حوار – صبري الموجي
طالبَ بحيادية النقد، والبُعد عن العواطف حُبا وكرها، مُستشهدا بأن التفسيرَ الخاطئ، والمُتعسِف والمُبتسَر لرواية “أولاد حارتنا” كان السبب في التشكيك والطعن في عقيدة أديب نوبل محفوظ . من خلال دراسته لروايات (رضوي عاشور، وليلي العثمان، وسحر الموجي، وهالة البدري، وغيرهن)، كشف عن خصائص الأدب النسوي، وسبب ميل كثيرٍ من الكاتبات للتعبير الشعري . امتازت كتبُه : (النقد ومقارنة النصوص الإشكالية، وسرد المرأة .. خصوصية السرد النسوي، والرواية المصرية في ضوء المناهج النقدية الحديثة، وصورة الذات والآخر .. دراسة في أنماط السيرة الذاتية) بوضوح الفكرة ورصانة العبارة من خلال منهج أدبي ونقدي يملك أدواته، فيما امتازتْ كتابته للطفل بالصدق والسلاسة والوضوح. مع الناقد المعروف أ. د وجيه يعقوب السيد أستاذ النقد الحديث بكلية الألسن جامعة عين شمس، كان هذا اللقاء .
– هناك فارقٌ بين غاية الأدب ووظيفته، فهل يؤدي الأدب حاليا دوره المنشود؟
الأدب بمعناه الواسع يشمل كل نشاط قولي مُوجَّه للإنسان؛ وعليه فإننا قد نعثر على صور كثيرة منه في الخطبة والموعظة والحكمة والمثل والمقالة والدراما والنشرة الإخبارية والمجلس العائلي وفي الكتابات التاريخية والأحكام القضائية وغير ذلك من فنون القول المختلفة، ولا شك أننا جميعا نتفاعل ونتأثر بدرجة أو بأخرى بتلك الوسائط، لكن الأدب بمعناه الخاص والنخبوي الذي يُقصَد به الشعر والقصة والمسرحية وسائر أجناس الأدب المعروفة، فلكي نجيب على هذا السؤال إجابة دقيقة نحتاج إلى مجهود كبير ومُضْن لرصد تأثير الأدب في المجتمع، لكن يمكن قياسُ ذلك من خلال بعض المظاهر الدالة ولو بصورة شكلية؛ فما زال الشباب يحرصون على القراءة واقتناء الكتب، وما زالت معارضُ الكتب الرسمية والخاصة تجتذب القراء بأعداد غفيرة، وما زالت مقولات كبار الأدباء العالميين والمصريين تنتشر على وسائل التواصل، وهناك أعمالٌ أدبية جيدة تُعلن عن نفسها من وقت لآخر، كما أن الكتب المدرسية تستعينُ بنصوص أدبية لا بأس بها لأدباء من مختلف الأجيال، وهو ما يعني أن الأدب يقوم بدوره بشكل أو بآخر جنبا إلى جنب مع سائر الفنون، وأزعم أن تأثير الأديب يكون كبيرا في المجتمع حين لا يتعمد الأديب الوعظ والنصح المباشر .
– القراءة النقدية للعمل الواحد تختلف من قارئ لآخر .. فهل يُعدُ ذلك جنوحا عن مقصد الكاتب أم إثراء للأدب؟
هدفُ النقد هو تفسير النصوص وفق ضوابط وإجراءات محددة، وليس الحكم على العمل الأدبي بالجودة أو الرداءة، فقد تجاوز النقد هذا المفهوم منذ زمن بعيد، ولم يعد من حق الناقد أن يُنَصِّب نفسه حكما وقاضيا على العمل الأدبي، وكما تعلم فإن أية قراءة نقدية قد يشوبها الخللُ والقصور والخطأ لأسباب كثيرة، ومن ثَمَّ يجب على الناقد أن يُقدم قراءته الخاصة للعمل الأدبي دون تعسف مُفسحا المجال لقراءة نقدية أخرى، بل إن الناقد نفسه قد يعيد قراءة ما قدَّم من قبل بصورة جديدة ومختلفة وقد حدث هذا مثلا مع الأستاذ محمود أمين العالم، وصلةُ المؤلف بعمله تنتهي بمجرد نشره وطرحه للناس، وتنتقل بُنُوَّتُه مباشرة إلى الناقد والقارئ، وعليه فلا يحق للمؤلف أن يتعقب التفسيرات المختلفة مصوبا لها أو متداركا عليها، والكاتب والمبدع الكبير الأستاذ نجيب محفوظ لم أسمع منه تعليقا أو أقرأ له ملاحظة يستدرك فيها على ناقد أو شارح لأعماله، إلا حين طُلب منه الشهادة أمام المحكمة بشأن روايته المثيرة للجدل “أولاد حارتنا”، وحين كانت التهمة الموجهة إليه لا مناص من التصدي لها وإنكارها بشتى السبل، وهو بذلك يعطي الدرس للأدباء بأن يضعوا كل إمكانياتهم في الكتابة وحسب، أما تحليل العمل وتفسيره فهو أمر متروكٌ للزمن والنقد والقارئ .
– ولجتَ عالم الكتابة للطفل من خلال عدة أعمال، ما رأيك في التجربة وما هي خصائصُ أدب الطفل الجيد؟
قدمتُ عددا كبيرا من القصص للأطفال في دور نشر مصرية وعربية كبيرة ولله الحمد، وأنا راض تماما عما قدمته في حينه، وإن كنتُ من وقت لآخر أعيد النظر فيه لتقديم ما هو أفضل، وكثيرا ما تأتيني رسائل من داخل مصر وخارجها من قراء يبحثون عن هذه القصة أو تلك، كما أن كثيرا من “نوادر أشعب” التي كتبتها للطفل قد حُوِّلت إلى أعمال مصورة ونُشرت على اليوتيوب وحقَّقتْ مُشاهدات كبيرة، وأنا أقسّم وقتي بين العمل في الجامعة والكتابة للأطفال، وأتمنى لو يأتي وقتٌ أتفرغ فيه تماما للكتابة للطفل فلديَّ الكثيرُ الذي أريدُ تقديمه في هذا المجال، وبالنسبة لخصائص أدب الطفل الجيد فهي نفسها خصائصُ الأدب الجيد : جمال اللغة والتعبير، حسن اختيار الموضوع، تجنب الوعظ والمباشرة، بالإضافة إلى مراعاة المرحلة العمرية للطفل، وهذا يحتاج من الكاتب القراءة في علم النفس، والاستعانة بوسائل جذب وعناصر مساندة من حيث الطباعة والصور والتلوين، ويجب أن يؤمن الكاتب بأنه صاحب رسالة في المقام الأول .
عاصرت ما يسمي بالصالونات الثقافية التي حُرمت منها الأجيالُ اللاحقة ولمستَ أثرها في إنعاش الثقافة فما هو البديل لها حاليا ؟
قدمتُ حلقة كاملة عن الصالونات الأدبية على قناة النيل الثقافية تحدثتُ فيها عن أهم الصالونات الأدبية التي تُقام حاليا في مصر، فذكرت صالون أستاذي الدكتور محمد حسن عبد الله، وصالون الصديق الدكتور عبد الناصر هلال، وصالون الدكتور محمد عبد المطلب، وشخصيا كنتُ أتمنى لو تسمح ظروفي بإقامة صالون ثقافي موسع لكن الظروف في الوقت الراهن ربما لا تسمح، ولعل البديل للصالونات حاليا يكون بفتح مقرات هيئة قصور الثقافة وغيرها من المقرات التابعة للدولة، وعقد ندوات جادة تناقش مشكلات المجتمع والشباب بشكل خاص، وتُعطَى الفرصة فيها والأولوية للشباب لإعدادهم للمستقبل؛ لأن تهميش الشباب ينطوي على خطر كبير، إذ ستتسع الفجوة بذلك بين الأجيال، وستكون هناك معايير خاصة بهم في فهم النصوص وتحليلها وفي الكتابة وغير ذلك، وهناك كتب تناولت الصالونات الأدبية وتأثيرها بالطبع يمكن الرجوع إليها كتلك التي كتبها الأستاذ أنيس منصور، فيكفي لندرك أهمية تلك الصالونات مثلا أن نعرف أن صالون مي زيادة كان يحضره العقاد والرافعي والشيخ مصطفى عبد الرازق وطه حسين وكبار الكتاب والمفكرين، ولم يكن مجرد حضور يتبادلون فيه التحية، وإنما كانوا يناقشون العديد من القضايا الفكرية والاجتماعية والأدبية والسياسية المهمة .
– تُركز الحداثةُ في الأدب على الجوانب الفنية والشكلية دون الالتفاتِ إلى المضمون، فما مدى تأييد يعقوب للفكرة، وهل أنتَ مع الحداثة أم الأصالة؟
كثيرا ما تُثارُ المعاركُ، وتُفتعل الأزمات بسبب الاكتفاء بالعناوين، وعدم سَبْر أغوارها ومحاولة تفكيكها وتحليلها، وفهم ما تتضمَّنه من معان، ولذلك نحتاج في كل مرة نتحدث فيها عن هذه المفاهيم الإشكالية إلى تحليل هذه العناوين ومعرفة المقصود بها قبل أن ندخل في معارك من الأساس؛ ما المقصود بالتنوير مثلا، وما المقصود بالحداثة، وما معنى الأصالة والرجعية وغير ذلك من المصطلحات التي باتت تطرق أسماعنا من آنٍ لآخر؟ في الأدب والفن، دعنا نتفق على أن جوهر الإبداع يقوم على التجديد والتفرد، وأن التقليد يؤدي بنا في النهاية إلى الموت وإلى الركود، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نرضى بأن يعيش الأديب في زمن، وهو يفكر بعقليةٍ تمُتُّ لزمن آخر أو يكتب بطريقة يقلِّد فيها غيره، هذا لا يحدث ولا يُقبل في أمور الحياة الاجتماعية العادية، فما بالك بالإبداع الذي يأنف بطبيعته من التقليد والاتِّباع كما ذكرنا، ومن ثم لا يُوجَد عاقل يقف ضد الحداثة بهذا المعنى، فإذا كانت الحداثة تُعني التجديد، وأن يكون لكل كاتب لغته الخاصة وطريقته المستقلة في التعبير التي تختلف عن السابقين وتخالفهم، فنحن معها ونراها أمرا ضروريا لا يمكن مقاومته أو رفضه، أما إذا كان يُقصَد بالحداثة ذلك الموقف المتطرف من الثوابت، ومن الدين، ومن التاريخ، والترويج لهيمنة النموذج الغربي واستعلائه، وافتعال الأزمات وادعاء التعارض بين العقل والنقل، وبين الماضي والحاضر، وبين التراث والمعاصرة، والدعوة إلى التخلص من الماضي وهدمه، فهذا أمر لا يقول به دارس منصف وواع أبدا، كان الشيخ أمين الخولي رحمه الله يقول: أولُ التجديد قتلُ القديم فهما وبحثا ودراسة، والذي يقرأ تجربة أدبائنا الكبار : نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير ومحمد فريد وجدي، ومحمد سعيد العريان وكُتَّاب جيل الستينيات كجمال الغيطاني ومحمد مستجاب وإبراهيم أصلان وعبد الحكيم قاسم ومحمد جبريل وغيرهم من الكتاب والمبدعين، سيجد وعيا كبيرا ومدهشا بالتراث لدى هؤلاء، وأن التراث بدلا من أن يكون مشكلة وعائقا أصبح مصدرا يستلهمون منه أهم أعمالهم بطرق إبداعية متنوعة تدل على وعيهم ونضجهم وفهمهم لرسالة الأدب الحقيقية بأن الأصالة لا تعادي الحداثة ولا تزاحمها فكل أدب أصيل حقا هو وليد عصره وبيئته .
– كتاب “فادعوه بها” واحدٌ من كتبك التي صدرت مؤخرا، وتتناول فيه أسماء الله الحسني .. فما الجديد في هذا الكتاب عما كتبه الآخرون؟
كتبت (أسماء الله الحسنى) للأطفال قبل ربع قرن تقريبا بطريقة سهلة ومُيسرة، وقد نُشرت السلسلة على حلقات في عدد من مجلات الأطفال آنذاك، واستعنتُ في شرحها وإيضاحها بالقصة والحكاية وسرد المواقف المؤثرة التي تُظهِر الاسم وتُوضِّح معناه، ثم جُمعتْ بعد ذلك في كتاب واحد وطُبعت في إحدى دور النشر المعروفة، وقد لفت نظري أنَّ عددا من أصدقائي المقربين الذين اقتنوا الكتاب لأولادهم أعجبتهم طريقة الكتاب وأسلوبه، وأشادوا به، وأشاروا عليَّ بالتفكير في كتابة الأسماء الحسنى للكبار، وبالفعل وبعد تأمل وقراءات موسعة في كتب التفسير والعقيدة والرقائق والرجوع إلى ما أُلِّف حول الأسماء الحسنى قديما وحديثا، عكفتُ على كتابة هذا السِّفر .. “فادعوه بها” تأملات في أسماء الله الحسنى، وأتصور من وجهة نظري المتواضعة أنه إذا كان من إضافة لهذا الكتاب؛ فإنها تكمن في محاولة تقديم الأسماء الحسنى بصورة سهلة ومُيَسَّرة تناسب القارئ المعاصر، الذي لا يملك الخبرة الكافية في التعامل مع كتب التراث والمصطلحات الفقهية والشرعية الصعبة، ومن ثم فإن الكِتاب على هذه الصورة ربما يستهدف نوعية معينة من القراء؛ فهو لا يتوجه للقارئ المتخصص – وإن كان الكتاب منضبطا بقواعد التأليف المنهجية المتعارف عليها – ولكنه يهتمُ بالقارئ العادي والموظف والمدرس والشخص الذي يبحث عن المعرفة الدينية بأسلوب بسيط وسهل ويسير، كما أن الكتاب لم يكتف بتعريف الاسم وشرحه على غرار ما فعل السابقون، وإنما حاول معايشة الأسماء الحسنى، وفهم مقاصدها، وخصوصية كل اسم، وبلاغة اقتران هذه الأسماء الكريمة، وأسرار ورودها على هذا النحو من الترتيب، ومحاولة قطف ثمارها والخروج بما يُستفاد منها وما ينعكس على حياتنا، وواقعنا من سلوك، وفي الكتاب قطوف ومختارات كثيرة من كتب التفسير والرقائق المهمة التي تجعل من الكتاب ذا صبغة موسوعية، ولعله من المهم هنا أن أشير إلى أنَّ الكتاب يتجنب مواطن الخلاف المذهبية التي لا طائل من ورائها سوى إهدار الوقت والجهد .
– اعتبر البعضُ أن الكتابة عن شخص ما تبنيا لمشروعه الفكري وآرائه فما رأيك .. وبحسب رأيك النقدُ صدامٌ أو حوار؟
عندما نكتبُ عن أشخاص أو أشياء فإننا نكتب غالبا عما نحب، لماذا أختار شخصا لا أتفق معه في الرأي لأكتب عنه من الأساس؟ ولماذا أكتب عن شيء يجرّ عليَّ المشاكل؟ هذه وجهة نظر قاصرة حتى وإنْ كانت مريحة لأصحابها، لأنها تجعلنا أسرى لوجهة نظر واحدة، أحيانا نُوضَع موضع اختبار فنكون شهودا أو مؤرخين حين يُطلب منا الكتابة أو الشهادة، فماذا نقول عن الأشخاص الذين لا نتفق معهم؟ هل نتجاهلهم ونلغي دورهم ووجودهم؟ هذا للأسف الشديد ما يحدث من البعض، وهو دليلٌ على التعصب والتزمُّت وأحادية الرؤية ونفي الآخر، وأرى أننا بحاجة ماسة إلى التصالح مع أنفسنا، والاعتراف بالمُخالف، ودراسة آثاره ومُنجَزه الفكري بشكل منصف إنْ كان يستحقُ الدراسة بالطبع، مهما كانت درجة الاختلاف والتباين في وجهات النظر، إنَّ الإنصاف في هذا الزمن عزيز للغاية للأسف الشديد، لكنَّ الباحث الجاد لا يعنيه سوى الوصول للحقيقة وهو مستعدٌ لتحمل كافة المتاعب ودفع ثمن مواقفه وما يؤمن به .
كثيرٌ من المثقفين وغير المثقفين يُردِّد كلاما عن التسامح وقبول الآخر لكن الواقع يُكَذِّب ذلك تماما؛ كتبتُ مقالة عن الأستاذ سلامة موسى وصفتُه فيها بأنه من قادة الفكر والتنوير – على الرغم من أنني أخالفه في كثير من آرائه جملة وتفصيلا -، وذكرت أن الكاتب الكبير نجيب محفوظ وأدباء جيله كانوا يعتبرونه بمثابة الأب الروحي لهم، لأنهم من خلاله عرفوا أفكارا جديدة لم تكن مألوفة في الحياة الثقافية في مصر، فهوجمتُ بسبب هذا المقال، واعتبر البعضُ أنني أتبنى آراءه وأفكاره بالكُليَّة، وهذه نظرة قاصرة وغير صحيحة بالمرة، فالناقدُ والكاتب والمؤرخ يجب أن يكون على مسافة من موضوع دراسته حتى يكون موضوعيا ومنصفا قدر المستطاع، ثم إننا حين نفتش بصورة جادة ومحايدة في مشروع هذا الكاتب أو ذاك، فإننا لن نعدم أن نعثر على فائدة أو فكرة جيدة ومقبولة لديه، من الخطأ أن نصنف البشر مرة على أنهم ملائكة ومرة على أنهم شياطين، المعارك التي دارت رحاها بين الرافعي والعقاد وبين العقاد ومحمود أمين العالم وبين سلامة موسى والعقاد وبين فلان وفلان، تثبت أننا أمام أدباء ومفكرين كبار بذلوا أقصى ما في وسعهم، لكنهم كانت تحركهم أيضا أهواؤهم واتجاهاتهم وميولهم الخاصة، وهم غير معصومين ولذلك يجب أن نستقي معلوماتنا عن الشخصيات التي نكتب عنها من خلال إنتاجها ومنجزها .
“خصوصية السرد النسوي” أحد مصنفاتك النقدية .. فبرأيك هل يختلف السرد النسوي عن الذكوري، وأليس في هذا التقسيم قمع لتحليق الإبداع؟
هذا الموضوع مثار خلاف كبير بين الباحثين والأدباء، وقد قدمتُ عنه دراسة مطولة نُشرت في مجلة كلية الألسن بجامعة عين شمس؛ وهي مجلة علمية مُحَكَّمة، كما نُشرت بعد ذلك في كتاب : خصوصية السرد النسوي، وباختصار يمكن القول: إن الأدب يستعلي على هذه القسمة هذا مؤكد، هناك أدوات يجب أن يمتلكها الأديب أيا كان جنسه، لكن حين نقترب من هذه القضية ونسلط عليها الضوء أكثر ونفحص إنتاج الأديبات من أجيال مختلفة سنجد بلا شك بعض الفروق التي حتَّمَتْها ظروفُ النشأة والتكوين والقضايا الوجودية التي واجهتها المرأة؛ فقد خاضت المرأة معارك وجودية عبر التاريخ، وحاولت من خلال السرد وغيره من أشكال التعبير إثبات وجودها، والتعبير عن هويتها ورؤيتها الشخصية، ووعيها بمشكلاتها المتجذرة في بنية المجتمعات الإنسانية عبر الزمن، وهل هناك من هو أكثر دراية ومعرفة بقضايا المرأة الحقيقية من المرأة نفسها؟
لقد وضع كثيرٌ من الكتاب الذكور المرأة في قوالب معينة لم تنفكَّ عنها؛ فهي إما ملاك طاهر أو بغي آثم، وفي كلتا الحالتين هي مكمل سردي وحدث ثانوي وليست حدثا رئيسا، وهو ما دفع الكاتبة إلى التخلص من هذه الصورة ومحوها، وتقديم صورة مختلفة للمرأة تبرز دورها الحضاري والإنساني، وأنها ليست أقل من الرجل في القدرات الطبيعية، وأن ما تُوصف به من ضعف وقلة خبرة غير صحيح، بل هو ناتج للتفرقة الاجتماعية والثقافية بين المرأة والرجل منذ نعومة أظفار كل منهما، لذلك من المنطقي أن نظفر بتجارب إبداعية تنحاز للنموذج النسوي الناجح، نجد هذا عند رضوى عاشور وعند ليلى العثمان وعند سحر الموجي، وإن كانت بعض النماذج تقدم بصورة فجة ومباشرة وبعيدة عن روح الفن .
ومن الخصائص الملازمة عادة للسرد النسوي؛ حرص الكاتبات والاهتمام المبالغ به باللغة الأدبية الجميلة التي تقترب من لغة الشعر في كثير من الأحيان، فنجدها حريصة على تضمين السرد الأشعار والأحلام، وتهتم بالتصوير والرمز وغير ذلك من التقنيات التي هي بطبيعتها أقرب إلى روح الشعر. وعلى الرغم من بروز هذه التقنية بشكل لافت في الرواية الحديثة بشكل عام، فإن استخدامها في الرواية النسوية الحديثة يعد إحدى خصائصها ووسائلها التعبيرية المطردة، وربما يعكس هذا التوجه والاختيار رغبة الكاتبات في الهروب من الواقع المحبط والتقاليد الجائرة على حقوق الأنثى، وسعيهن إلى بناء عالم أسطوري حالم تجد المرأة فيه حريتها ونفسها، ويُعوِّضها عن معاناتها ولو في هذا العالم الخيالي، فالالتجاء إلى الشعر يعد وسيلة مهمة من أجل إشباع الجانب الوجداني والعاطفي لدى الكاتبة، لأنه قريب من شخصية المرأة، أو كما يرى البعض : بأن طبيعة الأنثى تُشبه طبيعة الشعرية.