ليلى عبدالله
كان آخر أحلامي أن أموت بداء الملوك! إذ لم أفكر في ميتة مختلفة عما ألفَه مئات الفقراء أمثالي في هذه المملكة. إلا أن الفكرة خطرت ببالي حين أذاع بواق القصر عن حاجة الملك إلى متذوقين لطعامه مقابل خمس قطع ذهبية. نقود لم تمنح حتى لجندي يتفانى في ساحة المعركة. لابد للملك أن يكون سخيا؛ فهو يعي أن من يمتلك الشجاعة للتقدم إلى الوظيفة؛ سيعرض روحه للمغادرة باكرًا.
لقد مات عشرات من البسطاء الذين أغراهم رنين الذهب، وربما يكون مصيري كمصيرهم، خاصة أن للملك خصوما يحيكون مؤامراتهم في قصره. ما حيلتي؟ حياتي أشبه بالموت. سأقبل بالمقامرة رغم معارضة زوجتي؛ لعلي أنقذها وأطفالي من شبح الجوع..
سرت إلى القصر كمن يلقي بنفسه في بحيرة عامرة بتماسيح جائعة. كنت مع آخرين من طهاة وسقاة وذواقين تحت إشراف الملك نفسه، طواقم متعددة في بلاط المطبخ الملكي، يعدون أطعمة مختلفة لا أحد يدري من أي طاقم سيختار الملك طعامه الشخصي. وفوق ذلك كان الذواقون يتوزعون تحت متابعة مربية الملك ليتذوقوا كل الأطعمة، بأخذ لقمة من كل قدر قبل أن يختار الملك طعاما لذواقه الخاص. في أول ليلة تملكني الذهول لحجم المأكولات، ما لذ وطاب منها، بقيت حائرًا أيها ستقتلني؟ كان الملك شديد الحرص أكثر مما توقعت؛ فهو لا يكتفي بجعل ذواقه الخاص يتناول عينة من الطبق بل ينتظر لدقائق، فإذا لم يسقط غارقًا في رغوة بيضاء تخرج من فمه يكون بذلك قد نجا الطبق من سم الأعداء.
كنت على يقين بأنني سأموت خلال تذوق الطعام؛ لذا عقدت العزم على الاستمتاع بكل لقمة أضعها في فمي. تعمّدت أن آخذ لقمة كبيرة و أبطئ في مضغها. كنا قليلين والطعام الملكي وفير، وما يتبقى يرمى قبل أن يفسد. يا إلهي، ما ألذ لحم فخذ الغزال الطري وهو يسري في جوفي، شيء كالسحر بل هو السحر بعينه! مرّت الليلة الأولى. لم أصدق نفسي، لقد نجوت!
في الليلة الأخرى. ذهبت كمحارب إلى وليمة الموت، كنت على أتم الاستعداد، قد ينتهي أمري هذه الليلة لكن سأموت شبعانا كما تمنيت، وهذا الشعور المتدفق بحد ذاته كان يدفعني نحو الموت منتصرًا. فُرشت أمامنا مائدة عامرة. البخار يتصاعد من أطباقها الشهية، الرائحة من لذتها تكاد تدوخني. ذلك اليوم، دخل علينا الملك أمرني أن أبدأ بالطبق الرئيس، أن أقتطع الذبيحة من منتصفها، عادة ما يكون السم مدسوسًا في قاع الوجبة لا أطرافها، كم كان الملك متشككًا!
كنت ألتهم دون خوف وهو ما جعل الملك وأعوانه مندهشين، آكل بشراهة وشحم الشواء يفيض بطراوته من بين أصابعي، ألعق بلساني الرطب كل إصبع من أصابعي بلذة مضاعفة، ثم أمدّ يدي اللزجة إلى الطبق وأنتشل لقمة كبيرة من فخذ الذبيحة وأحشوها في فمي بينما دهنها يسيح على ملابسي مخلّفا بقعًا ذهبية. كان همّي أن أشبع قبل أن أشهد نهايتي على يد عدوّ خفيّ أجهله تماما ويجهلني، عدو لستُ غايته! انتهى عشاء الليلة الثانية، ولم يكن عشائي الأخير على ما يبدو. كم أنا محظوظ! التهمت كل الأطباق، نجا الملك كما نجوت أنا بمعدة ممتلئة، لم أعبئْها بهذا القدر من الطعام منذ ولادتي. طلبني الملك لأكون ذواقه الخاص. كان يستمتع بطريقة التهامي للطعام أكثر من استمتاعه بوجبته.
مع الأيام، تفاقمت أعباء الحكم، ازداد الجياع في الخارج، وتكالبت شكوك الملك خصوصا بعد ما مات أحد الذواقين، أخذ نصيب معدة الملك يقل من الطعام.. يتناول لقيمات معدودة بينما يراقبني وأنا أزدرد ما تصل إليه يداي. أزداد تخمةً بينما الملك يزداد نحافةً. كان الملك يرى في نجاتي تهديدًا مبطنًا وحيلة يريد منها أعداؤه أن يسترخي مطمئنًا ويستغني بها عن متذوقه، فيكون حينها لقمة سائغة! لكن : هيهات . هيهات..
كم كانت نبرة الملك حادة وهو يرفع سبابته مهددًا أعداؤه الوهميين! صار مع الأيام يطلب مني أن ألتهم نصف الولائم، بل زاد تشككّه الصارم إلى الحد أنه استغنى عن تناول الأطباق واكتفى بتناول القليل من الفواكه، تضاعف حجمي وصار جسمي مترهلاً من الشحوم، وبدا الملك من النحول كأنه خيط رفيع سينقطع في أي لحظة. بعد ثلاث سنين قضيتها في القصر؛ قضى الملك نحبه بسبب سوء التغذية؛ وظلت المؤامرات تعيش بعده. عدت إلى أسرتي وقد تحسنت أحوالهم بفضل ما أرسله لهم من بريق الذهب إلا أنني عدت مريضا بالنقرس.