انت جيت يا ابن الحلوة ؟
تهش وابتسامة تتسع حتى تغور في عمق وجهها، تستبق حضنها وخطوتها, وزوج الحمام يلاحقها في حركة قفز رجراجة.. بصدر منبعج ، أنحنى لألقف إحداها، وجدتي تلقف خدي، وتملس شعري في عنف المحب، وأصابعي تمرح في رجل الحمام المكسوّ بريش نافر كأنه لصق بصمغ كالمعلق بالباب.
أمك عامله إيه يا وله؟ سيب الحمام يا مقروض ، وهي مجتش معاك ليه ..تعال ، تعال عشان تاكل..
تفتش في خرقة قديمة منبعجة بها مجموعة من حشوات ورقية مقفلة على نفسها ربما بصمغ أيضا.
جبت لها الكزبرة والشيح والفلفل السوداني ، متنساش تاخدهم معاك..
(لماذا تنسى الجدة دائمًا أن ابنتها رحلت ؟!)
هو الحمام ده دكر ولا نتاية يا جدتي ؟
تسحبني بيد رطبة إلى داخل غرفتها النيئة ، رطبة أيضا، لها حضور صامت وبها ضوء شباك خافت مارق عبر غلالة من قماش “المسر”الذي تحكى أنها .أحضرت”هدوم” عرس أمي فيه.
تتوسد حشيتها على دكه خشبية وإنا منهمك في التهام المهلبية الحمراء، يرق صوتها ، تنظر إلى جدّي الملصق على الحائط، اهترأت قشرة البوية من تحته، تحسب نفساً عميقاً من صورته ..” يوم أن مات انشق الحائط عن زوج الحمام ، كان متكئا يدعو لأمك.. ويسبح الله.. ويستعيذ بقطب الرجال المتولي، وسيدي على السغستانى وأهل البيت والحواشين أن يحوشوا عنه .
انشقّ الحائط عن زوج الحمام الذي رفرف وحطّ على صدره بوداعة، أحدهما يفتح منقاره و الآخر يقرأ التشهد لجدك.
لمّت طرف ثوبها وبان إصبع رجلها اليسرى أو اليمنى- لا أدري ، كان ملتئمًا وبعد انفلق إلى اثنين وهي صبيّة (وقع عليه البلاص عندما كانت تختلس نظرة بطرف عينها إلى جدي)، والحمام نائم على صدره يقأقئ ويقرأ التشهد.
..اتكأت على حافة الدكة ومال رأسها للخلف مثلما فعل .
وأمّك يا وله ما قالتكش حاجة ؟ انت يا وله..
صوتها يبدأ في الانسحاب الداخلي كعادتها ، كخجل غيمة خريفية حين تناوشها الشمس ، لم يستسغ الحمام طعم المهلبية الحمراء التي سقطت من الملعقة التي انكسر نصف يدها .
لماذا لم تقم جدتي بلحمها بالصمغ -.
يا جدتي .. هم الميتين بيروحوا فين ؟
لم ترد..
تهادى الحمام على صدرها.. تقلق مرتين ثم وقفت أحداها قبالت الأخرى.. وقأقآ.. يا جدتي.. يا جدتي..
كان زوج الحمام يقرأ التشهد ، ولم أشأ.. لا.. لم أستطع أن أمدّ يدي لأهشّة.. تملكني احساس بأنه التصق بصدرها .
ترددت لبرهة أن ألقف حشوات الكزبرة والفلفل، فكرت للحظة أن أغلق الباب.. بانت نتوءات الصمغ بارزة.. عبرت ومضيت.