لن يجد قارئ رواية «حوّادم» ـ الصادرة في سلسلة «روايات الهلال» في القاهرة ـ خطا حكائيا يؤدي إلى آخر، أو عقدة يسعى إلى فك شفرتها، وإنما الغاية هي التماهي مع روح العالم، روح رواية يتناغم فيها الشعر مع الفلسفة والتاريخ، في نسغ فني، لتأسيس أسطورة يصبح القارئ طرفا فيها، حين يواجه ذاته بما يشبه حقيقةً تلخصها ـ منذ الأزل ـ ثنائية: الدماء والفردوس.
لا تحدد الكاتبة زمنا ولا مكانا لأحداث الرواية، قدر عنايتها بالتجريد الفني، واكتناه الجوهر الإنساني، بعد كشف قشرة اليقين عن حالات من الشك، إذ «تربكني حيرتي في الوجود، كما يربكني وجودي في الحيرة»، كما جاء في ختام مخطوطة لكاتب غير مشهور اسمه عارف مصطفى نسيم الطيار عاش بين عمي 1650 و1720 ميلادي.
مخطوطة «حوّادم» هي رواية داخل رواية بطلتها «وجد عبد القادر» الباحثة في معهد التراث بجامعة حلب، وقد ورثت القلق المعرفي عن أبيها، كما ورثت مكتبته بعد تنازل إخوتها عن البيت، وبدأت سياحتها مع غرفة مكتبة الأب، واكتشفت أنه ملأ هوامش الكتب بتعليقات وتأملات تستحق القراءة والنشر، ولكن تعرضها لعثرات شخصية انتهت بالطلاق شغلتها إلا عن مخطوطة «حوّادم» لعارف الطيار، وهو من فلاسفة عصره، وإن خلت الإنترنت من ذكر أي شيء عنه، أو عن مخطوطته ذات العنوان الغريب.
كانت وجد عبد القادر تبحث عن شيء من الطمأنينة بعد ارتباك حياتها، فوجدت نفسها أمام وعد جديد بالحيرة طوال تحقيقها مخطوطة «حوّادم». تختفي المسافة الزمنية والنفسية بين عارف الطيار كاتب المخطوطة، ووجد بطلة الرواية التي تحقق المخطوطة. تشعر وجد بأن عارف مرآة روحها، قرين حيرتها الوجودية، ذاتها الأخرى التي تردها إلى رحلة الإنسان الأول في تيه الكون الفسيح، منذ كان فردا وحيدا، أعزل حتى من اللغة، يجهل أسرار الكون، ولا يعرف ذاته؛ فهناك رجل يميل إلى إطلاق ترنيمة كونية غامضة لا يعرف لها اسما، ربما تكون الأنثى، ويرفع صوته بالغناء فلا يسمع إلا صداه، وعلى البعد توجد امرأة تسمع خطاه فوق الماء، وتبلغها ظلال أُنسه، وأصداء غنائه، هنا يبدأ الحنين، ومنح المعنى اسما.
تتشكل ملامح الفردوس باللقاء والمعرفة والاكتمال، ثم بالبناء، وكانا وحيدين. ناما دهرا ثم أحسا بينبوع ماء يتفجر تحتهما، وفي الغابة لا بد من أمان، فبنى لها من جذوع الشجر بيتا صغير، وتعاونا في اكتشاف الأرض، وتسمية ما يعثران عليه من زروع وثمار، في رحلة لا يدوم فيها الهناء، مع قدوم بنين وحفدة، تنطوي نفوس البعض منهم على طاقات من الشر، فيفسدون نعيما حلم به جيل المؤسسين، وتمر أحقاب ودهور: دهر الغوايات، دهر الطوفان، دهر الأمان، دهر الدماء، دهر الدمار، دهر الندم، دهر النهايات وفيه كل شيء يدل على الخاتمة، يشير إلى كارثة باتساع الجحيم، قوس أخير يغلق الأفق والأحلام على اللاشيء. كان هذا حظ الحفيد الأخير “أديم” الذي قرأ الألواح، وقال لزوجته: “إنها اليقين القادم، ولن نشعر بالأمان إلا قليلا، لأن الدماء إذا سفكت اختلت كل الأشياء في الوجود، وكلما ازداد سفك الدماء، اتسعت الفجوة بيننا وبين الفردوس، واتسعت المسافة بين نسلنا وبين تعاليم الألواح، حتى يغفل الجميع عن كل التعاليم، فتأخذهم النهاية إلى ما يعرفون، كأني أرى الجحيم القادم”
تنتهي مخطوطة “حوّادم”، ثم يضع عارف الطيار بعض تأملاته الصوفية”: “الموت حياة فائضة بالألم… الوجود أعمى، والإنسان هو حدقته الباصرة، والوجود جسد سوى أعضاء وجوارح والإنسان هو روحه المدبرة”، ولكنه لا يكتب شيئا يمنح يقينا لبطلة الرواية وجد عبد القادر.
تختتم وجد قراءة مخطوطة “حوّادم”، وتأملات كاتبها عارف الطيار، وتطوي الأوراق، وتغرق في وحشة وغربة وصمت تعجز الكلمات عن الإحاطة بأسبابه. هل تتحقق نبوءة الجحيم الواردة في الألواح بما يجري حولها في حلب؟ وجد لم تطرح هذا السؤال، ولكن القارئ يستدعيه بإلحاح، إذ يتابع وجد وهي تدخل في نوبات من الغيبوبة، وإذا أفاقت تساءلت مع القارئ: أي جحيم ينهض في ذاكرتها؟ «استعادت أرشيف الدم منذ أن كان الوجود حتى طوته على دم ينهض الآن في كل أرض، شهقت أمام لوحة تشكلتْ أمامها، أيقظت ذاكرة الصمت بأصابع الخوف، وانطوت كحرف على معناه. أحست برعب قد لفها بهاجس أن السماء ستمطر دما وكأن الوجود دم. لم تشأ أن تفتح التلفاز لترى إلى أي جهة قد امتدت الدماء، خشية أن تنفر الدماء من شاشته».