خطاب لن يقرأه الآن!

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نها أحمد رزق

"إزيّك يا جدّو.. مبتسألش علينا ليه؟"

 أهملت نبتتى قاصدة؛ تركتها تموت ولم أبال حتى ان أنظر لتربتها التى أخذت تنشق على نفسها يوم بعد يوم وتنازع من اجل شربة واحدة، نبتتى التى كنت أدافع عنها بضراوة اذا ما اعتدى عليها فرد من العائلة وغيّر مكانها بعيدا عن الضوء دون استئذانى، بعد عودتنا ظهرا ذلك اليوم، حركتها بيدى، بعد ان كانت تطل على حديقة كبيرة تحمل أقرانها وتستأنس بهم طول يومها، وضعتها فوق خزانة الأحذية، سطح يحتله طبقات من التراب، تحدّق فى سقف ابيض خال من اى شىء يشبه ما كانت توفره لها السماء.

 


 كنت أحبِك وأحب الإعتناء بكِ وأحب لونك الوردى وأحب فكرة انكِ تنتظرينى وحدى كل صباح لأبتسم لكِ وانقلك على حافة النافذة تتنفسين منها، لكن.. الشىء الذى صار فى تلك المغربية المفجعة، الفراغ الذى توغّل وأكل صدور الناس والبيوت، صوت الراديو الذى تخاف أمي ان تطفئه فنغرق فى وحشة العهد الجديد، ناهيكِ عن رائحته.. رائحته التى أظل من اجلها اتشمم بابه الخشبى علّي أجدها، فتصلنى مرّة وتضل مرّات. حتى سماء الله التى كنت أنظر لها فى غيظ شديد وساعة النوم التى استجديتها وحين استقيظت لم اجد ان الأمر تغير فى شىء، ليس كأن هناك فرصة محتملة! كل تلك الأشياء جعلتنى أسلب منكِ الحياة بإقتناع كامل، لأنى لم أجد غرض من استمرارها فيكِ وقد انقطعت عنه.
بدءا من قبلتى على جبهته التى أفزعنى شدة برودها وصوتى الذى عجز طوال أول يوم ان يدعو له بالرحمة، فالرحمة دائما ما نختصها بالأموات لأنهم أشد حاجة منا اليها.. كيف يمكننى ان أسلّم ان كل شىء متعلقا به انتهى لأنه –كما تعلم- يقولون انه.. رحل، بما فى ذلك عناقه وصوته ومداعبته إيانا وإهدائاته على الكتب وقسمه الخالص اننا قرّة عينيه وأحب الكائنات إلي قلبه.. أعرف معنى الفقد والحزن، الفتهما معا لفترة لا يستهان بها فى سنّى الصغير، عشت فى كمد متواصل صباح ومساء، لا أقول ان الحزن المجرد يعتصر قلبى هذه المرّة لكنى أغالب دموعى بحرقة شديدة حين أذكرك فى المواصلات العامة أو حين أفتح باب المدخل فأجد بابيك مقفولين- وهو الشىء الذى ما اعتدناه ابدا- أو حتى قبل ان ادير المفتاح لأنى أعلم انك على مقربة خطوتين فأرتب ملابسى و كلامى لأذكر نفسى أنك لن تكون بالداخل كى تسألنى كيف حال الجامعة والطريق والإمتحانات والى اخره…
يعتصرنى الألم فى كل مرّة يهيأ لى انى سمعت صوتك، فأنظر بإتجاه شقتك متوقعة خروجك ولا تخرج. 

   أمى تستسبدل وصفها للغربة بالبكاء وندّعى اننا لا نسمع، أحبك رغم كل المنغصّات، أحبك حبا تعرف مدى قوته وصدقه رغم ضيق صدره وحنقه مؤخرا.
نحن بخير، كلنا، المجلس ينقصك ولكنا نستحضرك حين يسمح الحديث بما لا يؤذى. 

 أفهم أنك رحلت، شهدت كل شىء بأم عينى، راقبت جسدى وهو يرفض أحضانهم المواسية وينظر لهم وهو يتلقى عزائهم مبتسما تارة وشاخصا تارة، شرعت بالعداء تجاه كل من حاول الترسيخ لفكرة عدم وجودك، مؤذن الجامع أولا والسيدة التى أجابت بأسمك حين سُألت ” عزاء من؟” – الدكتور عثمان. فأخترقا الأجابة والسؤال قلبى.. بعدها أضطررت أن أعترف انا الاخرى.

 لا أستوعب المرض كما أنى لا أستوعب الموت؛ ذلك الرحيل المفاجىء الذى يقطع عنك كل أمل وإلى الأبد. لست قلقلة عليك ولا ينتاب قلبى أدنى خوف، أنت الراحل بوع سليم وصحة متماسكة وقلب نال قدر من الحزن ضعف ما نال من الفرح، فلتصحبك صلاتك.. وكلام الله الذى كنت ترتله فيصل الى دورنا بإطمئنان، معك دعوات واثقة منك وفيك، كان عبدا مؤمنا وعالما مُعلما فأرحمه يا الله.    

رحيلك سبب لى ألف ذعر وخوف متنام، أعرف انه خارج تماما عن يدك لكن.. ماذا أفعل الآن وأنا من يومها لم يتعرّف علي الا الخوف ومازلت أفتقد كثيرا كثيرا من يوم رحيلك؟  

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 قاصّة مصرية 

 

مقالات من نفس القسم