إبراهيم فرغلي
أن تتحول الحياة المعيشة إلى قصيدة، هكذا كنت أهمس لنفسي بينما أقرأ ديوان الشاعرة إيمان مرسال “حتى أتخلى عن فكرة البيوت”، للمرة الأولى. مستسلماً، في الوقت نفسه، لغواية الانطباع الأوليّ الذي تخلقه قراءة أولى قصائد الديوان “لعنة الكائنات الصغيرة”، بأن إيمان وقعت على بئر السرد، وألقت فيه بدلوها الشعري في محاولة لأن تنهل مما في جُبّ البئر، لتروي به حقول القصيدة.
لكن المُضيّ قُدماً في الديوان سرعان ما خفّف من حدة هذا الانطباع المتسرع، وفي القراءة الثانية واللاحقة، وما بعدها، تبين لي أن ما يبدو نثراً أو سرداً ليس سوى حيلة شعرية جديدة، تحاول بها مرسال الولوج إلى جملة شعرية بالغة التكثيف، لكنها لا تريد أن تقولها دون أن تمهد لها، بخلق لوحة “شبه سردية”؛ بديلاً للجملة أو للصورة الشعرية المجردة، وبحيث تأتي الجملة في النهاية حاسمة وشعرية بامتياز، مثل قولها في نهاية نص (لعنة الكائنات الصغيرة) :”ما أذكره غائب عن الصورة فلماذا أجتهد هكذا لأحافظ عليها من الضياع”. أو كما في ختام قصيدة مقالة في (ألعاب الطفولة) حين تقول: “دور العمياء في كل مسرحية لم يكن يريده سواي”.
كنت اتبين مدى كثافة نص (لعنة الكائنات الصغيرة)، وكيف أنه في اعتماده على الذاكرة واللقطات المشهدية العائلية، والصورة، يتكئ على إبراز التناقضات، بحس ساخر حيناً، وبحسرة وألم وجداني حيناً آخر، وأحيانا بلون من الحنان، أو بما يشبه غمزة مرحة مرات.
لكن هذا المرح يبدو كأنه ابتسامة يشوبها شئ من مرارة تكاد لا تُرى، من مثل تصوير التناقض بين فكرة الفقر وبين تحايل الصور العائلية عليه بإظهار الأطفال وهم يمسكون النقود في الصورة، بحيث يتم “تخليد النعمة” التي قد لا تكون حقيقية خارج إطار الصورة، أو غير ذلك من صور التناقض.
النص الذي يتناول ما تسميه الشاعرة “وطني الأم”، تبدأ أولى تجلياته من تناقض اسم هذا الموطن مع واقعه: “ظُلِم هنا أناس كثيرون، وسميت هذه القرية (ميت عَدلان)”. ثم تأتي التقاطات الذاكرة أيضا لتومض بتناقضات شخصيات التاريخ العائلي، فيما طائر الموت يطلّ كثيراً على مصائر تلك الشخصيات، ولاحقاً نعرف أن “قرية الأسرار العظيمة ليس بها باب يغلق”.
وعلى ذكر الأسرار، فإن مساحة واسعة من غواية القصيدة الحديثة، عندي، تتحقق من إحساسي بأن القصيدة بناء لغوي يتم تشييده في معبد الأسرار، ليس من السهل فك ما تقصده، إما لشدة كثافتها، أو لاستخدامها لطاقة الرمز والخيال، كما نرى في قصيدة “رسام الملائكة” مثلاً:”تترك الألوان الحقودة خارج اللوحة، تدعي الروحانية فلا تقترح صوتا ولا رائحة. أجساد بيضاء ووجوه هلامية، أجنحة تلتصق بالورقة كوشم ولن تطير أبدا”.
وطاقة الرمز والخيال لا تتوقف على لغة مجردة أو مستعارة من المعجم فحسب، بل قد تمتد إلى مساحة الظاهراتي الشائع، حتى لو بدت أنها تستخدم لغة الشارع وتبحث عن مظاهر اليومي العابر، كما هو توجه القصيدة الحديثة في مصر إجمالا، وكما نرى هنا في هذا الديوان في غير موضع وخصوصا في قصيدة “إيميل من أسامة الدناصوري” على سبيل المثال.
أما السبب الثالث لإحساسي وشغفي بلغزية القصيدة الحديثة فلأنها، في أول الأمر ومنتهاه، محاولة الشاعر لاعتراف سري يحتاج ان يتخلص منه، على ما يقول الشاعر الإنجليزي تيد هيوز. ولعل الحاجة إلى إخفاءه هي التي تجعله شعرياً. أي أن السر الحقيقي هو هذه الحاجة الغريبة الى الإعتراف، “ربما لأنك إن لم تقم بذلك الاعتراف السري فلن تكون عندك قصيدة”. وهذا، في تقديري، منهج هذا الديوان كاملاً.
على مستوى طموح الفكرة الشعرية ثمة حس وجودي عميق، يبدو كهالة تتبع هذا الديوان أينما يسير. وعبر مستويات عدة وطرائق مختلفة. الحس الوجودي تخلقه أسئلة وجودية مباشرة في بعض الأحيان عن معنى الحب، أو الحياة، كما في قصيدة النجاة مثلا:”هل هذه هي النجاة؟ هل النجاة أ تكون في صحراء كهذه وتحت قدميك جوهرة لم تكن تعرف أنك تبحث عنها؟”.
يتجسد الحس الوجودي أيضاً من سؤال القصائد الرئيس في تأمل الشاعرة لمسارات الحياة “من أنا”؟ كما في قصيدة (حياة) وفيها تقول:”حياتي التي فشلت دائماً في لمسها، في أن أجد صورة لي معها، بجانبي على نفس السرير، تفتح عينيها بعد غيبوبة طويلة، تتمطى كأميرة واثقة أن قصر أبيها محمي من اللصوص”. وهي قصيدة وجودية بامتياز من حيث طبيعة السؤال الذي تطرحه والهاجس الذي يسيطر عليها “أمامي حياتي كلها؛ حتى أنه يمكنني ضمها إذا شئت، يمكنني حتى الجلوس على ركبتيها والغناء أو العويل”.
كما يخلق هذا الحس الوجودي، في أحيان أخرى، تداخل الذوات الأخرى مع ذات الشاعرة عند استعادة الخبرات الماضية في نطاق خبرات الحاضر.
ثمة عدد من النصوص تتناول هذا الهم منها مثلاً في نص (تصبح على خير) يأتي قول الشاعرة:”اقول بنفس الحنان تصبحين على خير للهندية الواقفة منذ الصباح خلف صندوق النقود فتبتسم بطراوة كأنها لم تكن غاضبة من ثوان على زبائن اللحظة الأخيرة”. أو كما في نص (تجارة العبيد) حين تقول مثلاً:”متى يأتي بحار ليفك كرتَي الحديد من قدميّ، أريد أن أتأكد من وجود قلمٍ رصاص وكرّاس ماركة Molesine في حقيبة الظهر، سأسجل ما يحدث لي في لغة مؤثرة”.
كما يتمظهر الحس الوجودي في أسئلة الشك، التي تعبّر عنها ذات قلقة متخمة بالأسئلة عن معنى الحياة، عن قيمة الحب، وأوهامه، بل وحتى التعبير عن عمق سؤال الوجودية، الذي يوجه انتباهه لما تعطيه الرؤية الحدسية وما يحتل مكاناً في الشعور عن طريق هذه الرؤية، تأكيداً لأن ما يحياه الفرد هو العالم الذي يراه. تقول مرسال في ختام قصيدة (كأن العالم ينقصه شباك أزرق) :”يروق لي أن أصلّي ولا أعرف لمن”. وقبلها وفي القصيدة نفسها تقول:”أما أنا فأشك أن الجبال في أماكنها، وأظن أن أقرب مكان بعيد عن التيه هو الموت”.
يسيطر على العديد من قصائد هذا الديوان حس فلسفي يندمج في جدار البناء الشعري ببراعة، ويمنح النص عمقاً إضافياً لرؤيته الشعرية، وعبر نماذج العديد من القصائد بينها ما سبق ذكره في أمثلة آنفة، لكني أظن أن المتح من معين السرد أيضأ منح للشاعرة مفاتيح لصور عديدة جديدة ومختلفة. ومن بين هذه الصور مثلاً ما يأتي في مطلع قصيدة (احتفال) :”وقع خيط القصة على الأرض فنزلت على ركبتي أبحث عنه”.
لكن اللافت أنه بالرغم من هذا الهم الوجودي فإن الجسد لا يحظى باهتمام كبير، وحتى في قصيدتين تحتفيان بالغرام، وبعلاقة سريّة بين عاشقين، لا يبدو الجسد، إيروتيكياً أو فيزيقياً، له حضور مؤثر، خصوصاً في قصيدة (وكأن العالم ينقصه شباك أزرق)، ربما باستثناء جملة في القصيدة تقول:”يعود كل منا لأهله. قُبلٌ في الرقبة وخدوشٌ في الظهر، رائحةٌ في الجلد وآلام تحته”. وربما يأتي ذلك من كون الأنا هنا تتساءل عما إذا كانت تفاصيل ما تورده من رحلة لقاء العاشقين تعبّر عن حب حقيقي أم أنه مجرد رحلة جديدة من رحلات صناعة الوهم حتى إتقانه؟ وتستخدم، في تذكر لحظة العلاقة الحميمة وصف “جثتان جميلتان”.
وربما يعود ذلك أيضاً إلى الإحساس الذي تسبغه العديد من القصائد على الحضور الجسدي بكونه وجوداً في ممر معتم وضيّق، عادة لا يتسع لأكثر من واحد. أو بكونه تصور الطفل، في لعبة الاستغماية، كما يرد في قصيدة (مقالة عن ألعاب الطفولة) بأن الآخر لا يوجد حين يغلق الطفل عينيه.
في قصيدة “تجارة العبيد” تتقمص الشاعرة صوت امرأة يفترض أنها كانت واحدة ممن خرجوا من كوّة “باب اللاعودة” الذي كان العبيد يخرجون منها – ولعل الشاعرة هنا تقصد “قلعة المينا” في غانا – إلى العالم الجديد؛ الذي يتحولون فيه من أجساد وذوات حُرّة، إلى عبيد لا يملكون من أمر أنفسهم أو اجسادهم شيئاً. لكنها تقف “حُرّة وقلقة بين الحصن والمحيط”، لأن تفاصيل صغيرة في المكان ستجعلها ترى أن التحرر من العبودية لا يزال، حتى لو بدا اليوم تاريخاً بعيداً، وهماً لم يتحقق، لأنه اتخذ أشكالا جديدة ومختلفة.
في هذا الديوان الفاتن تتقدم مرسال، مرة أخرى، قُدماً، في مسيرة تجربتها الشعرية، وتقدم نصاً كثيفاً وحياً وموحياً، يفيض بالأسئلة الوجودية، عن الذات والآخر. ولا يبدو فيها السؤال في هذه المرة كمن يراجع نفسه من عالم “الآخر”؛ كما كان شأن ديوانها الأخير “جغرافيا بديلة”، وإنما من موقع وجودي أكثر توازناً، وثقة بالذات، رغم القلق الوجودي والإنساني، وهو سمة أساسية لكل شعر حقيقي على أي حال. بل يصدر السؤال هنا عبر حسٍ عولمي متصالح مع موقع الشاعرة الراهن ؛”هناك”، رغم أنها تنتمي إلى “هنا”.