بُهت المزاح واختفتْ الضحكة البريئة من ملامح وجهها ، التي أخذت نحوًا آخر من الإنصات ولغة الاعتذار لجهلها عما يعنيه كلام خالها الذي تقدره وتحترمه ، كقارئ نهم ، وشخص عالم بأمور كثيرة من المعرفة والاطلاع ، والثقافة.
.ـ لابد من المقاومة.. هكذا ردّد أستاذها الجليل .
فبادرتُ بسؤاله :
– وكيف يكون هذا أستاذي الكبير؟
– نعم تلميذتي المطيعة ، وابنتي الحبيبة.. أي ورقة نقدية بداية من فئة الخمس الجنيهات إلى أ علي رقم التي تكون بحوزتي أكتب أنا مصري مش عربي.. وفي أي مكان أذهب إليه ميكروباص أو مترو الأنفاق أو أتوبيس أي وسيلة انتقل بها.. أضع استيكر صغير مكتوب عليه أنا مصري مش عربي كنوع من أنواع المقاومة المسالمة الراقية الحضارية.. ليعرف الجيل الجديد جدودهم.. الذين صنعوا حضارة أدهشتْ ومازالت تدهش العالم ((الحضارة المصرية العظيمة)) لابد أنْ أقاوم بأي شكل من الأشكال دفاعًا عن مصريتي وحضارتي العريقة.. ثم جذبها بحنو ورفق إلي أحضانه.. وقال بزهو ورجاء عاشق لحضارته :
– لابد أنْ تقرئي جيدًا ابنتي الغالية ، وتلميذتي المجتهدة جيدًا في المصريات ، وحضارتنا المصرية بشكل خاص.. لابد.. هذا واجب وطني أولا.. وواجب ذاتي مفيد وممتع ثانيًا وأخيرًا لابد أنْ تقاومي وتقولي وتكتبي بكل فخر واعتزاز أنا مصرية مش عربية لابد. لابد.. لا مناص من هذا ولا حل إلاّ بالمقاومة السلمية.
***
أكثر مرحًا
يحب الرجل المرأة ، لأنها تملك من التعاطف معه ، والإشفاق عليه ، ما يدفعها لقول أحبك ، في اللحظة التي يقل فيها حبها له ، وتقل ذلك من أجل ألا تشعره بالأمر وكي لا يلاحظ ذلك ، ببساطة يحب الرجل المرأة لأنها المرأة .
أحيانا كثيرة ، نتخيل أنّ مصيرنا واحد مهما حدث ومهما كانت الظروف ، استحالة لكن الأقدار تأتي ، وتواتينا بالضربة القاضية وتصبح طاقة الدموع داخلي سكين يخترق قلبي ، وينزف ببطء كالموت البطئ يا له من وجع ، تئن له نبضات قلبي بين حين وآخر، همٌ لا يطاق ، ولا أستطيع تحمله.
ذهبتْ بسرها الدفين إلي شارع البحر الكبير الواسع الذي تطل مبانيه ، علي البحر وإنْ كان ليس بحرًا حقيقيًا ، فهو امتداد مياه نهر النيل حيث في مدينتها يوجد أكبر اتساع له ، والناس اعتادوا أنْ يُطلقوا عليه البحر.. بل وسُمى الشارع المشهور بشارع البحر ، به الكثير من المراكب الصغيرة ، وسفينة سياحية فخمة ، وحديقة ومخارج ومداخل للعديد من النوادي التي تطل علي البحر.. كما أطلق الجميع عليه هذا شارع البحر.
وقفتْ أمام البحر تتأمل حياتها كاملة ، وقصة العشق والفراق لحبيب وزوج وصديق الجامعة الذي أحبته وعمرها لا يتجاوز العشرين عامًا.. وتدفقت مع مياه البحر الرقراقة ، كل الذكريات التي هي أصبحتْ كل ما تبقي لها بعد حب وزواج وعشق دام لأكثر من خمسة عشر عامًا وهي الآن امرأة في منتصف الثلاثينيات ، تبحث عن مرفأ ، وملاذ للوحدة التي أبرمت معها عقدًا دائمًا ، وقد أصبحتْ أسيرة ذكريات العشق ، والفراق الذي كان ، بعد أنْ حـُـرمتْ من الأمومة رغم كل المحاولات الطبيةْ تـُنجب لتكلل قصة حبها العظيمة ، وبقاءها بوجود ثمرة تسعد بها زوجها وحبيبها الوحيد ، وفي لحظة جنون قرّرتْ أنْ تتركه يشق طريقه مع امرأة أخري تنجب له الطفل الذي يتمناه هو وعائلته ، بعد أنْ تأكدت أنّ العيب في عدم الإنجاب هي السبب فيه ، ولا أمل في العلاج لأنْ تـُنجب .
تنهدتْ بحسرة علي قرار أخذته بالانفصال وفراقه ، أغلي من أحبتْ ، وعاشت من أجله ، ولم يتبق غير جلسة الذكريات مع بحرها الواسع العميق الذي يلتهم كل الأحباب ، والأحزان ، والسماء فوقها تبدو وكأنها حرس زجاجي كبير تخفى داخله كل حزن العالم.. ووجع يفصلها عن أى معنى للحياة ، ثم جالت بنظرة غارقة حتى لمحتْ ما يشاركها معنى الرحيل الذى كتب عليها.. رأتْ السفن وكأنها نوارس الشواطئ تناديها.. إنه الموت البطئ.. إنه الرحيل الذى لا عودة منه ، وبخطوات لا ارادية جلست مباشرة في نفس المكان ، الذي كانا لا يفارقاه معا ، حتى بعد الزواج لسنوات طويلة ، وقد كان أجمل مكان بالنسبة لها ، حتى وهي الآن بمفردها ، فمازالت روحه تطفو فيه كجنيات البحر تففز من البحر وتجلس بجانبها ، وهي تراه لمسافة عدة أميال من حوله ، يتحدث وينادي حنان.. حنان.. حنان ، في المرة الثالثة أيقنتْ أنّ هذا الصوت حقيقي ، ولا يأتي من خيالها المتأجج بالشوق واللهفة إليه. والتفتتْ لمصدر الصوت الدافئ الحنون ، الذي ينطق بطريقة تخصه هو فقط.. حبيبها الأبدي.. وهتفتْ من هول المفاجأة السعيدة :
ـ حبيبي .. حبيبي .. معقوله ؟!
يرنو إليها ، ويكاد أنْ يحتضنها لولا طفل لا يتجاوز الثلاث سنوات يحمله علي ذراعه ، فتتراجع ، وتكتفي بالسلام بالأيدي ، وسارا في حديقة النيل ، يؤكدان أنّ الحب ، والعشق لا ينتهي مهما كان ظلم القدر وقسوة الحياة.. وعاد كسابق عهدهما، ولو للحظات من الزمن ، الذي عصف بعشقها تحت وطأة الظروف إلي حبيبن مفترقان دون رجاء أو أمل ، يهمسان لبحرهما.. رفيقهما الثالث المخلص في رحلة الحب ، ثم العشق ثم الفراق ، ثم اللعب مع يوسف ابنه بالكرة ، ومياه البحر، ركلات يوسف الهوجاء تلتقطها فيصرخان ، ويستعيدوها بمرح وسعادة ، وقد تركا أحلام المياه العذبة تلهو بهم وتملأهم بهجة وفرحة لا تسع البحر أو السماء أو السفن ، وأثناء اافتراق كلا منهما سألته بشغف وحزن ليكتسح عينيها النجلاوين قائلة بحزن :
– هل تغير ت يا إبراهيم..
أجاب بعينه التي أيضًا الحزن يكتسحهما قائلا بحزن :
– كنت فقط أكثر مرحًا حبيبتى .
***
جاهين مات .. فعلا
ابن عمتي عفاف، التي هي بمثابة أم أخري، منحها الله لي، تمنحنى الحنان، والدلع والخفة في حضرتها الطاغ بالدفء والحب الذي لا مثيل له، ربما أحيانًا أشعر أنها تفوق حنان أمي، التي تقسو، وتعدل كفة الميزان، حتى لا تميل كفة الميزان عما ترجوه من رعايتي وتربيتي تربية تامة وجيدة من وجهة نظرها.
نعود إلي ابن عمتي عفاف محمد ، الشخصية الكاريزما أو حديث العائلة، والجيران، والأصدقاء، والجميع، منذ الصغر ومحمد معي، سواء في بيت عمتي أكون معه، أو يأتي إلي بيتنا لا نفارق بعضنا كأخ وأخت بحكم الرضاعة حيث شاركته ثدي أمه بعد أن جف ثدي أمي ومرضت من حمى جاءتها بعد ولادتي مباشرة، وعندما شفيت، تركتني جانبا إلي حد ما لما سببته لها من ألم ومرض وتلقفتني عمتي بكل شفقة وشفقة كبيرة، حتى عادت أمي ونزعتني من حضن عمتي ولكن كنت امتلأت وتغذيت من لبنها ورحمتها وحبها الذي اقتسمته مع أخي محمد في الرضاعة، أو جاهين، فأنا أول من أطلق عليه هذا الاسم جاهين أبو دم خفيف وذلك لشبه كبير منه فى الملامح ، وعندما أكد امثوله شاعرنا الكبير صلاح جاهين بكتابة الشعر.. وإلقاءه وسط الأصدقاء، حتى تطور وأصبح يلقيه في المحافل وأماكنه الرسمية، وأصبح له رفقاء في الشعر ودروبه وكون جماعة شعرية وأطلق عليها فجر الشعراء، حينئذ أنا أيضا أحببته وتمنيت أن أكتب شعرا مثله، وأكون من مريدين جاهين، ومن حين إلي آخر تأتيني الجرأة وأكتب عن استحياء دفعني بلكزه عفوية في كتفي وأنا اقرأ خواطري التي كانت عنه:
الأسطورة
يا جارحين الأبرياء
تلفحهم ريح الزوال
تظنون أنهم أموات
لا
الأسطورة لا تموت
منذ أيام…..
وأبي سرد لي حكاية الرجال
عاركم تحمله الأعوام
وهيا، وعاد الرجال من أرضكم
وبأفواههم كلمة ثأر.. ثأر..
أيديهم تحمل جرح العمر.
وسيطكم تحمله ظهورهم
ثقيلاً.. ثقيلا
عبروا بوادي مجهول
وفي العراء كان المحال
سيطكم ثقيل تحمل السنين
بالأمس جاء صوتكم
هيا في المنفي البعيد
وسنين.. وسنين
والسيط يصرخ
علي أرض الغربة
وهنا جاع الصغار
تعوي الأيام
هلك الرجال
وعلي بقايا حلم ساروا
يعانقوا ثأرهم
وبالوادي حصدوا الغلال
وبعض الدموع
بعض التذكار
يحملونه للصغار
في طوقهم للأرض والدار
عاركم يا جارحين الأبرياء
من يحمل سيطكم
هيا علي ظهوركم
قبوركم صرخت لا
تحملكم ريح
تبيعكم ثأر
وعمر ملقي في الرمال
وبسمة علي وجه النهر
تحضن الرجال
فــ لا
لا
الأسطورة لا تموت
ويضحك جاهين ضحكته الأسطورية، ويرفعني من الأرض ويحتضنني بقوة قائلاً بحماس:
ـيا أروبة دا شعر بجد … جميل حبيبتي . جميل حبيبتي
– صحيح يا جاهين
– ولا يهمك.. لما تموت.. اكتب عنك تاني.. بس موت أنت وتطرق بخفة علي خديه الممتلئين..
ماشي موت بقي يا عم .جاهين …. علشان اكتب براحتى …. ماشى ياابو دم خفيف ….
وذات ليلة كان الجو فيها مخيفا، أرعدت السماء وأبرقت والمطر يهطل بغزارة.. كانت ليلة مرعبة بحق من ليالي الشتاء النادرة الحدوث من شتاء لآخر.. وإذا بأحدهم يطرق الباب ويخبرنا أن جاهين مات في حادث وهو يرتاد على موتوسيكل صديقه، لحضور زفاف أحد الأصدقاء في الفيوم في مغامرة عفوية، التقطها القدر بعبثية، وخطفت روحه الطيبة، وضحكته الدائمة.
مات جاهين فعلا.. لكن الحدث الأكثر أسفًا، ويؤرق منامي، ويشعرني بذنب فادح أنني لم أستطع أن أكتب عنه مرة أخري بعد موته كما أخبرته ودعوته بمزاح للموت فأنا أعتقد أن الحنث بالوعد، وعدم الوفاء به من الكبائر التي لا تغتفر بينما كلماته التى أحفظها فى قلبى ترنو وتبكينى من حين لأخر كوخز مسمار فى نعش لا يفارقنى مطلقا وهو يقول لى بضحك وخفة ورشاقة لا تمحى من ذاكرتى وتشعرنى بألم الأنكسار الذى لا يلتئم مهما مرت السنوات
بحبك ياذوبة يابنت اللذين
يارافضة التبرج ياقالعة الحجاب
ياسفة المطاعم ياوكلة الكتب
يا هبلة ياقرعة ياجزمة وشراب .
يابنت القديمة وغاوية ضرب الشبان
ياقد السفينة وغاوية خيمة وسف التراب
بحبك لأنك أروبة ودخينة ولذيذة ومجنونة
بحبك ياذوبة يابنت اللذين