كريم محسن
-1-
شهر أغسطس: حرارة جهنمية، تسلخ جسد القاهرة.
يصعد مختار السلم ببطء لبدانته من ناحية، واتكائه على عصا من ناحية أخرى. يسيطر عليه شعور بالندم لعدم اشتراكه في الأسانسير، جسده يفرز عرقا بغزارة وقلبه ينبض بشدة كأنه يصرخ. وصل شقته ورن الجرس، فتحت نادية -زوجته- الباب بنصف ابتسامة، ألقى عليها السلام بوجه عابس، ونظر إلى الصالة سريعا وانتقد سوء نظافة الشقة، وتمتم بشتائم لم تسمعها، ثم دخل الغرفة.
بحركة آلية بدأت نادية في إعداد أطباق الطعام، ونقلها إلى السفرة بالترتيب: الخضار ثم الأرز، والفرخة المقلية الذهبية في منتصف السفرة: مركز المجرة، يدور في فلكها باقي الأطباق.
-2-
صدر صباحا قرار حكومي بمنع زراعة الأرز تماما، بالاضافة إلى منع بيعه في أي منفذ أو تقديمه في المطاعم، تداول بعض المحللين كلاما عن رغبة الحكومة في توفير المياه، خاصة أن زراعة الأرز تشغل ما يتجاوز الاثنين مليون فدان، كما لمح المحلل في برنامج تليفزيوني بعد اهتزاز لغده نتيجة انفعال غير مبرر: أن “الأرز لا ينتمي إلى ثقافتنا الغذائية من الأساس، وهو غذاء آسيوي في المقام الأول”. لم يذكر المحلل أي سبب كاف لمنع بيعه أو تقديمه، تم المنع وهذا يكفي بالنسبة للمحلل ولغده المهتز.
استمعت نادية إلى الخبر في نوع من الذهول، وبكت بعدما تذكرت أن ما تبقى لديها من الأرز لا يكفي لنهاية الأسبوع. انتفضت من كرسي الصالون، واتجهت إلى غرفة يوسف.
كان يوسف يمارس الاستمناء الصباحي تحت البطانية، يحاول استدعاء ذكرياته في صورة دقيقة تقفز به إلى فضاء اللذة. تظاهر بالنوم عندما سمع صوت خطوات أمه، أيقظته من نومه التمثيلي وحكت له قرار الحكومة وطلبت منه أن يذهب ويبحث في جميع المتاجر والمحلات الموجودة في المنطقة عن أكياس أرز، عسى أن يكون قرار المنع لم يطبق بعد في جميع المناطق.
نفخ يوسف وقال لها: “عايز أكمل نوم”.
-3-
مدينة نصر: مبان رمادية متشابهة، تحاول الصمود في وجه الزمن، ما يميز المبنى عن الآخر هو التنافس في القبح.
عمارة من خمسة أدوار، يزين مدخلها شجرتان متوازيتان، تحتاجان إلى التقليم. في الدور الثاني، يسكن مختار أو كما يلقبه ابنه وزوجته في السر: رجل الأرز.
خرج مختار من الحمام، جلس على السفرة وكح بخشونة توحي بسيطرة وقبضة فولاذية على زمام الأمور، ثم بصق في منديله. أمسك مختار بالفرخة وبدأ في تقطيعها: الورك ليوسف، والصدر لنادية، ونصف الفرخة الآخر وضعه على طبق الأرز الخاص به. نادية لا تحب صدر الفرخة، لكنها لا تعترف بذلك ليوسف، تضحي حتى النهاية بدون سبب مقنع.
راقب يوسف والده وهو يأكل بهدوء واطمئنان، فمه ممتلئ بالأرز واللحم، يلوكهما في لذة وصبر، كل شيء يوحي بأنه لم يعرف بعد بقرار الحكومة. كتم يوسف ضحكته بعدما تخيل وقع الخبر عليه، وانتظر اللحظة المناسبة ليوجه له الضربة القاضية.
بدأ مختار يحكي لنادية حكاياته المكررة عن العمل، ثم انتقل إلى الحديث عن فلوس الجمعية وقسط التكيف وعلبة اللبن التي شربها يوسف ليلا بدون أن يترك له كوبا منها. نادية تهز رأسها وتوافقه على أي شيء، لا أدري هل هذا خوف مفرط من معارضته في أبسط الأشياء، أم أنها لا تكترث بالجدال معه من الأساس؟
قاطع يوسف والده وقال: “بابا، سمعت قرار الحكومة الجديد؟”
-4-
ثار مختار وانتفض وسب الحكومة داخل شقته، بعدما علم من يوسف قرار منع الأرز، لكن بمجرد خروجه من باب العمارة في صباح اليوم التالي، أصبح حمل وديع ذاهب لعمله مثل باقي الموظفين.
من العجيب أن المنع أصبح يقابل بالتكيف دائما، لا توجد معارضة بشكل أو بأخر، اختفى “الاعتراض” و”المقاومة” وأصبحت مجرد كلمات بالية لا تستعمل كثيرا. حدث نوع من الطمس والتحول في منظومة اللغة ودلالاتها، أفضى بنا إلى مشهد من الأحمال الوديعة تملأ شوارع القاهرة.
جاء قرار منع الأرز بعد مجموعة من قرارات المنع غير المفهومة: منع أنواع معينة من السجائر، منع صناعة بعض أنواع الحلوى، وكان أغرب قرار هو منع تقديم الشاي بالنعناع في المقاهي.
منذ الطفولة، والأرز عنصر أساسي في وجبة غذاء مختار، حجر الأساس الذي تقوم عليه الوجبة. نادية اكتسبت حب الأرز من مختار، بفعل التعود أو بفعل سلطة خفية مارسها عليها حتى في اختياراتها للطعام، وازداد وزنها مثله، لكن بمعدل أقل، ولولا مرض السكر لتنافست معه في زيادة الوزن.
حاول الاثنان ممارسة سلطة حب الارز على يوسف، لكنه استطاع مراوغتهم دون تصادم عنيف، وكان يأكله معهم بدافع العادة أحيانا، وأحيانا لأنه لا يكترث للطعام بقدر كبير.
كِيس الأرز المتبقي في المنزل كان يطبخ منه لمختار فقط. حاول مختار تقليل كميات الأرز حتى يحافظ على الكيس أطول فترة ممكنة، وفي فترة قصيرة اعتادت نادية على عدم وجود الأرز، ولم يكترث يوسف للموضوع برمته. لكن سرعان ما نفذ الأرز، وجن مختار، وبدأ في الاتصال بأصدقائه يطلب منهم المعونة، ويعرض عليهم شراء كميات الأرز مقابل ضعف الثمن، لكن اتضح أن الكل امتثل للقانون سريعا، فالبعض تخلص من كميات الأرز بالحرق أو بالرمي في القمامة، والبعض فضل عدم الحديث عن الأرز أو نطق كلمة “أرز” من الأساس، وكان مختار بالنسبة لهم متمرد أو مجنون بالفعل.
بدأ مختار في التواصل مع صاحب السوبر ماركت المجاور للبيت، وعرض عليه أن يدفع ثلاثة أضعاف ثمن الكيس، شرط أن يوفر له كمية معقولة في أقرب وقت ممكن.
-5-
القاهرة: لطخة رمادية على وجه التاريخ، سرطان حضاري في أمعاء العالم.
عاد طبق الأرز مرة أخرى إلى السفرة، وعادت حياة مختار تسير بانتظامها المعتاد، حياة قلقة مهددة دائما بالمنع، لكنه حاول خداع نفسه بأمل زائف، وتمنى أن يلغى القانون في أقرب وقت، قبل أن تنفذ الكمية التي حصل عليها. لكن الحكومة بدأت في تشكيل لجنة لمكافحة الأرز، لجنة تقتحم المنازل والمطاعم والمتاجر بدون إنذار، وإذا قبض على أحدهم يأكل الأرز أو يطبخه أو حتى يبيعه، يحاكم محاكمات قاسية.
ارتعب مختار وبدأ في جمع الأرز هو ويوسف في شنطة سوداء كبيرة ووضعوها في السيارة، واتجهوا إلى صحراء المقطم. أشعلوا النار في الأرز، وفي طريقهم للعودة إلى مدينة نصر، فكر مختار في أن الحياة لا معنى لها بدون طبق الأرز الساخن مع الخضراوات، غاب الأرز وغابت اللذة، وترقرقت دمعة على خد مختار، لاحظها يوسف وتجاهلها عن عمد.
…………….
*قاص من مصر