جدليَّة الضَّوء والعتمة.. قراءة في ديوان “هواء العائلة” للشَّاعر شريف رزق

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صالح لبريني*

استهلال أولي:

الشعرية العربية، منذ التسعينيات من القرن المنصرم، تشهد تحولات تجديدية ومغايرة على مستوى الكتابة الشعرية،وذلك ترابطا بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية، حيث قيم العولمة بدأت تنغل في الجسد العالمي، مما كان له بصمته الواضحة على الإنسان والحياة، كل هذا حتم على الشاعر خلق النص الشعري المنسجم مع هذه الإبدالات ،فجاءت قصيدة النثر كآلية من آليات الكتابة الشعرية، وهذا لا يعني أن هذا الشكل الشعري ظهر في التسعينيات بل إن بداياته تعود إلى منتصف الخمسينيات مع مجلة "شعر" اللبنانية، لكنها في التسعينيات غدت الناطق باسم الحساسية الشعرية الجديدة، التي بدأت تتشكل ملامحها الإبداعية، وعليه يمكن القول إن هذه الحساسية ارتضت هذا الشكل التعبيري المعبرّ عن اللحظة التاريخية، والحاضن لتصورات مختلفة في الكتابة عن ما هو منجز في الشعرية العربية، فالنص الشعري، في قصيدة النثر، يتخلق من رحم التجربة الخاصة للشاعر، في الحياة والإبداع، مما وسم هذه التجربة بالتنوع والاختلاف، نظرا لاختلاف الرؤى والخلفيات المعرفية المتحكمة في العملية الإبداعية. 

 في هذا السياق التجديدي تندرج التجربة الشعرية للشاعر المصري شريف رزق؛ الذي يشكل صوتا شعريا فريدا مجددا، مبتدعا بلاغته الخاصة به؛ بلاغة مفعمة بحياة المجازات الخلاقة، والاستعارات الموغلة في القبض على المنفلت من الوجود والذات، وهذا لا يدل على أن هذه التجربة تستقي شعريتها من البلاغة القديمة، وإنما قصدت بها لغته الشعرية المتفرد بها أي بلاغته الخاصة.

هذه البلاغة المجردة من الأساليب البلاغية الموغلة في العتاقة، والمتوثبة نحو بلاغة تبدع لغة شعرية بسيطة المأخذ، وعميقة الدلالات، والمشرعة على تآويل مختلفة، إنها لغة العتمة والضوء، اللغة التي تلمح ولا تصرح، وتحدث في الذائقة الارتباك والدهشة، والفتنة لمراودة الضوء المتواري خلف حجب المعاني، تلك هي البلاغة الشعرية المؤسَّسة على تصور  للعملية الإبداعية؛ ووعي جمالي يفضي إلى عوالم متخيلة وباذخة في شعرية خلاقة. 

 (1) جدلية الضوء والعتمة:

 إن النص الشعري  يتخلق من رحم العتمة؛ ليخرج إلى عالم الضوء، في سبيكة لغوية تمنح خصوصية للرؤية المنطلق منها في الكتابة الشعرية، مما يحقق للتجربة سحرها الإبداعي وغناها الموضوعاتي ومائيتها الشعرية، هذه العتمة هي المقود الذي سيقودنا نحو المجاهيل الغامضة في الذاكرة، كتاريخ فردي وجماعي، وإرث سيري للذات الشاعرة، ويكشف عن التنوع في الينابيع الفكرية والفلسفية والشعرية التي تشكل الخلفية المتحكمة في العملية الإبداعية، ولعل هذه السمة الإبداعية هي ما يسم ديوان “هواء العائلة”؛ حيث الذات تخرج من عتمة القصيدة والولوج احتراقات الإبداع، وهي مقيمة في محراب الليل المثقلة بالوحدة والعزلة، بعد أن تحول الجسد/ الضوء إلى جثة / عتمة تعري حقيقة الذات الملتهبة بنيران الاغتراب الوجودي يقول:

” وحيدا في لقطة ليلية

أخرج من القصيدة، لأدخل

جحيمها

متدثرا بهواء النهايات

وممتلئا بعواء ذئب داخلي

وبحشد من الأيائل والضباع”(1) 

هذه العتمات الوجودية تطوق الذات، وتجعلها في صراع أبدي للبحث عن  الكينونة المفتقدة، و تكشف عن عتمة الموت المفصحة عن الجحيم المقذوفة إليه، والذي يدل  على  العالم السفلي المعتم، هذا العالم الثاوي لجدل الذات مع الذات، والعالم الناتج عن العتمات الطافحة في الأقاصي العميقة من الروح، مما يبقي  البحث عن الكينونة مسوغا للانتظار، يقول في تساؤل يشي بحدة المكابدة الروحية:

” أين أنت الآن يا جسدي؟

أنتظرك على قارعة الظلام، وحدي”(2)

إن هذا المقول الشعري يوضح عمق المأساة التي تعيشها الذات في علاقتها بالكينونة المبحوث عنها؛ فالتساؤل والظلام والوحدة مداليل ترميزية  مهيمنة  على الخطاب الشعري؛ فرهان الذات هو توصيف هذه العتمات الداخلية بلغة السخرية؛ لإضاءة الأعطاب التي تنخر الكينونة والعالم يقول:

” الحرائق تنهش جتثي

وأنا أقهقه في العراء”(3)

إن عتمات الكينونة تضاء بالقهقات؛ كتعبير ساخر من الوجود المتقد بالحرائق التي تأتي على الجثة/ الموت، بين العراء والموت تنوجد الذات؛ متلظية بلهب الظمأ المستحوذ على أرض الرفاق؛ فالخروج من الجسد/ الحياة وربط آصرة تَوَاشُج مع الموت خير برهان على التمزق الذي تعيشه الذات يقول:

” أيتها السماء

إلى أين يتوالى سحابك

بالرفاق؟”(4)       

لا تجد الذات، أمام عتمة الوجود، سوى منافي الجحيم؛ اختيارا للإقامة في البواطن الداخلية لغوامض الروح والتباساتها المفضية إلى اللانهائي واللا محدود في العوالم السفلية للجسد، وعليه فهذا التمزق الوجودي الناجم عن مكابدة التشظي دليل ساطع على ضراوة المخفي من الذات يقول:

” تتهشم المرايا في ضلوعي

كلما صاح طائر”(5)      

فهذا التشظي الذاتي المعبَّر عنه بالتهشيم، صورة موغلة في خطاب شعري محمَّل بتصور يثوي السخرية كمقوم من مقومات شعرية التجربة، والتي تؤدي وظيفة إضائية، بتعبير آخر إن الذات الشاعرة حين تلجأ إلى المداليل الساخرة، فهي تضيء المعتم في الذات أولا، ثم في الوجود، وهو أيضا إحالة على الاغتراب، الذي تعيشه الذات في ظل هذه القيامة الوجودية يقول:

“هواء القيامة

يحملني إلى الأقاصي”(6)       

و يقول:

“في الكوابيس دائما

وحدي”(7)    

في ظل هكذا شعور بالوحدة، تلجأ الذات الشاعرة إلى الامتلاء بالأشباه؛ حيث تتلاشى الأنا لصالح الشبيه؛ بيانًا على حدة التوتر والجدل والتشظي؛ وعليه تختار الذات التملص من تهمة الكوابيس المعبّرة عن شراسة العتمات بالخروج من الجسد، والابتعاد عنه، خير تعبير عن تراجيدية الذات تجاه العالم والذات يقول:

” بعيدا حتى عن جسدي

أجلس على شاطئ البحر وحدي

بريئا من كل ما يحدث”(8)       

هذا الهروب من الجسد/ الجثة، هو انفلات إلى الضوء؛ المتمثل في الإعلان عن البراءة؛  مما يجري من انهيارات وجودية، والإنصات إلى الجسد / الضوء؛ حتى يستطيع الشاعر تنظيف الباطن من دناسة الواقع، ويصل إلى حالة الحلول مع الجسد / الضوء، ومع أشباهه من الشعراء والفلاسفة الذين أناروا عتمات الجسد/ الموت، وعانقوا الجسد الحياة يقول:

” أريد أن أنظف قدمي من الشوارع

عيني من الرؤى

دمي من العناصر الموروثة

ذاكرتي من الأصدقاء

أشتهي الخروج في نزهة خلوية

مع نيتشه، ورامبو، و شاجال

تصحبنا فيلة، وينابيع، وغزلان، ومنازل وقيان

نلتقي، في الطريق، بامرئ القيس، وبيسوا، وابن عربي”(9)

إن ما تصبو إليه الذات هو التطهير؛ بالمفهوم الأرسطي؛ أي الخروج من العتمة إلى الضوء، ومن تم تحقيق الكينونة المفتقدة عبر عملية تطهيرية، تسمو بها من عالم سفلي إلى عالم علوي، مضاء بجمرة الإبداع الشعري. 

 (2) جدلية الشعري والسردي: 

 إن هذه الجدلية من السمات التجديدية التي وسمت قصيدة النثر العربية؛ ذلك أن الشاعر المعاصر لم يعد مكثرتا بنقاء النوع الأدبي، الذي أكدته الأدبيات النقدية، منذ أرسطو  إلى الآن، بل همه الأساس تحقيق شعرية نصية، تحتفي بجماليات تعبيرية؛ باستغلال كل المقومات الأسلوبية التي بإمكانها أن تضفي على التجربة  صفات التجاوز والتخطي للمنجز الشعري بوعي جمالي وفني، وتصور جديد للعملية الإبداعية، ولعل هذا ما نلمسه في التجربة الشعرية للشاعر شريف رزق؛ الذي تمكّن من توظيف كل الإمكانات السردية لتأثيث العوالم الشعرية لديه؛ وعليه فالديوان عُنيَ بهذا الملمح السردي ذي الأبعاد الشعرية، وتحقق له ذلك من مجموعة من التقنيات السردية التي أسهمت في منح التجربة الشعرية بعدها التجاوزي للمنجز النصي في الشعرية العربية، و ذلك على مستوى التصور العميق لشعرنة السرد، ولابد من الإشارة إلى أن المتن الشعري العربي لا يخلو من ملامح سردية فيه، وقد تحققت سردية التجربة الشعرية عبر آليات الحوار؛ حين يتحدث الشاعر مع الأم حول وفاة صديق الطفولة، يقول:

” – يا أمي : إنه حي لم يمت

إني أراه في كل ليلة في المقبرة

منكمشا بين الموتى ولا يكف عن البكاء

 – الميت لا يرجع يا بني…”(10)   

وكذلك السرد، يقول:

” كنت دون العاشرة

حين مات الدرويش الذي لم يعرف له أهل

والذي قضى حياته على مقربة من المقابر”(11)    

إضافة إلى آليات سردية حاول، عبْرها الشاعر، أن يقدم  صور التمزق وحدة القلق الملازم للذات وهي تواجه مصيرها الوجودي، في عالم مطوق بالخيبات جراء الموت الذي يلاحقها ،وذلك في حلل تصويرية بديعة، وتكمن هذه الآلية في الوصف الذي استطاعت الذات ، عبْره، الإفصاح عما تكابده وتعانيه من غربة ووحدة واغتراب وقلق واحتراق، ولعل المقولات الشعرية تحبل بمداليل ذلك، يقول:

” قطة

تتمسح في عوائي”(12)   

و يقول:

” كنمر جريح

بانتظار كارثة قادمة لا محالة

أو قيامة”(13)     

و يقول:

” على مقعد جانبي بالمقهى

أتابع المارة

بقلق ما”(14) 

وغيرها من الوسائل السردية كالتداعي/ التذكر والحلم، كل هذا زاد من حرارة التجربة الشعرية للشاعر، التي كشفت عن قدرته في خلق نصية شعرية تستنطق الجسد/ الجثة، بوساطة الاحتفاء بالعوالم الجنائزية والأنفاس الدرامية، ثم بالجسد / الضوء؛ حيث تستعيد الذات الشاعرة الخروج من العتمات الوجودية إلى الأضواء الحياتية بلغة شعرية متجذرة في البهاء الجمالي والفني، عبْر التصوير المشهدي الذي وهب للنص بعده السينمائي؛ أي أن التجربة تستقي وجودها الإبداعي من أجناس تعبيرية متنوعة، تدل على التنوع في الينابيع المعرفية التي ينهل منها الشاعر يقول:

” مقعد فارغ

على مقربة من السرير الفارغ

في مواجهة صورة أمي

في الحجرة المكتظة بالغياب”(15) 

ويقول أيضا:

” بصدره العاري

على الشاطئ وحده

يستقبل قذائف الموج

مقعد شاغر في الغروب”(16)      

ويقول:

” قطار مشتعل

لا يتوقف في العراء

داخلي”(17)  

هذه المشهدية التصويرية توضح قدرة الشاعر على التقاط لحظات منفلتة من الحياة، يصعب القبض عليها إلا من لدن شاعر يمتلك ناصية الإبداع المتوهج والمدهش، و رؤية عميقة في خلق نص شعري حافل بهذه المعطيات الجمالية والفنية، كل هذا أضاف على التجربة الشعرية طابع التجديد والخلق، وحقق  لها شعرية مُشعرِنة لسردية الواقع والوجود والذات. 

على سبيل الختام:

وبعد، فإن ما يمكن الخلوص إليه، انطلاقا مما تناولناه من جماليات نصية تمكن الشاعر من صياغة نصيتها الشعرية، تكشف، بما لا يدع الشك، أن التجربة الشعرية للشاعر شريف رزق تنماز بإبداعية شعرية خارقة لما هو كائن في الشعرية العربية؛ وذلك بواسطة لغة شعرية تمتح عمقها الجمالي، وبعدها الدلالي من معين تجربة الذات الشاعرة في الحياة كسيرة ذاتية تمت شعرنتها، عبر آليات نصية خلقت خطابا شعريا يعبر عن جوهر الرؤية الشعرية المنطلَـق منها، والتي اكتسبت ملامح رؤياوية جديرة بالحياة. 

الهوامش:

(1) شريف رزق- هواء العائلة-  مركز الحضارة العربية- القاهرة – 2016- ص:6.

(2) السابق – ص:7.

(3) السَّابق – ص: 8.

(4) السابق – ص:11.

(5) السَّابق – ص:12.

(6) السابق – ص:15.

(7) السَّابق – ص:16.

(8) السَّابق – ص:18.

(9) السَّابق – ص:23.

   (10) السَّابق – ص:61.

(11) السَّابق – ص:62.

(12) السَّابق – ص:10.

(13) السَّابق – ص:19.

(14) السَّابق – ص:42.

(15) السَّابق – ص:45.

(16) السَّابق – ص:26.

(17) السَّابق – ص:27.

………………………

*”شاعر وناقد من المغرب”

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم