د. نعيمة عبد الجواد
في تمام الواحدة بعد الظهر، في يوم كئيب كالعادة، أعلن رئيس القسم أنه قد تقرر الانصراف مبكراً ذاك اليوم؛ لاكتشاف حالة كورونا بالبنك، وصباح غد يجب أن يتوجه الموظفون إلى المستشفى لإجراء الفحوصات اللازمة. تدلى فاه “مروة” من الصدمة، وبدأت تهرش بجانب أذنها اليمنى بعصبية، كعادتها عندما تصاب بالقلق. لم يقطع سيل استرسالها في مخاوف الإصابة بالكورونا، إلا صوت ضحكات أطلقها زميلها “عماد” الواقف على باب الحجرة. وكان سبب ضحكاته هو التلذذ بمشاهدتها تهرش كلما تعصبت. فمنذ أن انتقلت للعمل في ذاك الفرع البنك منذ شهرين، صار أكثر ما ينغص عليها حياتها زميلها السمج “عماد” الذي لا ينفك عن مضايقتها بشتى الوسائل، ولا يتورع في انتقاد كل لفظ تتفوه به، وكل حركة تقوم بها، وكأنه يرصد تحركاتها. وعندما سمعته يقول، “أنا جيت هنا بس علشان أشوفك هتهرشي فين المرة دي بعد ما سمعتي الخبر”، كانت تود أن ترميه بدباسة الأوراق لعلها تحدث له عاهة مستديمة. لكنها اكتفت برميه بنظرة اشمئزاز من تحت جفونها بعد أن لوت شفتيها وهي ترد: “وهو ده سبب قطع كل المسافة دي من القسم اللي بتشتغل فيه؟ روح إعمل حاجة مفيدة أفضل.”
في اليوم التالي، تجمع الموظفون أمام المستشفى، وكان الدخول لإجراء التحاليل حسب أسبقية تسجيل الأسماء. توترت “مروة” بشدة لعلمها أن واحد من الحضور – أو أكثر – قد يكون مصاباً بالكورونا، وتجمعهم بهذا الشكل يزيد من فرص الإصابة. تعصبت، فانتابتها حالة من الهرش؛ وفي هذه المرة شملت رأسها، ورقبتها، والجزء المغطى بالكمامة. وفجأة، سمعت أحدهم يقهقه وهو يقول: “يبقى كدة متوترة، كنت مستني اللحظة دي.” توترت أكثر عندما تعرفت على صاحب الصوت، ومن غيره! “عماد” بالتأكيد. ولشدة توترها، وبخته بعنف على مراقبته لحركاتها، وذكرته أن هناك أخريات تنتظرن ذاك الاهتمام، وهي ليست منهن. تمنت من قلبها أن يكون مصاباً بكورونا، أو يصاب بكورونا، حتى ترتاح من لقياه لمدة شهرعلى الأقل؛ أو يموت، فلا تقابله للأبد. ومن شدة عصبيتها، بدأت تتعرق بغزارة أسفل الكمامة. وبينما تحاول بعصبية تجفيف العرق، انقطع جانبي الشريط المطاط الممسك بالكمامة من الناحية اليمنى بأكملها. ولما كان إرتداء الكمامة حتمياً لدخول غرفة الفحص، سألت كل من حولها عما إذا كان لديهم كمامة أخرى احتياطي، لكن جاءت الإجابة بالنفي. إلى أن برز “عماد” من وسط الجموع كالشبح، ممسكاً بعلبة من الكمامات، وناولها إياها قائلاً: “عارفك مش هتلمسي الكمامة إلا لو شوفتيها خارجة من العلبة”، وبينما كانت تهم لشكره، أضاف بغلاظة: “خدي واحدة بس، ده مش مال سايب.” كانت تود أن تلكمه، ولكم كان يريحها رؤية الدم ينسال من أنفه وفمه. وبينما كانت غارقة في أفكارها الدموية، نادى الممرض اسمها، ولسوء الحظ، نادى بعدها اسم “عماد”. كادت دموع الغيظ تنسال من عينيها؛ بسبب هذا القدر الذي لا ينفك بجمعها مع هذا المتنمر، حتى باتت لا تستطيع الفكاك منه. أجرت التحاليل، وشرعت تشق سريعاً طريق الخروج، حتى لا تلمحه مرة أخرى. لكن، زلت قدمها، وكادت تقع من على الدرج. وفي الوقت المناسب، منعها من السقوط يد صلبة أمسكت بها بقوة. فأشاحت بوجهها صوب منقذها، وراعها أن يكون ذاك الشهم “عماد”. فاستحال شعورها بالعرفان لشراسة. ولا إرادياً، ند منها: “إنت تاني؟ يخربيتك.” وانصرفت غاضبة دون النظر خلفها.
وفي اليوم التالي، ذهبت للبنك لأن نتيجة الفحص سلبية، ووجدت أن زميلتيها في المكتب غير متواجدتين؛ واحدة أخذت إجازة شهر خوفاً على نفسها، والأخرى أسبوعين، لأن زوجها الذي يعمل أيضاً في البنك، كان مخالطاً لزميل ظهرت نتيجة تحاليله إيجابية. انتاب “مروة” حزن مضاعف بسبب أنها سوف تتحمل أعباء عمل زميلتيها، ولسوف يضيق صدرها بسبب الشعور العارم بالملل والوحدة. وبسماعها نقرتين على باب الحجرة، إلتفتت، وإذ بها ترى “عماد” ممسكاً بعدة ملفات، وعلى وجهه ابتسامة خبيثة وهو يخبرها أنه سوف سيكون شريكها الجديد في الغرفة. تمنت في هذه اللحظة أن تكون مصابة بكورونا حتى لا تذهب للعمل؛ فمديرها المتجهم لن يعطيها خيار انتقاء زملاء العمل. لم تولي كلامه أي اهتمام، وانبرت تعمل وكأنه غير متواجد. وعند وجود حاجة ملحة لسؤاله في شأن يخص بالعمل، كانت تتحدث معه بأسلوب رسمي شديد التحفظ. وفيما يبدو أنه استشف ما يدور بداخلها، فكان يحافظ على معاملتها بود شديد وكياسة عارمة، حتى وإن تعاملت معه أحياناً بفظاظة.
وفي يوم عيد الحب، أحضر معه باقة من الورود كعادته في كل عام، لتوزيعها على الزميلات. لكنه اختص “مروة” بباقة صغيرة منمقة بعناية، وأخبرها أنها صُنِعَت لها خصيصاً. وغادر ليوزع وردة واحدة على كل زميلة. وعند رجوعه، وجد “مروة” ممسكة بباقة الورود في حبور، لكنها أطاحت بها على جانب المكتب عندما لمحته. وبينما كان يعمل بكد، ترك الملفات فجأة، وعرض عليها عقد هدنة فيما بينهما، فأخبرته بعصبية أنها لا تحمل تجاهه أي ضغينة، وأنهما مجرد زملاء عمل. فبادرها: “والعصبية دي كل ما تتكلمي معايا أسميها إيه؟ نعمل هدنة من اليوم، موافقة؟” هزت رأسها في تسامح معربة عن موافقتها.
وبدءاً من ذاك اليوم، صارا أصدقاء عمل طيبين، يحضر “عماد” الإفطار مرة، وهي تحضره المرة التالية، ويتحدثان في شئون العمل بود، ولاحظت أنه يتعمد إطالة الأحاديث معها، ولم تدري لماذا كانت تود أن يطيل الحديث أكثر. ثم بدأ يكتب لها على تطبيق الواتس آب للاستفسار عن أمور تختص بسير العمل، وفيما بعد كان يرسل طرائف ونكات. ولم يكن يفسد متعة تواجدها بالقرب منه إلا ظهور سكرتيرة المدير الحسناء التي كانت تلاطفه بضراوة.
ومر الشهر بسرعة فائقة، وعندما رجعت زميلتاها من الإجازة، شعرت بفراغ كبير بعد ترك “عماد” الغرفة. ودأب في الأسبوع الأول أن يأتي ليلقي عليها تحية الصباح، وأحياناً، يرسل لها صباح الخير على الواتس آب، ثم اختفى. فأنَّبت نفسها على ما صار يعتمل في قلبها من شعور تجاهه، وحاولت أن تقنع نفسها أنهما مجرد زملاء عمل.
مر أسبوع، وتمنت أن تلمحه ولو لثانية، أو يرسل لها أي شئ على الواتس آب، لكن سدى. لم تعد تشعر بحاجة للابتسام، أو التأنق، أو التعطر كما دأبت خلال الشهر الماضي. وصارت الأيام كئيبة، والساعات طويلة. ولم تجد حتى رغبة في تناول الطعام. وبينما تجلس بائسة، داهمها صوت صار محبب لديها قائلاً: “كل دي أعراض كورونا.” وبدلاً من أن تشعر بالحنق، انفجرت في نوبة ضحك مبعثها سعادة لسماع صوته. إلتفتت إليه، وهي تود أن توبخه على اختفاءه طوال الفترة السابقة، لكنها تركت المهمة لعينيها. وكأنه يقرأ عينيها، ابتسم وهو يؤكد أنه يفتقدها أكثر مما تفتقده هي، وكان يتمنى سماع ولو كلمة واحدة منها، لكنها بخلت عليه كالعادة. وكادت تفتح فاها للاعتراض، لكنه اسكتها بقوله: “كل ده مش فاهمة؟ بحبك يا عصبية من أول يوم شوفتك فيه، واستنيت كتير أشوف الشوق واللهفة في عيونك زي النهاردة. تتجوزيني؟”