محمود الورواري
حين أهداني نصه حكايات الحب الأول قدمه لي بتوقيع يقول هذه نصوص من أعماق روحي أتمني أن تصل إلي روحك. وما هي سوي دقائق حتي خطفني ذلك النص المتعالي فوق التسميات والتصنيفات الأدبية, إنه نص مرواغ يعيد تشكيل نفسه أمامك حسب الزاوية التي ترتقي فيه روحك إلي مدارجه, فإن فرغت من قراءة الصفحة الأخيرة اكتشفت أنك أمام نص روائي بامتياز يتجلي في مغامرة شديدة التشويق حول تلك الروح التي تطارد حبيبة فارقتها ثم لا تلبس تلك الروح أن تنقسم علي ذاتها فتتحول بين ضميرين الأنا والهو.
أما إذا دلفت إلي صفحات ذلك النص الأول ورحت تتابع فضاءه النصي المبني علي تقطيعات وترقيمات تبدأ من المقطع(1) وتنتهي إلي المقطع(100) فإنك فورا ستقرر أنك أمام مجموعة من النصوص القصصية القصيرة التي تعتمد الومضة القصصية أو الفلاشة.
وفي كل الأحوال نحن أمام نص مرن مرونة الروح الملتهبة والمقسومة علي ذاتها والمعذبة في آن واحد,
نص يخطئ من يصر علي حصره في جنس أدبي بعينه لأنه ببساطة سيكتشف أنه اعتقله أو سجنه وبالتالي أفقده بهجة التحليق.
الخط الدرامي الواحد الذي يلضم فيه الكاتب حكاياته التي هي تباريح الروح المثقلة بالتعب, هو خط الباحث عن حبيبته الضائعة, تلك الحبيبة التي في كل ومضة يكشف لنا بعضا من ملامحها ليدرك القارئ في النهاية أنها خليط بين ملامح البشر وتجليات الملائكة وكأنه يوشك أن يبوح لنا بأنها مجرد حلم لم يتحقق بعد.
تلك الروح الباحثة عن نصفها المفقود, تارة تتجلي في صورة الشمس فنري الشمس جريحة تشر بعضا من دمائها علي الكون لتنقله إلي زمن الغروب, وتارة تسقط تلك الشمس في صندوق الليل لتسجن في ظلمات الفقد.
تلك الحبيبة التائهة يوقظنا الكاتب من ذلك المتخيل عنها حين ينقل لنا بعضا من بشريتها المحسوسة عبر إخبارنا بتلك اللحظة التي أخبره فيه زميل الدراسة أنها قد خطبت.
أو عبر الوشوش التي تشبهها حين يصادفها في رواحه ومجيئه.
الكاتب يصر ببراعة فائقة علي جعل هذه الحكايات في المطلق الإنساني, يجعلها قصصا تتوه في الروح, ويتجلي ذلك في إصراره علي عدم إعطاء أسماء لأي شخصية,فنحن أمام أبطال للأحداث بلا أسماء, فقط( الحبيبة ـ هو ـ أنا).
حتي المدن ظهرت بلا أسماء, وحده ميدان التحرير كان له اسم وهنا انطلاقة أوسع لفك دلالة تلك الحبيبة المبحوث عنها.
في المقطع20 يأتيه صديقه ويقول له إنه رأي حبيبته التي ظل يبحث عنها سنين طويلة في ميدان التحرير, هنا يلتقط الـ( هو) الباحث عن حبيبته خيط الخلاص ويذهب إلي ميدان التحرير فتتجلي له حبيبته في المقطع21 حيث تأتيه في إغفائة وتقول له:
لن تنكسروا وتبشره بنصر قريب.
هنا تأخذ الحبيبة بعدا آخر يرتقي إلي الوطن, مصر, وبالتالي يجعلك الكاتب تعود إلي المقطع الأول حين يأتيه صوتها عبر الهاتف لتقول له إنها هي تهللت أساريري لأنني وجدتها.
لنكتشف أن هذا المقطع هو مقطع النهاية لقصة طويلة مبكية ومؤلمة بعد رحلة بحث مضنية عن تلك الحبيبة الضائعة والتائهة.
عمار علي حسن كروائي محترف يميل إلي أحداث الصدمة عبر استحضار مشهد النهاية في البداية ليفجر في القارئ طاقات الفضول.
من هنا نري أننا أمام حالة لحبيبة وليست حبيبة بعينها, فهو يطارد معني الحب في الأشياء, من الحبيبة زميلة الدراسة,إلي مصر في ميدان التحرير, إلي الحب الصوفي عبر المتجلي في رغبة القرب من الذات الإلهية حين يرتدي الأبيض ويغادر إلي الصحراء فيراها محفورة علي الرمال.
وتتجلي الروح أيضا صراحة عندما يلتقي بالشيخ في الحضرة في المقطع47 ويقول له الشيح ويسألونك عن الروح, أو في المقطع66 أتريد أن تقول إن الروح هي الهوي والهوي هو الروح.
التنقل بين الـ(هو) والـ( الأنا) هو تنقل عبر منولوج بين شخص وذاته, بين شخص وروحه, وهو يصر علي تحويل المحسوس إلي مجسد كما ظهر في المقطع67 حين يترك روحه علي مقعد في المقهي المعبء بالدخان ويغادر.
هنا إصرار منه علي أن يتعامل القارئ معه علي أنه شيئان, كيانان لا شيء واحد, شخص وروح, أو روح وذات.
وربما هذا ما جعله يرصد التضادات الحسية والمعنوية فهو يري القدر بأنه الحد الفاصل بين الرشد والجنون.
ويري أن الفرق بين الحب والتعود كبير فالحب حرية والتعود سجن.
هو أيضا يري أن العالمم متناقض, هو ضيق جدا وفي نفس الوقت واسع جدا, لكن الذي يحدد ذلك تلك المساحة التي تتحرك فيها الروح.
إن الجملة الموجعة تلك التي يسربها لنا: كل الزهور التي أينعت أمام أعيننا قطفها غيرنا مقولة تنسحب من الحبيبة التي تضيع, وحتي أوطاننا التي تسرق أمام أعيننا, عمار علي حسن المهموم بالوطن, والموجوع بضياع ثوراته علي أيدي لصوص السياسة ولصوص الدين, يحول كل نص أدبي إلي ملحمة تنضح بزلم الذات المتشظية في حب الوطن, وألم تلك الذات المقهورة أمام انكسار الأرواح علي مقصلة السياسة.
حكايات الحب الأول, نص مفتوح علي كل التأويلات, لا يرصد حركة الأجساد في الشوارع بل يرصد حركة الأرواح في الصدور.
نص ساحر يسير بين الجلد واللحم, يتغلغل في الوجدان فيكشف فيها القارئ, شجنا ووجعا ولوعةيترجمها كل قارئ حسب وجعه ومنتهاه.
بكل جرأة أستطيع القول إن عمار علي حسن بهذا النص يفتح بابا جديدا في فضاء الرواية,ينقلها من مربع تيار الوعي, إلي مسمي جديد اسمه تيار الروح, رواية المحسوس.