د. حسام الدين فياض*
يهدف المقال إلى توضيح مفهوم إيديولوجيا اللغة من خلال إبراز الكيفية التي ترتبط بها معتقدات المتحدث اللغوية بالنظم الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، التي ينتمي إليها أفراد المجتمع ما في محاولة للتعرف عليها واستكشافها لتحديد مضامينها الفكرية والإيديولوجية، حيث ترتبط إيديولوجيا اللغة بالافتراضات الصريحة والضمنية للغة ما بالتجربة الاجتماعية والاهتمامات السياسية والاقتصادية.
لقد عُرّفت الإيديولوجيات اللسانية وإيديولوجيات اللغة على أنها مجموعة من المعتقدات عن اللغة التي يجيدها المستخدمون كوسيلة لعملية العقلنة أو التبرير لبنية استخدام لغوي مدرك، مع تأكيدات اجتماعية قوية على أنها تشكل أفكاراً وأهدافاً مؤكدة – لذاتها لدى مجموعة ما بخصوص أدوار اللغة في التجارب الاجتماعية للأفراد وهم يسهمون في التعبير عن المجموعة، وهي عبارة عن النظام الثقافي لرؤى عن العلاقات الاجتماعية واللسانية، إضافة إلى حمولتها من الاهتمامات الأخلاقية والسياسية. وبشكل واسع جداً بوصفها ” مجموعة أفكار مشتركة من الذوق العام حول طبيعة اللغة في العالم “. وتأتي الاختلافات البارزة بين هذه التعاريف من الجدل حول مفهوم الإيديولوجيا نفسه.
تعتبر الإيديولوجيا من الألفاظ التي توجد لها تعريفات متعددة، وذلك باختلاف الأبعاد التي ينظر الباحث أو الناقد منها لهذا المصطلح، فيرى بعضهم أنها ” علم الأفكار ” أو معتقد أو مذهب فكري سياسي تعتنقه جماعة بشرية في تصورات وأفكار اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية. وهي كما بيّن العروي تعني بالفرنسية علم الأفكار، ويرى أنها ترتبط بأشياء متعددة وارتباطها بهذه الأشياء هو الذي يحدد دلالتها، فمثلاً عندما يدرس الباحث إيديولوجيا عصر من العصور فإنما ” يدرس الأفق الذهني الذي كان يجسد فكر الإنسان في ذلك العصر“، بالإضافة إلى معنى عبارة فلان يملك نظرة إيديولوجية للأشياء فهي تعني ” أنه يتخير الأشياء ويؤول الوقائع بكيفية تظهرها دائماً مطابقة لما يعتقد أنه الحق “، وكذلك لها معنى مرتبط بالرؤية الكونية ويقصد بها ” مجموعة من المقولات والأحكام حول الكون “.
ويمكن تعريفها بأنها ” نظام من الأفكار التصورية يكمن خلف السلوك الاجتماعي أو الثقافي (الديني، أو الأدبي أو الفني أو الفكري أو السياسي… إلخ) ليوجهه، ويحدد مساره، وطبيعته، وهدفه في الحاضر والمستقبل معاً. الأمر الذي يتيح الحديث عن: إيديولوجيا سياسية، أو إيديولوجيا اجتماعية، أو إيديولوجيا تسكن أعماق الأدب والفن “.
فالإيديولوجيا باختلاف أنماطها وتعريفاتها يمكن أن ترتبط بالأدب، لأن الأدب يعبر عن الأفكار فهو إنتاج إيديولوجي، بل إن النص الأدبي يعمل على تنظيم الإيديولوجيا ويعطيها شكلاً ودلالات متميزة لأن النص الأدبي يتميز بصياغته الأدبية والفنية لهذه الإيديولوجيا مما يضفىي عليها أبعاداً وظلالاً مختلفة ومتنوعة، بالإضافة إلى هذا، فإن الأدب يعبر فيه الأديب عن موقفه من المجتمع ومن الحياة الاجتماعية من حوله.
وعلى العموم، تعبّر الأبحاث في هذا السياق عن آراء العلماء عن الإيديولوجيا: ابتداء من المفاهيم التي تبدو كما لو أنها محايدة ثقافياً للغة وصولاً إلى الإستراتيجيات المستخدمة لصيانة القوة الاجتماعية، ومن قراءة لا واعية للإيديولوجيات المتصلة بالممارسات الكلامية من طرف محللين إلى الشروح الأكثر وعياً عن اللغة، أي لما يعد سلوك لغوي مناسب. وما يشترك فيه معظم الباحثين وما يجعل المصطلح مفيداً رغم كل مشاكله هو النظر إلى الإيديولوجيا على أنها متجذرة فيها ومسؤولة عن تجربة موقف اجتماعي خاص، وهو أمر تظهره تعاريف هيث وأرفين. ولا يُلغي هذا الاعتراف بالاشتقاق الاجتماعي للتمثيل إذا ما أخذنا في اعتبارنا أنه لا توجد معرفة امتيازية، بما في ذلك المعرفة العلمية التي تتهرب أو تتعالى على الهبوط إلى الحياة الاجتماعية، ولكن مع كل ذلك يشير مصطلح الإيديولوجيا إلى أن المفاهيم الثقافية التي ندرسها هي مفاهيم جريئة يجب تفنيدها وهي حاملة لأهداف ومصالح خفية. والحركات المطبّعة التي تمتص المفاهيمي من محتواه التاريخي، وتجعله يظهر كحقيقة كونية، غالباً ما تُرى على أنها مفتاح العملية الإيديولوجية.
بذلك، تتصل إيديولوجيا اللغة بالطرق التي يتم بها تصور اللغة ويعتقد أنها تعبر بها عن مناح أخرى من الحياة الاجتماعية. فالمعتقدات المتمحورة حول علاقة اللغة بالواقع وكيفية عمل الاتصال وحول السلامة اللغوية والخير والسوء والفصاحة والعي، تمثل، كلها، جوانب من إيديولوجيا اللغة، مثلها مثل المعتقدات المتعلقة بدور اللغة في تشكيل كينونة الفرد والمعتقدات الدائرة حول كيف تم تعلم اللغة وتلك المنصبة على ما هي الوظائف التي ينبغي أن تكون للغة وما هي السلطات المسؤولة عن اللغة، وكيف ينبغي تقنين استخدام اللغة، وما إلى ذلك. إن إيديولوجيا اللغة محط اهتمام دارسي اللغة وكذلك دارسي الحياة الاجتماعية، لأن المعتقدات الدائرة حول ما هي اللغة وكيف تعمل يمكن لها أن تمس اللغة مثلما تمس العلاقات الاجتماعية بين المتكلمين. لقد سبق لإيديولوجيا اللغة أن بُحثت في سياق الانثروبولوجيا اللغوية* linguistic anthropology كما إن علماء اللسانيات الاجتماعية sociolinguists اهتموا هم أيضاً بالكيفية التي تؤثر بها المعتقدات حول اللغة على الخيارات التي يتبناها المتكلمون. فالبحث في مجال إيديولوجيا اللغة يظهر كيف أن الخيارات اللغوية والتغير اللغوي تتأثر بتصور الناس عن اللغة واستعمالها ويكشف عن توزع عمليات صياغة المفاهيم السائدة حول اللغة ووظائفها والنضال من أجل ترسيخ المفاهيم معينة.
والحقيقة، أن اللغة كانت وما زالت وستظل إحدى القوى التي ساعدت على تطور الكائنات البشرية وتطور قدرتهم على التفكير وتنظيم الحياة الاجتماعية وتحقيق درجة التقدم التي عليها الإنسان حالياً، فهي تعتبر أعظم اكتشاف عرفه الإنسان على مر العصور، وهي أبرز ما يميزه عن بقية الكائنات، وكما يقول الفيلسوف الألماني ويلهم همبولت Wilhelm Von Humboldt (1767-1835): ” إن الإنسان لسان “. فعلى مَنْ يريد دراسة الإنسان أن يسعى إلى دراسة لغته باعتبارها إحدى وسائل نشاطه العلمي والفكري والاجتماعي. لذا تعتبر الانثروبولوجيا اللغوية أهم أنواع الانثروبولوجيا العامة. وسيظل تاريخ اللغة والانثروبولوجيا اللغوية مجالاً رحباً نتصفح من خلاله تاريخ الحضارات الإنسانية، فبفضل اللغة تكونت الجماعات والأمم المختلفة وكانت أقوى الروابط بين أفراد تلك الجماعات ورمزاً لحياتهم المشتركة، فالأنثروبولوجيا اللغوية لا تنظر إلى اللغة معزولة عن سياقها الاجتماعي، وإنما هناك علاقات متبادلة بين اللغة والثقافة والممارسات الاجتماعية المختلفة.
يبدو أن طبيعة بنية الإيديولوجيا المتفاعلة مع مجمل ممارسات الحياة اليومية، وعلى مختلف أشكال تلك البنية وتحولاتها بين كل من: اللغوي واللساني والثقافي، لا يمكن اختزالها في وصفات ميكانيكية جاهزة ومعدة سلفاً. لأن هناك ” منطقاً منظورياً ” يُشكل طبيعة ذلك التداخل، ويتشظى بين أصغر وأدق مجهريات الحياة اليومية الواعية منها واللا واعية. ومثل تلك ” الممارسات المنظورية ” المنشطِرة في بنية الحياة اليومية والقيّمية لأنطولوجيا ” الممارسة اللسانية والفعالية اللغوية “، يستحيل عليها أن تبقى رهينة المحبسين لعلاقة انعكاسية للبنية التحتية، في حين أن هذه العلاقة، هي في الواقع، علاقة ميتافورية (مجازية) أكثر مما هي حرفية أو حقيقية. ومن هنا، تتأتى ضرورة عملية فهم وتأويل العلاقة المتداخلة لمفهوم الإيديولوجيا مع كل من: تحليل الخطاب النقدي وفلسفة اللسانيات.
بالمقابل، تعرض إيديولوجيا اللغة كيف ترتبط معتقدات المتحدث اللغوية بالنظم الاجتماعية الثقافية الأوسع التي ينتمي إليها الفرد، عند التعرف عليها واستكشافها، لإيضاح كيف تتشكل معتقدات اللغة بهذه النظم، حيث تربط إيديولوجيا اللغة الافتراضات الصريحة والضمنية حول اللغة أو اللغات عموماً بالتجربة الاجتماعية والاهتمامات السياسية والاقتصادية.
يعرف آلان رومسي إيديولوجيا اللغة بأنها: ” مجموعة من المفاهيم الدارجة حول طبيعة اللغة في العالم “. ويرى كروسكريتي أن هذا التعريف غير مرضي، لأنه ” يفشل في التأطير لإشكالات التباينات الإيديولوجية للغة، وبالتالي يعزز رؤية متجانسة عن الإيديولوجيات اللغوية خلال المجموعة الثقافية “.
يؤكد مايكل سيلفرستين على دور وعي المتحدث في التأثير على بنية اللغة، ويُعرِّف الإيديولوجيا اللغوية بقوله إنها: ” مجموعة من المعتقدات حول اللغة، يصيغها المستخدم، بوصفها تبريرات عن بنية اللغة المتصورة واستخدامها “. كما تشمل التعريفات التي تؤكد على العوامل الثقافية الاجتماعية وصف شيرلي هيث لإيديولوجيا اللغة بأنها ” أفكار جلية، وأهداف يؤمن بها عدد من الناس، تخص أدوار اللغة في التجارب الاجتماعية لأعضائها، عندما يساهمون في التعبير عن الجماعة ” بينما يعرِّف جوديث إرفين المفهوم باعتباره ” نظاماً ثقافياً ” من الأفكار عن العلاقات اللغوية والاجتماعية، بمضمونها الأخلاقي والسياسي من الاهتمامات. بذلك تشكل إيديولوجيا اللغة مجموعة الآراء والمعتقدات والأفكار التي تتمحور حول اللغة والتي تنتشر بين أفراد المجتمع الذين يمكنهم توظيفها للتأثير في السياسات العامة للدولة بهدف المحافظة على الوضع الراهن، أو بهدف تغيير هذا الوضع في اتجاه آخر.
وفيما يتعلق بالمقاربات النظرية لدراسة إيديولوجيا اللغة نجد أنها تنقسم إلى مقاربتين أساسيتين: المقاربة النقدية والمحايدة. حيث تنص المقاربة المحايدة على أن معتقدات المتحدث وأفكاره عن اللغة تتشكل بالنظم الثقافية المنغمس فيها، دون محاولة التعرف على التباينات خلال هذه الأنظمة أو عبرها. وبالتالي سيتم الكشف عن إيديولوجيا واحدة في تلك الحالات غالباً، ومن الأمثلة الشائعة على المقاربات المحايدة لإيديولوجيا اللغة، وصفها بأنها ممثلة لمجتمع كامل أو ثقافة، مثل تلك المدرجة في البحوث الإثنية. بينما تسعى المقاربة النقدية إلى الكشف عن قدرة اللغة والإيديولوجيا اللغوية، في توظيفها كاستراتيجيات تحافظ على السلطة الاجتماعية والهيمنة، حيث تصف كاثرين وولارد وبامبي شيفلين هذه المقاربات باعتبارها دراسات عن بعض جوانب التمثيل والإدراك الاجتماعي، بأصول اجتماعية معينة أو صفات وظيفية وشكلية. تنتشر تلك الدراسات في مناقشات سياسة اللغة والتداخل بين اللغة والطبقة الاجتماعية، والصراع الإيديولوجي والاجتماعي.
يطرح عدد من الأكاديميين أن الإيديولوجيا تلعب دوراً في تشكيل البنية اللغوية والتأثير عليها، وتكوين أشكال الحديث. يرى مايكل سيلفرستين أن وعي المتحدث باللغة وتبريراته عن بنيتها واستخدامها يلعبان دوراً حرجاً في تشكيل بنية اللغة وتطورها. وطبقاً له، تمهد إيديولوجيا المتحدث عن اللغة إلى التباينات الحادثة، بسبب الوعي المحدود ببنى اللغة، ما يؤدي إلى تنظيم أي تباين مبرر بأي إيديولوجيا سائدة أو منتشرة ثقافياً. حيث ينتشر في اللغة الإنجليزية على سبيل المثال ضمير المذكر هو (He)، على سبيل المثال، للاستخدام العام دون معرفة جنس المتحدث، وقد فُهم هذا الاستخدام على أنه رمز للمجتمع الذكوري الأبوي، وارتفعت الأصوات المعارضة لهذه الحالة مع صعود الحركة النسوية، للمطالبة بالكف عن استخدام (He) لصالح (He or She) وتعني ” هو أو هي”. بُرر رفض ” هو العامة ” بالرغبة المتصاعدة لتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، بعد أن عمت تلك الحركات ثقافياً بما يكفي لإحداث هذا التغيير.
وفيما يتعلق باللسانيات الاستعمارية التي تحمل مضامين إيديولوجية. فقد أكد نبريجا عالم النحو الإسباني الذي عاش في القرن السادس عشر بأن ” اللغة كانت رفيقة الإمبراطورية على الدوام “، وهناك بعض الأبحاث الحديثة المثيرة حول إيديولوجيا اللغة تتبع بشكل واضح وجود صلات بين الأشكال اللسانية والإيديولوجية والاجتماعية، ومعظم هذه الدراسات تصدر عن دراسة الظاهرة الاستعمارية. إذ لم يكن واضحاً دوماً أي لغة كانت تستخدم في الإدارة الاستعمارية، ذلك أن لكل اختيار دوافعه الإيديولوجية المستترة ونتائجه العملية فعلى سبيل المثال قد تختار لغة المستعمرين لهجة بعينها ضمن نسخ مشوهة غير محلية أو أهلية فيغدو تكلم اللهجة بطريقة كارثية. كما اقتضى التنصير والاستعمار الأوروبي لقارات أخرى السيطرة على المتكلمين وعلى لهجاتهم. ولقد عالج بحث حديث حول الوصف والترجمة اللسانية الاستعمارية البعد الإيديولوجي للمعاجم والنحو وكتب اللغة والتوضيحات، تلك التي ظُن لزمن طويل أنها أعمال علمية محايدة إنما كانت عملاً سياسياً محضاً.
وفي المقابل يسميه مينجولو (استعمار اللغة)، حيث استقدم الأوروبيون لإنجاح مهمتهم أفكاراً شائعة عن اللغة في المركز الحضري، وهذه الافكار، التي هي نفسها تتغير في لحظات تاريخية مختلفة، أعمتهم عن المفاهيم الأهلية والتدريبات اللسانية الاجتماعية. وكما هو الحال في العديد من الظواهر الاستعمارية، كمل أقام اللسانيون تنوعات متميزة بدلاً من أن يكتشفوها ويؤكد فابيان ذلك فيما يخص اللغة السواحلية وهاريس فيما يخص لغة تسونغا (إحدى اللغات المتحدثة في جنوب إفريقيا). ويرى كوهن أن النحو والقواميس والترجمات البريطانية للغات الهند أبدعت خطاب الاستشراق وحولت صيغ أو أشكال المعرفة الهندية إلى أشياء أوروبية. وعادة ما يكون للبنية اللسانية المستوعبة معنى سياسياً مختفياً في المواجهة الاستعمارية. وغالباً ما أشير إلى العجز الوظيفي أو الصوري للغات الأهلية – المحلية ومن ثم عجز العقل أو الحضارة المحلية عن تبرير الهيمنة الأوروبية. وبفضل الوثائق التاريخية كان بإمكان هذا البحث التاريخي أن يستكشف الإيديولوجيات اللسانية للمستعمرين بدلاً من السكان الأصليين أو المحليين. لكن بعض الأبحاث تسعى إلى توضيح تناقضات وتفاعلات الاثنين. وتشير ما وراء تداوليات لغة التونغا ( تونغا أو رسمياً مملكة تونغا هي أرخبيل يضم 176 جزيرة متناثرة على مساحة قدرها 748 كم2 بقرب من خندق تونغا في جنوب المحيط الهادئ) لمستويات الكلام إلى إمكانية إعادة تحليل مجتمع دمج مركبات مؤسسية ذات أصول أوروبية إلى بنى التراتبية التانغوية الاجتماعية.
وفي سياق متصل نجد أن لغتنا العربية ليست بمنأى عن ذلك، حيث يسود قلق عربي الحديث عن اللغة العربية بحلتها الفصحى، أو لعله من الأفضل أن نقول، بحلتها الفصيحة، ويتجلى هذا القلق بمقولات شتى يمكن إيجازها بشعارين اثنين: اللغة العربية في خطر داهم، من ناحية، واللغة العربية تعاني من التكلس الشديد أو الجمود الذي لا جمود بعده، من ناحية أخرى.
إن المتابع لهذه القضية لطالما قرأ أن هناك “حرباً ” على اللغة العربية تهددها من الخارج، بفعل قوى أجنبية تتطاول عليها، باعتبارها وسيلة ترمز للهوية العربية والإسلامية. وحتى تفعل هذه القوى فعلتها، فإنها تلجأ إلى استدراج بعض أبناء هذه اللغة لتجعل منهم معاول هدم في أيديها، إذ يصبحون ويمسون طابوراً خامساً، يقوض جذور هذه اللغة – الهوية عن دراية أو من دون دراية.
لعل الأهم من توصيف الإيديولوجيا اللغوية في أي مجتمع هو تفسيرها وربطها بسياقها التاريخي. إن الحديث عن الحروب والمخاطر اللغوية والانتحار اللغوي ظاهرة جديدة في تاريخ الإيديولوجيا اللغوية العربية التي كانت تدور في الماضي حول جمال اللغة العربية وغناها المعجمي وتفوقها على اللغات الأخرى. إذا ما سلمنا بذلك فلابد أن نقبل بأن عناصر الإيديولوجيا اللغوية الجديدة مرتبطة بحالة الضعف التي يعيشها أبناء هذه اللغة في السياق الحضاري العالمي. لا جديد في هذا التفسير. إنما الأمر الذي أريد أن أشير إليه هو أن القلق اللغوي العربي ليس ظاهرة لغوية في أساسه، بل هو في الدرجة الأولى ظاهرة سياسية تتقمص مظهر اللغة. إن صح ذلك فلابد أن نقبل إذن بأن إيديولوجيا اللغة العربية مادة تنتمي إلى علوم السياسة والمجتمع، كما تنتمي في الوقت ذاته إلى طلبة اللسانيات. ولابد أن نقبل أيضاً بأن محاولات التصدي للقلق اللغوي العربي على أنه ظاهرة لغوية بحتة، على شاكلة اللسانيين المحدثين من العرب، قد لا تأتي أكلها المرجوة، لأنها تجعل من السياسي والاجتماعي أمراً لغوياً يتطلب حلولاً لغوية.
خلاصة القول، أصبحت اللغة والخطاب في الوقت ذاته موضوعات محورية في العلوم الاجتماعية والإنسانيات مما جعل علماء الانثروبولوجيا الذين يشتغلون باللسانيات يتحسرون على تهميش هذا المجال العلمي الثانوي بالنسبة للإطار الأرحب لعلم الانثروبولوجيا الميداني. فموضوع إيديولوجيا اللغة قنطرة ضرورية بين اللسانيات والنظرية الاجتماعية وهي تربط بين الفعل الاتصالي على المستوى الثقافي التفصيلي باعتبارات القوة واللامساواة الاجتماعية السياسية الاقتصادية وذلك لمواجهة العوائق الاجتماعية الكبرى ضد السلوك اللغوي. وموضوع إيديولوجيا اللغة أيضاً يغدو وسيلة كامنة لتعميق فهمنا الذي يميل إلى أن يكون سطحياً أحياناً للشكل اللساني وتنوعه الثقافي في الدراسات السياسية والاقتصادية للخطاب. وهكذا نجد أن إيديولوجيا اللغة عبارة عن أطر مفاهيمية حول اللغات، والمتحدثين، والممارسات الخطابية تتأثر إيديولوجيا اللغة، مثل غيرها من الإيديولوجيات، بالاهتمامات السياسية والأخلاقية، وتتشكل وفقاً للإعدادات الثقافية. بمعنى أدق إن الإيديولوجيا اللغوية هي جملة معتقدات قوم ملقاة على الواقع، ومن ثم هي تأثر في تصرفاتهم اللغوية.
– المراجع المعتمدة:
– أبو بكر باقادر: إيديولوجيا اللغة، مجلة علامات، ج27، م7، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد الخامس، الرباط، ذو القعدة 1418 ه – مارس 1998 م.
– حنين إبراهيم معالي: البُعد الإيديولوجي في روايتي موسم الحوريات وأبناء الريح وأثره في البناء الفني، مجلة دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، الجامعة الأردنية، المجلد: 44، العدد: 1، 2017.
– حيدر علي سلامة: لغة الايديولوجيا وايديولوجيا اللغة… قراءة في تاريخ العلامة المقهور، مجلة سيميائيات، الجزائر، المجلد: 11، العدد: 1، 29/09/2015.
– محمد أحمد عنب: الانثروبولوجيا اللغوية – تطور اللغات وتواصل الحضارات، موقع التقدم العلمي، 7 يوليو 2021. https://taqadom.aspdkw.com/
– هيئة تحرر الموقع: إيديولوجيا اللغة– Language ideology، موقع بالعربية، 30 يونيو 2022. https://bilarabiya.net/26860.html
– ياسر سليمان: ” العربية في خطر “… أو الإيديولوجيا اللغوية، العربي الجديد، 12 أبريل 2015. https://www.alaraby.co.uk
– باربارا جونستون: إيديولوجيا اللغة، ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي، موقع قناة 218، طرابلس (ليبيا)، 23/03/2018. https://www.218tv.net/%D8%A2%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9/
…………………………..
* الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة، قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً
* تعد الانثروبولوجيا اللغوية فرعاً من فروع علم الانثروبولوجيا التي تدرس اللغة ودورها الكبير في الحياة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات، وهي من العلوم المهمة التي تحاول توثيق وتسجيل اللغات المُهدّدة بالانقراض والاختفاء، وتدرس التأثير المتبادل بين اللغة ومختلف الأنشطة والممارسات الإنسانية الاجتماعية، أي تأثير اللغة ودورها في تشكيل المجتمع والثقافة، وكذلك تأثير الممارسات الاجتماعية في اللغة، وازدهارها وأفولها، وحياتها وموتها.