جينيفر إيغان: لماذا أكتب؟

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin;}

ترجمة: ريوف خالد

حين لا أكتب، يجتاحني شعورٌ بفقد شيء ٍما. إذا طالت بي الحال، تزداد الأمور سوءًا، وأصاب باكتئاب. حينها، أمرٌ مصيريٌّ يكفُّ عن الحدوث، عطبٌ بطيء يشرع في التكوّن. كما لو أنني أهبط من تلّة، بفعل الجاذبية وحدها، لبعض الوقت، لكن بعد ذلك، تصاب أطرافي بالخدر. أمرٌ سيء يحدث، أعرفهُ. وكلما طال انتظاري، صعب علي البدء بالكتابة مجدّدًا.

 

حين أكتب، خاصةً إذا كان سير الكتابة جيدًا، أعيش في بُعدين مختلفين؛ هذا العالم الذي أعيش فيه، الآن، وأستمتع به كثيرًا؛ والعالم المختلف كليًا الذي أُقيم فيه دون أن يعرف به أحد، ولا أظن أن زوجي حتّى يمكنه التنبؤ به. حياة مضاعفة هذه التي أعيشها، دون أن أمس زواجي وجنّته بسوء.

حين أكتب المسودّة الأولى، بشكلٍ خاص، أشعر بأنني نُقلت خارج ذاتي، هذه الحالة التي أسعى إلى تحقيقها دائمًا. حتى كصحافيّة، إذا لم أعمل على نصٍ أدبي، فأنا لا أشرع في الكتابة مباشرةً. أقوم بالبحث لأشهر، ثم أكتب النص في بضعة أيام.

حين أقوم بكتابة نصٍ أدبي، أنسى من أكون ومن أينَ جئت. أتسلّل إلى وضع انهمار مطلق. أهوى شعور ارتباطي بالعالم الآخر، حيث أتنصّل برفق من صِلاتي بهذا العالم. إذا اضطررت للانتقال من حالة الكتابة، إلى جلب أطفالي من المدرسة، فأنا أُصاب بضيقٍ حادٍ، كما لو كنت مصابة بالتحنّي (شلل الغواص) وما إن يحضر أطفالي، ونصير معًا، حتى يختفي الضيق كليًا، وأشعر مجدّدًا بالسعادة. أحيانًا، أنسى أن لدي أطفال، الأمر شديد الغرابة. أشعر بالذنب حيال هذا، كما لو أن غفلتي ستتسبّب بحدوث مكروه لهم. حتى لو لم أكن المسئولة عنهم، فإن الله سيعاقبني.

حين تسير الكتابة على ما يرام – ولستُ أرغب بتقديمها كفكرة مبتذلة – فإنني أشعر بمصدرٍ خفّي يزوّدني بالوقود. أثناء هذه الأوقات، طالما أن مصدر طاقتي البديلة نشطٌ، لا يهمني إذا ما كانت الأمور في حياتي تتم بسوء. لكن يوم تسير الكتابة بشكلٍ ركيك، فالأمر سيئ، بل أنه أسوأ من عدم الكتابة من الأساس. كما لو أن شقًا أو تسريبًا تندلق من خلاله الطاقة بعيدًا. حينها حتى لو كانت بقيّة أمور حياتي جيّدة، فالشعور بخطبٍ بالغ السوء يلازمني. يقلّ وقتها جَلَدي على السوء، ويصبح سروري من الأشياء الحسنة ضئيلًا. الأوضاع كانت أسوأ قبل إنجابي لأطفالي، الآن ممتنة لهم لأنهم ينسونني ما يحدث باحترافيّة.

 

التوقعات تفوق الحقيقة

إنها لحظة ملائمة، لأتأمل لماذا أكتب، لأنني لا أقوم بكتابة أي عمل حاليًا. حين أكون حيثما أنا الآن، ولم أكن بعد قد شرعت في الكتاب التالي، يُخيّل لي أنه سيكون عظيمًا. يتم الأمر بسهولة أكثر مما لو كنت قد بدأت فعليًا بكتابة الكتاب.

لا أبدأ روايةً جديدةً أثناء عملي على شيء آخر، إذ أنني أستميت من أجل الاحتكاك بالأدب، ولا أتمكن من هذا دون أن أضع القلم على الورقة. أتطلّع الآن إلى السنة الجديدة، قبل هذا سبتمبر وقبله الصيف، وقت الارتباط بمشاريع عدّة، أحس هذا باهتمام. كل ما علي البدء به لروايةٍ جديدة، الزمان والمكان. لدي حس جيّد بهذين العنصرين للعمل القادم، لكن كما نعرف، الزمان والمكان فقط، لا يصنع رواية.

 

الفتاة وروايتها الممزقة

تجربتي الأولى في كتابة الرواية كانت مُريعة. كان علي تمزيقها، رغم هذا علقت مع الفكرة التي أصبحت لاحقًا رواية “السيرك اللامرئي”.

عندما كنت في التاسعة والعشرين حصلت على منحة جمعية التربية الوطنيّة، التي أتاحت لي سنة للعمل على الرواية. أنهيت المسودّة الأولى وجلست لقراءتها، آملة أن تكون رائعة وبدلًا من ذلك وجدتها ركيكة جدًا. لم أكن قد تقدّمت كثيرًا في قراءتي، وكدت أجن قبل المنتصف. بُعدها عن كتاب قد تسوّق له أو ترغب قراءته كان مخيفًا.

 

أُصبت بنوبة هلعٍ شديدة لثلاثة أيام، قبل أن أخضع للعلاج. حينها كنت على باب الثلاثين. مال منحة جمعية التربية الوطنية ينفد، وعلي الآن أن أجد عملًا آخرًا، حيث استقلت من عملي كسكرتيرة خاصة يوم حصولي على المنحة، وليس لدي سجل تتبع عمل احترافي إلا كسكرتيرة.

كل هذه المخاوف تفاقمت إلى هوس بمجرّد قراءتي المسودة. أُصبت بالخبل، كنت أدور في إيست فيليج، مصابةً بأسوأ نوبة هلع عرفتها، كانت مؤلمة. ناديت الناس، اعتذرت لهم عن القول بأنني سأصير يومًا كاتبة. شعرت بالاضطراب، كما لو أن حياتي برمّتها أضحت بلا معنى. كانت معضلة وجوديّة حقيقيّة. لم أتناول طعامي لأربعة أيّام، صرتُ كشبحٍ هزيل مترصد في إيست فيليج برداءٍ واقٍ من المطر. أيّامها، كنت قد بدأت لتوّي العيش مع الرجل الذي أصبح زوجي. عاد حينذاك من تدريب، فتشبّثتُ به، كنت أريد العودة إلى وعيي مجدّدًا. يخطر لي أنه فكر حينها “يا الله، بماذا ورّطت نفسي. إنها ليست في وعيها”.

بطريقةٍ ما، تمكّنت من السيطرة على هذا السلوك الغريب. خلال أربعة أيامٍ عدت للعمل على الرواية. فرّقت الأشياء وكوّنتها من جديد. في ظل التوتّر والبكاء وندب الحظ هذا، كانت أجزاء أخرى من عقلي تفكر في كيفيّة تطوير المخطوطة. حين عدت إليها، وحسّنتها، هدأتُ. كل الكدر والاضطراب غير المجدي الذي كان؛ انتهى إلى خطة منطقيّة فاعلة. هذا ما يحدث، حتى حين أكون مضطربة، فأنا أعمل أيضًا.

 

انظر إليّ: أحول العينين

العمل على رواية “انظر إليّ” كانت أكثر تجربة آلمتني في حياتي ككاتبة. كانت صراعًا كبيرًا، لا أعرف حقًا لماذا عانيت ما عانيت في العمل على هذه الرواية. كنت أعرف أن الفكرة مألوفة نوعًا ما، ولم أكن متأكدة من أن أحدًا سيقبل مني مثل هذا العمل. كما لو أنني سأُعاقب عليها، كنت أشعر بالخوف طيلة فترة كتابة الرواية. كنت أشعر بأنه من الفظيع أن أتقدّم فيها.

في الوقت ذاته، بعض اللحظات الأشد حماسًا في حياتي ككاتبة، اللحظات التي قضيت في كتابة هذه الرواية، بالرغم من المخاوف والشعور بالشؤم. يومًا قرأت الأجزاء الستة الأولى في جلسة واحدة، ثم خرجت من المنزل للجري مفعمةً بشعور أنني لم أقرأ من قبل شيئًا مُشابهًا، وأنني قمت بعمل مختلف كليًا. كان شعورًا حماسيًا.

من جهةٍ أخرى، كتابة روايتي “البرج” و”البلطجية” كانت صعبةً إلى أن توصلت إلى صيغةً لكلٍ منهما. ومن بعد ذلك أصبحت الكتابة تسليةً محضة، حينما أتوصل إلى الصيغة فأنا في نعمة. صيغة “البرج” مثلًا، كانت المرح الصاخب.

 

يرتكز الأمر على رؤية القصور.

إحدى نقاط قوّتي ككاتبة، قدرتي الجيدة على حل المشاكل. أكتب مسودّاتي الأولى بطريقة غير محكمة وغير عقلانية. الخطة بالنسبةِ لي دائمًا، هي تحويل هذه الصفحات العفويّة إلى عملٍ يُقرأ. أسعى لكل الخيالات الممكنة ولا أتوصّل إليها إذا كتبت بقيد العقلانية. لهذا فأنا أسمح لنفسي بالكتابة دون قيد. ممّا يعني أن خطوتي التالية ترتكز على حل المشكلة. لا يمكن أن يكون موقفي “حسنًا، لقد كتبت نصًا وهو جيّد.” هكذا، لن أُحرز أي تقدّم. جوهر الكتابة رؤية الخلل من نظرةٍ تحليليّة.

حين أكتب مسودة، فالخطة أن أحرّرها على نسخة ورقيّة، أضع الخطوط الموسّعة للمراجعة. ملاحظات المراجعة التي وضعتها لرواية “انظر إلي” بلغت ثمانين صفحة.

 

 

الفوز بالبولتيزر: لا يُقدّر بثمن.

 

ردود الأفعال على رواية “البلطجيّة” منحتني سعادة. شعرت برضى وسرورٍ عميقين لحصولي على مثل هذا التقدير العظيم من الآخرين. الفوز بالبولتيزر، بالذّات، يبدو كألف أمنية قد تحقّقت. طيلة هذه السنوات كنت أتوق لمثل هذه الحفاوة، دون أن أعتقد بأنني أستحقّها. كانت مجرّة رغبة لم أتوقع أن تتحقّق يومًا.

إنها فرصة عظيمة، لا أظنها غيّرتني، لكن لها تأثير أتحسّسه في تفاصيل حياتي بطريقة شديدة الإيجابية. إذا لم أستمتع بهذا، ربّاه، فأنا بحاجة إلى العلاج مرة أخرى.

خلال القرن القادم، إذا ظلّ الإنسان موجودًا، وتذكّر أحدهم اسم جينيفر إيغان، سيقرّرون حينها إن كنت أستحق الفوز أم لا. هذا أمر لا يشغلني. لقد حكّمت جوائز كبرى وأعرف كيف يتم هذا. فالأمر يعود إلى الذوق، ومن ثمّ الحظ. إذا حدث ووصلت للقائمة النهائية فهذا لأنك محظوظ بما يكفي لتكتب شيئًا يروق لحكام معيّنين.

أعتقد أن كتابي قوي، وأعرف أنني قمت بعملٍ جيّد، وأعرف أنه من الممكن أن يكون أفضل. يوجد العديد من الكتب الجيّدة أيضًا، وكُتّاب قد يتيح لهم الحظ ما أتاحه لي. الاستحقاق ليس كل الطريق. الفوز بجائزة كهذه له وزنه عند القوى الثقافيّة، ورغبات العمل في مجالها.

شخصيًا، أفضّل رواية “انظر إليّ”، ربّما أنني متعصّبة لها لأن “البلطجية” استُقبلت بالكثير من الحب. لكن “انظر إليّ” هي التي ظلت معي بصورة إبداعية. “البلطجيّة” في نهاية المطاف أضحت مصمّمة على النجاح أكثر ممّا توقّعت لها، ولكن لسببٍ ما، “انظر إليّ” أثّرت بي. ولا يعني هذا أنها أفضل، فعلى الأرجح عليها مآخذ أكثر ممّا على “البلطجية” لكنها طفلي المحبّب.

 

الفوز بالبولتيزر: خَطِر.

الانتباه والاستحسان الذي حظيت به “البلطجية” والحظوة الشعبيّة التي حصلت عليها من البولتيزر وجوائز أخرى، هي النقيض لمتعة خصوصية الكتابة. وهذا خَطِر.

التفكير في أنني سأحصل على هذا الحب مجدّدًا، وأن الحصول عليه يجب أن يكون غاية، سيقودني إلى قرارات كارثيّة في الكتابة، تسيء لي ولأعمالي. لم أنشد يومًا هذه الحفاوة، وأجد أنه سبب مقنع كي لا أبدأ بهذا الآن.

أشعر بفضول لمعرفة أي تأثير لهذا على كتابتي، لن أعرف حتى أشرع في الكتاب القادم. السيناريو الذي يمكنني تصوّره ببساطة: أبدأ بالكتاب، أشعر أنه لا يسير بشكل جيد، ثم أفقد صوابي. شقّي العقلاني يقول “لنوضّح الأمر، ستكره الكتاب التالي، العالم كله سيكرهه” لا أعرف لماذا حصل ذاك الكتاب على قبول كبير.

لكن جزء مني يفكّر، لقد أحبّوا كتابي الأخير، ياللسعادة . الآن لأتحرّك. هذا التحرك لابد أن ينطوي على جانب من تخييب الآخرين. ذلك الكتاب لن يتكرّر، بطريقةٍ ما، وجدت أن هذه الفكرة تعطيني نوعًا من الحرية. التنصل من عملي السابق لصالح الجديد هو مسعاي الإبداعي برمته. إذا بدأت بالتماس الاستحسان، بتكرار ما في “البلطجية” فإن هذا لن يقودني إلى أي مكان، أدرك هذا، ولا يوجد مبرّر للتوقف عن التحسن.

آمل أنني سأستطيع البدء في الرواية الجديدة، أنجذب إلى العالم الآخر، أستمتع، أتقبل وأتبنى التوقع بأن الكتاب لن يعتبر بجودة “البلطجيّة” ومن يهتم! من حسن الحظ أن يحرز أحد كتبي كل هذا الاستحسان، فالكثير من الناس لم يحظى بهذه التجربة. لدينا جميعًا الميل للاعتقاد بأن لحظات الفوز ستبقى إلى الأبد. ربّما حين أفقد هذه الشعبية، سأستاء وأصاب بصدمة، وسأنسى كل ما قلته هذه اللحظات. لكن أملي أنني أملك القدرة لأُبقي عليها.

 

كلمة جينيفر إيغان للكتّاب.

– اقرأ كتب من المستوى الذي ترغب بكتابته. القراءة هي قوت الكتابة. إذا كان ما تحب قراءته من مستوى (ب)، ربّما سيصعب عليك أن تكتب في مستوى (أ).

– التدريب، قياس جيد للكتابة. إذا لم تتعود عليه، فيجدر بك ألّا تفعل أبدًا. أمّا إذا كنت قد تعوّدت، فمن الغريب وغير المريح ألّا تفعل. لا يهم إلى أي مدى وصلت في مهنتك ككاتب، فربع ساعة يوميًا تبقيك في إطار العادة.

– يمكنك أن تكتب بانتظام، إذا رغبت أن تكتب برداءة. لا يمكن أن تكتب جيدًا وبانتظام. على المرء أن يتقبل الكتابة الركيكة كوسيلة تتيح له الكتابة الجيدة.

 

مقالات من نفس القسم