حوار مع الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

تاريخ ومكان الميلاد: 1935
تاريخ ومكان الوفاة: 10 أكتوبر 2024

على مقربة من النبع الفوّار الشهير باسم ((الماء الضاحك))، وضع تحت رأسه جريدةً واستلقى مع ذكرياته بقيلولةٍ يتسرّب منها صوتُ فيروز وبعض مقاطع شعرية لفراشات يشبهن بنات الجيشا بثيابهن وبحركاتهن وفقًا لأصول الإتيكيت.
وما أن وقفنا فوق رأس الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا، الذي كان سادرًا في تلك الإغفاءة الصالحة للبدن، حتى رأيناه يتحرك منتصبًا أمامنا، وهو يحمل كرةَ الأرض بين يديه، معتذرًا من القيلولة ومنّا ومن فراشات الطقس الخريفي.
تصافحنا. وتحركت بنا أقدامنا لنقع في بئر مخروطي باللون الأزرق، لنخرج من نهايته إلى غرفة ضيقة بكرسيين وطاولة احتشدت على سطحها الكثير من الكؤوس وزجاجات النبيذ والمكسّرات من جوز ولوز، وفواكه مجففة على شكل خنافس صغيرة كانت تقوم بترجمة بعض قصائد ويستن هيو أودن، وتحويلها إلى أصوات غنائية من فئة لغة الماء والشجر. شربنا نبيذًا وتلقّمنا سندويشات من الشاورما، ومن بعد ذلك فتحنا خزنة الأفكار لنستخرج منها معادن العقل لهذا الحوار.

قلنا للشاعر شوقي:

س: ما هذه التي كنت تحملها قبل قليل بين يديك يا شوقي؟
ج: الأرض. أخذتها من فندق الآلهة لتنام القيلولة معي هناك.

س: ألم تحزن من ترابها أو تضجر من مخلوقاتها؟!
ج: لا. شغفي بها لم ينكسر بعد.

س: أنت وُلدت في بيروت، ولكنك كنت تحلم بالريف. أية رغبة كانت تمتلك نفسك؟
ج: لم تكن رغبةً، تلك كانت لوثة تراكتور يحلم بشقّ التراب بأصابعه ليصير.

س: ما أوجه الشبه ما بينك كإنسان وما بين التراكتور كآلة؟
ج: هو حديد يمشي بقوة الديزل، بينما أنا ظلُّ شيطان يتحرك بطاقة الحبر والعرق الزحلاوي.

س: كأنك بقلب ريفي من الأعشاب. أليس كذلك يا شوقي؟
ج: كانت بصدري حبة كمثراة، وأكلها عندليب مغترب بعد أن ترك مكانها جرسًا شيعيًا لكاتدرائية كاثوليكية ذات طراز قوطي بأفكار زرادشتية.

س: وهل كان جرسك يرنّ؟
ج: أجل يفعل ذلك، قبل كل قصيدة تخرج للصلاة في براريّ الحواس.

س: من هم سكان حواس الشاعر برأيك؟
ج: عليك بطرح هذا السؤال على السيدة الأناكوندا المضطجعة على الأريكة في صدر صالون النفس. فهي تعرف أكثر منا نحن سكان الغرف المهجورة التي لم يعد عندها جوكليت عديم السكر ولا حمّالات صدور أو برغل لطنجرة أفخاذ مطلقات الدجاج.

س: أين كنت تقضي ليلك؟
ج: في صوت النوم.

س: هل في صوت النوم سرير للأحلام؟
ج: بالضبط. وكنت أراه سريرًا بطول خط الاستواء، تمشي عليه آلة زراعية لغرس بذور الذكريات، وهي في صفوف مستقيمة وأخرى متعرجة.

س: هل كنت صاحب حيوانات، زميل دراسة معها، أم كانت من جيرانك في الكتابة؟
ج: بالتأكيد. فالديناصور الوحيد الذي لم ينقرض هو من كان يقوم بواجب رفع جسمي من باب جريدة النهار البيروتية وصولًا إلى غرفة مكتبي بكل راحة.

س: هل تعتقد بوجود كتابة حيوانية وأخرى نباتية؟
ج: بالتأكيد. الحيوانية المفترسة أولًا، فليس نحن إلا حيوانات لغوية بالأصل.

س: وبرعاية مَن؟
ج: غلّاية القهوة.

س: ما أوجه الشبه ما بين الحِملان وما بين الكلمات؟
ج: أظن أن الاثنين يقعان في معضلة عويصة: الإنجاب الفوضوي.

س: كيف؟ هل صادفت شاةً وضعت حملًا في قصيدة مثلًا؟
ج: المعضلة بالشاة حين تضع كلماتٍ في حظيرة اللغة، وليس بالكلمات حين لا تستمر على الدراسة وأخذ السرتفيكا.

س: من أين جئت إلى الشعر؟
ج: من دَيْس الأرض. الحليب الساخن بتربة الغابة.

س: تقصد أنك فتحت الثدي ورضعت حليب اللغة من هناك؟
ج: بالضبط. لا أعرف من أيقظني لأخرج من ذلك السبات اللذيذ وأصنع أرضي من الورق.

س: هل وُلدت بجلد ورقي كما تظن؟
ج: نعم. لم تُسنح لي فرصة الخروج الطبيعي من تلك البئر، إلا بعد أن أكلت الغربان لحومي على جرف الرحم، وتركتني أتطاير ورقًا.

س: وأين كانت طفولتك؟
ج: في شاحنة المواشي مع الأعلاف التي تغطي بيوض الأحلام مع ثياب الليل وربطة عنق الغزال الأحدب.

س: وماذا كانت تفعل طفولتك هناك؟
ج: ربما كانت تتدرب على الرعيّ في حقول النظام الرأسمالي.

س: هل كنت بشوشًا يا شوقي؟
ج: أظنني كذلك منذ الساعة التي ربطني قلبي بمسمار تلك الأغنية التي وجدتها تلعب الشطرنج على رقعة الحصان.

س: عن أي حصان تتحدث يا شوقي؟
ج: الحصان الذي تعلّمت منه كيف أغيّر ملابسي مع الكلام في الصف الابتدائي الأول.

س: وهل تعلمت ذلك بعد مقتل والدك في حادث السير، أم بعد الاصطدام المؤلم القاتل يوم كنت في العاشرة من العمر؟
ج: ما أتذكره هو أنني انتزعت من جسمي الفرامل وحلقت طيرانًا فوق الهاوية.

س: كيف كانت صورة الهاوية؟
ج: كانت إجاصة فقيرة منخورة بضرس جردون شاب يتقن الفلسفة والضرب بالحديد وتفقيس اليأس الحزين.

س: هل كان في طفولتك ما هو شيطاني ومتوحش؟
ج: كان حزني نباتيًا بأسنان لبنية، أصابها الإخفاق على الدوام بأكل العضلات ونسل الصوف من أنسجة قمصان النسوة الشتوية.

س: هل وقعت ضحية مكر الطفولة وخداع خيالها السوريالي؟
ج: أنا من ذهبت إلى ذلك المكر لأتمتع بالنصيب الأعظم لذلك الخداع السوريالي. صعدت الكثير من السلالم لأصل.

س: وهل وصلت؟ وإلى أين يا شوقي أبي شقرا؟
ج: وصلت إلى الحشرات الضخمة في البدن البريتوني وعلى البرج الأعمى لروبير ديسنوس.

س: هل أصبحت عضوًا في هيئة المحلفين لكاميرات اللغات الزئبقية؟
ج: ذلك ما حصل بالفعل. عملت مدمنًا عند حشّاشين كانوا يمتهنون اختراع التصاوير وبيع خواتم الشمس للعشاق الفاشلين.

س: ما هو الشاعر؟ ما هي الصورة؟
ج: الشاعر قايش تستمر الصور بالمشي على ظهره للأبد.

س: وما الذي كان يعجبك بالصورة؟
ج: مرشد الصرخات العميقة.

س: كيف كانت علاقتك بالقصائد الثقيلة؟
ج: لم أرتح لأوزانها أبدًا. ربما وحدها البغال قادرة على رفع حمولاتها من الأنفس إلى السطور والحيطان ودهاليز الرؤوس.

س: هل وقعت بغرام العزلة؟
ج: أحببتها ذبابةً وراء زجاج نافذة، تجلس هناك بمعية طنينها وهي تتأمل أسنان الصحراء وتكاتب الغيوم.

س: كيف قضيت آخر اللحظات من حياتك يا شوقي؟
ج: بدق مسمار في الجدار الصوتي وتعليق مفتاحي الوجودي مع ضحكة بها الكثير من دم السماق.

س: ومن حمل النوم إليك لتستريح في البعد الآخر؟
ج: ومن يكون غير المُنوّم بالضبط؟

س: وكيف تعاطى معك؟ هل فرغك المنوّم من النوم وصولًا إلى مرحلة التفريط بثياب الليل مثلًا؟
ج: لا أذكر شيئًا كثيرًا. ولكن طائرة مسيّرة سرعان ما انتشلت جسدي من سخانة الحمّام لتوصلني إلى دار أوبرا. هناك رأيت الموت.

س: ومن صعد منكما ومن نزل، أنت أم الموت؟
ج: لم أعرف. ففي تلك اللحظات كنت مشغولًا بكتابة موّال عن تفاحة آدم التي وجدتها تضحك قبالتي في ذلك الأسانسير العطلان.

س: ولِمَ كان الأسانسير معطلًا؟ هل بسبب الحمولة الزائدة؟
ج: لم أبحث في غوغل عن أسباب أعطال المصاعد، كنت منهمكًا بربط شريط قندرتي النباتية.

س: كم من الأفراد كانوا معك في الرحلة الأخيرة؟
ج: ليس معي سوى بقجة الأحلام وزوادة من طعام الريح.

س: ربما كانت الأوزان الزائدة للأحلام سببًا بتعطيل المصعد. ألا تعتقد بذلك؟
ج: لا أظن ذلك. فأحلامي كانت “مشفاية” من الدهن وفي وضع الحمية اللبنانية.

س: هل مكثت طويلًا في ذلك المصعد؟
ج: لا. فقط بضع ساعات، وبعدها هبط علينا ما كان يُسمّى بفني مصاعد أهل الجنة.

س: أكان بلا اسم؟
ج: نعم. عرّف عن نفسه بالمصلّح الإلهي. الرجل أرهق عضلاته بالبحث عن الزرّ الخربان، وحين عجز عن تصليح ما جاء من أجله، سرعان ما فجّر باب الأسانسير، لأكون أنا وبقجتي على متن خطوط الهواء الشيطلائكية في رحلة حرة.

س: ومعك التفاحة؟
ج: لا. جاء السيد آدم وأخذها منتشيًا، بعد أن قدّم للمدام فأسًا كهدية، ثم رمى عليها ورقة الطلاق وهبط في ملكوت “السكس بيك”. لكنها لحقت به دون هوادة.

س: هل كان الوقت نهارًا أم ليلًا؟
ج: كان الاثنان كزوجين متداخلين ببعضهما، فأنت لا تعرف إن كنت موجودًا في مجرى نهار أم كنت نائمًا على ضفة ليل.

س: هل الزمن الذي رأيته هناك حديثُ العهد يا شوقي؟
ج: أجل. هو طويلٌ نحيف، بضفيرةٍ مُتهدّلة، يقضي وقته بالقيلولة مع صاحبته في قاربٍ من لحم.

س: ومن كان ثالثهم في ذلك القارب اللحمي؟
ج: كلبُ صيدٍ للأرانب والسحالي والنصوص.

س: ألا يُحسن ذاك الكلبُ الترجمة؟
ج: بالتأكيد. كان الكلبُ يتقن الترجمةَ بلغات الليل والنهار. وله بيتٌ زجاجيّ يختلي على سطحه بالقصائد ذات الأثداء الصغيرة. كلبٌ صنديد يترجم ويلحس الآيس كريم، ثم يأتيني ليلاً ويضع الظلامَ أمامي على الطربيزة.

س: ماذا يَصلُحُ ليلُك أن يكون يا شوقي؟
ج: عادةً ما كنتُ أراهُ مُربّياً لدموع الأنجم والفراشات والصيصان الشاردة على طريق المدرسة.

س: وماذا غير ذلك يا شوقي؟
ج: أنا شاعرٌ انقلابي، أفكّر في كلّ لحظة بحادث سير أو مؤامرة. مرةً شعرتُ بوقوعي كصخرةِ سيزيف في بلعوم الموت. انتابني الذعرُ آنذاك، وفكرت: كيف سأشقّ الليلَ إلى قطعتين؟ واحدة ألّفُ بها أشجار الغابة منعاً للتجلّد، وأخرى سبورةٌ لتدوين الأخبار عن القصائد التي تذهب إلى الحرب عاريةً.

س: وبماذا تستطيع اللحومُ العاريةُ تسجيلَ كتاباتها لو ذهبت القصائد إلى المعارك؟
ج: بِخَلّ التفاح.

س: أَمن أجل أن تبلغ الكلماتُ مرحلةَ التخمير كما ترغب؟
ج: ليس ذلك وحسب. الأهمّ من الخلّ المستحصَل من عصارة لغة التفاح هو تحوّل السكريات إلى كحولٍ شعريّ بنسبة عالية من البكتيريا.

س: وكيف رأيت الشعرَ يتفاعل مع البكتيريا برأيك؟
ج: بالتصاوير. فالبكتيريا في الشعر هي أُمّ الصورة، وعمّةُ التصاوير التي تقوم عادةً بنشر جذور الريف ليتشبّث بتربة اللغة.

س: وما معنى اللغة؟
ج: الاشتياق. أجل… اللغةُ هي اشتياقُ المجهول.

س: هل يمكن الوصول إلى ذلك المجهول يا شوقي؟
ج: أجل… بكسر الأفق.

س: وما شكلُ الأفق الذي رأيته يوم وجدتَ نفسك مخلوقاً على الأرض؟
ج: لم أتخيّل الأفقَ إلا كسنجابٍ طويل لا يتوقّف ذيلُهُ عن النمو. سنجابٌ لا ينام في غرفة اللغة، ولا على حائط الجدل، ولا داخل ثقوب الزمن، ولا بعصير اليد.

س: من هو الأكثر بلاغةً شعريةً من السنجاب؟
ج: الثعلب. أنا أحبّهُ لأنه مختارُ ضيعة الحبّ التي طلّق فيها الشعرُ زوجاتِه، ليبقى شاباً أزعرَ مُستأنساً بمرجعيات بلاغة الأثداء، وتأويلات القُبل، وجازٍ ومجاز الـ”سكس بيكس” المنتج للكريات الحمراء في طاحونة حروب الغدر والهجران وبواريد الغرام المكسورة.

س: هل يَغويكَ الدم؟
ج: ليس بالقدر الذي يحدثهُ أحمرُ الشفاه على قميصي أو بين أضلع أوراقي.

س: هل لغة الشاعر هي ثيابه برأيك؟
ج: لا أظن ذلك. الشاعرُ متاهةٌ بمايوه من النايلون الشفاف، فيما اللغةُ حوضُ حاكوزي في أعالي برج.

س: هل سبق لشوقي أبي شقرا أن وضع ليلاً وردةً بين صفحات كتاب ليجدها جرادةً يابسة في الصباح؟
ج: أحياناً تتزاوج بعض الكلمات بين أوراق كتبي، فأجدها حبلى، مما يضطرني لتهيئة نفسي لخياطة ثيابٍ للمواليد الخُدُج تحت الأغلفة.

س: وماذا تفعل بأولاد تلك الكلمات وبناتها؟ هل تأخذهم لملاجئ الأيتام مثلاً؟
ج: لا. إنما كان من عادتي أن أرسلهم إلى الإقامة على صخرة الروشة، كي يتعلّموا السكوتَ الفوضوي، والتأملَ، وتقطيرَ أبخرة المياه صالحةً ماسكات لتجميل الوجوه.

س: ما علاقةُ الكحول باللغة؟
ج: إنها علاقةٌ قوية ووطيدة. فقسمٌ من خلايا اللغة هو بالأصل دِنان خمرٍ من شغل أهل النحو القائم على تصرّف نيران الكلمات في المعاجم والقواميس.

س: هل تتعفّن اللغةُ أو تفسد دون كحول؟
ج: بالتأكيد. فالكحول لا يطهّر اللغات من الأدران والعفونة وحسب، بل يحول دون موتها بالرتابة والروتين.

س: ألا تعتبر الفلسفةَ دمَّ الشعر؟
ج: كنتُ أرى الفلسفةَ حجرَ الشحذ اللغوي لتجليخ وجه الشعر… وكرهتُ تلك القباحة.

س: كيف كنتَ تُهندِسُ أوراقَ قصائدك لتخرج من الرأس إلى الكتاب إلى هاوية القارئ؟
ج: لغتي ليست بقرةً طَنّانة، وأنا لستُ راعياً مُتكلّفاً.

س: على أيّة هيئة تركتَ الشعراء على الأرض؟
ج: تركتُهم نمالاً يتلمّسون الطرقَ بين سيقان زرافات اللغة.

س: كم نسبةُ الهذيان الهرطوقي في شعر شوقي أبي شقرا؟
ج: أعلى من نسبة الأوكسجين في علبة سردين.

س: لِمَ كنتَ تقتلُ المنطق في أرحام قصائدك؟
ج: لستُ أنا من يفعل ذلك… بل شيفُ الحيوانات المنوية.

س: كي يمحو ذريّتك من كامل المادّة الوراثية مثلاً؟!!
ج: لم أقع يوماً في غرام النطفة. كنتُ أترك الخلايا التناسلية للكلمات نهباً لفوضى التكاثر الجنسي، دون قمع ولا تغيير في مسار حركة تلك الحيوانات.

س: ما الذي أخذتَه معك في هذا الكيس إلى القبر؟
ج: أخذتُ مرآتي المحطّمة، كي تشغل الديدانَ بممارسة اليوغا تحت التراب، وتتركني أقوم بجمع قطع غياري من الزجاج الذي تكسّر بداخلي منذ قرون.

مقالات من نفس القسم