلق بفقدان ظاهر أو باطن قد حدث في قدرات الجسد؛ هو دليل على وجود شيء ناقص؛ على غياب الاكتمال، على الفقد الحيوي الذي أصاب الجسد والذي يتم تعويضه بشيء ما من خارجه، والعُكَّاز أداة تجمع بين الحضور والغياب، حضور البديل وغياب الأصل، حضور الصناعي وغياب الطبيعي، حضور الاعتمادية وغياب الاستقلالية، والعُكَّاز كالعصا التي كان النبي سليمان يتوكأ عليها، و”العكاكيز” هي الكلمة التي كان الأديب البريطاني ألدوس هكسلي يستخدمها للإشارة إلى المخدرات التي كان يتوكأ عليها في عمله وتنشيط خياله. وفي مسرحية “قطة فوق صفيح ساخن” للكاتب المسرحي الأمريكي تنيسي وليامز، العُكَّاز رمز أيضًا للاعتماد على الكحوليات، ورمز أيضًا لحماية النفس وذلك عندما يستخدم كسلاح للدفاع عنها أو الهجوم، وهو أيضًا رمز للحنين إلى الماضي (ماضي الجسد والروح والقوة واللعب وكذلك للقوة الجنسية وفقدانها) وقد تجلَّت هذه المعاني كلها أيضًا في إشارات كثيرة عبر هذا الديوان.
هكذا يتذكر صاحب الصوت المهيمن على قصيدة صديقته التي كانت تمشي بعُكَّاز والتي كبرت وكبر معها عُكَّازها:
كبر عُكَّاز صديقتي
ترمل معها
يتذكرها ويتساءل: “وأنتِ، كيف حال عُكَّازك، لماذا تحبين القطط والبحر والموسيقى إلى هذه الدرجة”، هكذا تكون للأشياء (العُكَّاز هنا) حضورها الشَّبحي أو الفيتيشي الذي يستدعي الأشخاص الذين ارتبطوا بها، كما أن هذه الأشياء الشَّبحية الفيتيشية تتحول تدريجيًا أيضًا إلى بدائل مستقلة عن أصحابها؛ هكذا تتم “أنسنة” العُكَّاز فيتحول إلى كائن حي يشعر ويتألم ويحن لأصحابه ويحزن كالبشر:
المؤكَّد أن العُكَّاز لديه أحزانه
فهو ليس بساقٍ معوَّقة حتى
والقطط هي الأخرى
تشكو حين تتمسح بأرجلنا
دون تفرقة بين عُكَّاز وساق
هكذا تم إدراك العالم في هذا الديوان في ضوء ما يحدث في الجزء الأسفل منه، الجزء الخاص بحركة السيقان والعكاكيز والقطط، والأرض والحفر والكرة والرقص وكل تلك الأنشطة الأرضية التي تثير اهتمامات الذات المتكلمة في هذا الديوان بوصفها ذاتًا تقرأ العالم في ضوء ما يحدث هنا فوق الأرض من حركات وتغيرات وليس ما يحدث هناك في السماء من أمور، وقد تمتد هذه الحركة إلى تلك المنطقة الموجودة تحت الأرض، وحيث يوجد السرداب، والحركة هنا، سواء بعُكَّاز أو بدونه، حركة ترتبط بأفعال الجسد، بانفعالاته ورغباته وقدراته، بذلك الجسد الغريب، جسده ذلك الذي يماطل المسرات في الشوارع، وينتظرها بلهفة في الشرفة، “غريب أمري” وكما جاء في قصيدة: “أصطاد أعضاءها بصوتي”. إن هذا التكوين الجسدي الخاص بالذات المتكلمة في قصائد هذا الديوان، وهذه الهيمنة الخاصة للاهتمامات الأرضية لديها، ونظرتها التي تتوجَّه دومًا إلى أسفل، إلى عالم السيقان والقطط والبؤساء والشَّحَّاذين والحُفَر والعاهات، وإلى ما وراء ذاكرة الحاضر القريبة أيضاً، هو المعبر الدال كذلك على طبيعتها الانطوائية، تلك التي تهرب من المَسَرَّات في الشوارع عندما تكون موجودة مع الناس، وتماطلها وتنتظرها عندما تكون موجودة وحدها في شرفتها: تقول هذه الذات أو يقول صاحبها:
أنا غريب
أراقب عاهات الناس
كل مرة
بإحساس شخص نجا وحده من كارثة
ليس من السهل أن نفهم الساق العاجزة
ولا الخطوة
وتكون للشوارع قدرتها الخاصة أيضًا على الفعل، وعلى التغير، وتحدث “أنسنة” أيضًا للجوامد، للشوارع، في إحيائية خاصة لها يسقط من خلالها مشاعره ورغباته عليها، كما حدث بالنسبة للقطط والكلاب والسيقان والعكاكيز، وحيث السيقان تحلم بالسيقان، والأيدي تتذكر الأيدي، والشوارع تحلم بالبشر وتحنُّ إليهم:
يبطل عمل الشوارع ، شىء يندثر منها
كلما كفت ساق عن الحركة
تبدو شهيدة
كنافذة يُغطِّيها التراب
أن نمشي بلا هدف
هذا ما يجعل الشوارع تفرح بنفسها
وتصبح حالة التعاطف جوهرَ ما تتوق إليه الذات هنا، تعاطف مع السيقان المفقودة، مع العكاكيز، والقطط وكل من يعاني من البشر:
“المُؤكَّد أنَّني أشعر بالحرج كلما رأيت أحدًا يعاني أكثر مني
المُؤكَّد أنَّني أفهم الوجه الذي تفشى فيه البرص
أفهم رقعة الجلد الأخيرة
التي تُعافِر لتبقى سليمة
أعذر الفم إن لم يتسع للصراخ
هكذا تضع الذات نفسها مكان كل من فقدوا عضوًا من أعضاء جسدهم، ومن أصابهم مرض أو إعاقة. وليس فقدان الساق فقط هو الذي يحظى بالتعاطف هنا، بل فقدان الصحة وغياب قدرة الجسد على أن يكون في عنفوانه، وكذلك عجز الفم عن الصراخ، ثم تتسع مشاعر التعاطف هذه حتى إن الذات المتكلمة هنا تنتابها رغبة ما في أن تتنازل عن أعضائها للآخرين:
سأعير صديقتي ساقيَّ هاتين
بحجة أنَّني مشيتُ بهما كثيرًا
سأكون قطة تُجرِّب فيها شعور الأمومة
شارعًا تمشي فيه حافية بدون حذائها الطبي
وهكذا أيضًا تتعاطف الذات مع نفسها، هكذا تستحضر حركات الرقص وتحلم بها في قصيدة “رقص” التي يتم خلالها الاستحضار لذكريات علاقته بالرقص والراقصين:
لم أعد أرقص
منذ آلمني ظهري
لم أكن أرقص أصلًا
ولكنني كنتُ أستطيع إذا أردتُ
ثم تتوهج ذاكرته بما كان يستطيع القيام به ولم يعد قادرًا على فعله الآن؛ أن يترك الهواء يُحرِّكه، أن يمد ساقه، ويُغمِض عينيه ويشرع في الطيران، يبتعد عن العالم، ويكون دائمًا في حالة صعود، ويتوالى حضور السيدات الراقصات اللاتي رغب في الرقص معهن عبر الذاكرة، وحتى تلك التي كانت بعُكَّاز صارت ترقص أيضًا، ويتوالى التصوير للحركات التي كانت تحدث بالقدمين والساقين والجسد كله، حركة في الهواء تحاول أن تهرب من جاذبية الأرض ومحدودية الجسد، لكنه كان يجد نفسه دائمًا، وفي كل مرة، يقول مع رفيقه الذي يستلهمه:
لكننا في الرقص لا نقول شيئا
نترك كل شيء يحدث لنا
الجمال والفزع
هكذا نظرت الذات المتكلمة في هذا الديوان في أعماق ذاتها، في سرداب ذاتها، فماذا وجدت؟ لقد وجدت اليتم والفقد والحرمان والموت، موت البشر وموت أعضاء الجسد وموت المعاني، موت الحيوية وموت القدرة على الحركة أو اللعب أو الرقص، موت الأب والأم والأخ والأخت والجَدَّة والحبيبات والأصدقاء والأحلام. هكذا كانت تمشي نحو بئرها الخاص، نحو سردابها الخفي، ذلك الذي كانت تدب إليه بعُكَّاز؛ وهكذا كانت هذه الذات تقول لنفسها: “لا أريد أكثر من عكاز.. لا يجتر خطواته”.
هكذا قامت هذه الذات بفتح بوابات الذاكرة وترك تلك البوابات مواربة شبه مفتوحة فتسلَّلت منها أشباح الماضي كي تكشف السر، سر الموتى الذين جاءوا كي يسردوا حكايات لا تنتهي عن الموتى، وقد كان ذلك السر سرًا لا يمكن الإفصاح عنه مباشرة إلا من خلال اللغة وإلا من خلال الكلمات، من خلال تلك الوسائط التي قامت بالتفعيل لحالة مراودة ومراوحة بين الذات الموجودة الآن، والتي تظن نفسها حية، وبين الآخر المدفون بداخلها والذي هو أكثر حضورًا وحياة منها، ولقد كشفت هذه المراودة عن أسرار كثيرة وأزمات وصدمات وجروح لم تندمل، وكشفت أيضًا عن “قوة اليأس التي يتحلى بها قاع البئر” وأيضًا عن تلك السنوات “المرمية فيه مثل جثث لا تجد من يُغطِّيها أو ينش عنها الذباب”. لقد كشفت عن قوة التعاطف ورهافة الإحساس، كما كشفت أيضًا عن ما وجدته هناك في قاع البئر وفي أعماق السرداب، حيث وجدت هناك، كما وجد ريلكة: الجمال، والفزع.

مقالات من نفس القسم