حائط الأمنيات
دينا فرج
في كل مرة تراودني فيها أحلامي عن نفسي أشعر بدقات قلبي القوية وأنا أسير خلفها كالمغيبة، أحاول أن أكتشف من أنا عبر تفاصيلها المعقدة.. أتنفس ببطء، ويهبط صدري ويعلو وأنا أراها تطفو من حولي كالنجوم القريبة جدًا رغم بعدها الشديد. تشع بنور إحساس التملك الذي يسيطر عليّ، ولكن عجزي الدائم يجعلني قابعة وسط دائرة التمنيّ فقط، فلا أنفك أشاهدها تطفو من حولي بلطف وخفة.. أسير وسطها كالمتفرجة المسحورة وأبتسم فقط بأمل.
يعلق بذاكرتي مشهد من فيلم The secret life of bees ويعلق بذاكرتي أكثر الحائط القصير الممتد عبر حديقة المنزل الخلفية، حيث تقبع أحلام "ماي" ومخاوفها، وتفريغ مشاعرها المتدفقة داخل أوراق صغيرة تختبئ في شقوق الحائط بين الأحجار، حتى "لي لي" حشت مذاكرتها وتفاصيل قصتها داخل الحائط، وكأنها تأتمنه على حكايتها بفصولها القديمة، لتبدأ حكاية جديدة في حياتها بعد أن تصالحت مع الماضي الراقد في الدفتر.
يروق لي أن أبني حائطًا كهذا بداخل عالمي، يمتد عبري، ليشغل ذلك الحيز الفارغ في حياتي، أُسكن بداخله أوراقي السرية.. أحشوه بالأمنيات المعلقة حولي، تنام أحلامي داخله بأمان.. أزورها من وقت لآخر وأطمئن أنها لم تمت بعد.
كم جميل لو التطقت بضعة أوراق من أحد دفاتري المفضلة الصامتة، وجلست أدوّن أمنياتي التي أسعى وراءها في أحلام يقظتي!
سأدون أمنيتي بالسفر إلى بريطانيا، حيث أستطيع لمس الضباب وأنا أمضي على جسر لندن بهدوء، سأستمع إلى "أديل" وأنا داخل عين لندن التي تُريني العالم الغارق تحت دروان عجلتها العملاقة.
ستدق "بيج بن" معلنة تمام الخامسة، فأذهب لأقلب نفسي داخل دفء فنجان الشاي الأنيق، والذي ترافقه قطعة كيك إنجليزية مميزة. سأنطلق في رحلات إلى حيث قصور تُعيدني إلى الحقب الفيكتورية، قد أراني فيها بثوب قديم منفوش أدور به ومن حولي تدور حدائقها المذهلة.
سأبحث حتمًا بين الوجوه الإنجليزية عن مستر "دارسي"، أو قد أرى "هاري بوتر" وهو يقطع السماء على مكنسته يحاول الإمساك بكرته الذهبية الصغيرة.. وسأحاول أن أتخيل أنني سأقابل "ناجيلا لوسون" الرائعة لأحضر معها إفطارًا شهيًا، وأخبرها أنني ما زلت أضع عود ثقاب داخل الماء عندما أسلق البيض، كما رأيتها تفعل في برنامج الطبخ الذي تظهر فيه بكامل جمالها ولكنتها التي تذيب قلبي.
***
سأدون أيضًا أمنيتي بلقاء رائق يجمعني ببيانو عظيم في هيبته، حلم بعيد كما السماء.. لطيف كمداعبات أصابعي الخفيفة للهواء بحركات منتظمة تحاكي عزفًا لا يتم إلا في خيالي أنا فقط، أتصورني عازفة ماهرة لو قُدِّر لي التعلُّم يومًا.. سأكون أسيرة لتلك الأصابع المتناقضة في بياضها وسوادها.. أضيع فيما بينها وأنا أتلو من النوتات الموسيقية ما تيسر من معزوفات "شوبان" و"برامز"، ترتاح بداخلي المنغصات وتهدأ كلما ارتكنت إليه.. أذيب داخله انفعالاتي والآلام، ونندمج حتى يخلو العالم من كل ما سوانا.
***
على ورقة صغيرة مُصفرة سأكتب أمنية ألخص بها توقًا منذ الطفولة إليه، ولكنني لن أحتفظ بها في زجاجات بائسة تجوبه بيأس، علّها تقع في يد غربية تقرأ ما ليس لها.. بل سأقذفها نحوه مباشرة ليتشرب هو الأمنية وتذهب مع الأمواج، حيث المحارات التي تنغلق على أسرارها وتحتفظ بالأمنيات السرية.
سيعي البحر كم أريد أن أقطع الماء باحتراف.. لا يرهبني غرق ولا ضيق في الأنفاس. رُغم قدرتي على الاستلقاء بحرية على صفحته الهادئة لأتركه يهدهدني كما يحلو له معي، فإني أحلم بإتقان السباحة فيه علَّ ظهري المُحدَّب يستقيم، وعلّني أستطيع الغوص بحرية إلى الأسفل وأنا واثقة في قدرتي على الصعود.. وعلّني أقترب من أسراره أكثر في التحامي القوي مع الأمواج.
***
سأدونه في إحدى الأوراق، سأكتبه حبًا عظيمًا حصلت عليه من الله في دعائي له بأن يهبني السند.. أمنيتي بأن أرانا متكئين بعضنا على بعض حين تحين نهاية القصة السعيدة، أشيبين سنكون، وقد نثرنا حياتنا حولنا بفرح وفتتنا المشكلات البسيطة التي قابلتنا إلى غبار زائل.
أرسلها دومًا إلى الله كدعوة أتمنى أن لا يردها لي بأن نكون كجدي وجدتي لأمي، عاشقين حتى الكبر.. الفارق بين موتهما ثلاثة أيام فقط، فكيف للحياة أن تحتمل واحدهما يتنفس والآخر متكوم تحت الأرض حتى يوم الدين.
أتمنى أن أرانا يدًا بيد كما كانا، لا يفلت يدها حتى أثناء النوم.. يهمس لها بكلمات الغزل كالمراهقين وتضحك هي بخجل وتخبره كم كبرا على تلك الكلمات، يُرسل لها العديد من القُبلات الدافئة في الهواء حين بات لكل منهما سرير خاص به لشدة مرضهما، فلم يعد يجمعهما مخدعًا، وإن جمع بينهما عشق لم يفنَ أبدًا حتى الرحيل.
***
تحتلني أحلامي أكثر حتى تملؤني على آخري بنشوى التمني.
لا أكِلّ من الحلم، ولا يوسوس لي شر اليأس.
الكثير من الابتسامات أُطلقها وأنا أتذكرها من حينٍ لآخر، وأذهب حيث حائطي.. أقرأ الأُمنيات الغافية داخله وكلي يقين من التحقق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية ـ والكتاب يصدر قريبًا عن دار مقام ـ القاهرة
الغلاف للفنانة غادة خليفة