تنشيط القلب

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قصص .. محمد المخزنجي

اقتراب

للمرة الألف أحاول. أسافر إلى تلك المدينة، وأرتب أن أصل إليها بعد منتصف الليل، وأمضى إلى ذلك الركن.

هذا هو الشارع، وهذا هو البيت، وهذا أنا، وهنا كل الأزمنة التى تنتظر عبورى إلى واحد منها أهفو إليه.

أثق أننى سأنجح يوما، عندما ينام الناس ولا تسهر غير المصابيح المرتعشة فى الشوارع.

أمضى وحدى فوق الأسفلت الخالى، أتذكر، وأمعن فى التذكر، وأستحضر الذى كان.

هذا هو البيت، وهذا هو الطابق، وهذا هو الشباك. موصود الآن، نعم، لكنه سينفتح، لتطل منه، فيما أكون هناك، فى ذلك الزمن البعيد، فى هذه البقعة من الشارع، تحت البيت، تحت الشباك، وتحت إطلالة وجهها الحبيب.

الزمن الذى يمضى إلى الأمام، محولا المستقبل إلى حاضر، والحاضر إلى ماض، يمكن أن يتقهقر أيضا ويعيد إلينا ماضينا إذا كنا نريده بقوة. وأنا بأقصى قوة للاستوحاش أريده.

للمرة الألف أحاول، فى الوقت السرى الذى كان بيننا، من الثانية بعد منتصف الليل وحتى قبيل الفجر، أحاول بإخلاص، ولن أقول إننى فشلت.

يكشفنى نور الصباح الفج، نور الزمن الأحادى الحركة، الذى لن يفلح أبدا فى إقناعى بأنه الاتجاه الوحيد لسريان الزمان.

لم أفشل، بدليل أننى أخرج من هذه المحاولة معبأ بكل هذا الحنين، مما يعنى أننى اقتربت من ذلك الزمن البعيد المنشود.

اقتربت لحد التلامس الذى يغرى بمحاولة أخرى. ولن أكف عن المحاولة، لأننى لو كففت، يا حلمى، أجن، أو أستسلم للموت الذى اختطفك منى فى عمر الصبا.

ــــــــــــــــ

تمرين

وكأنه يصحو على نهار مريع، اكتشف أنه يحيا فى دنيا بلا قلب، واكتشف أن كل ما يحيط بـه من ترف وراحة ليس إلا مشروعا لنجاة لحظية وغرق آت. غرق الروح فى بحيرة من الموات الأنيق والملون والبراق. وأنه لو ترك نفسه لاندياح هذه الموجات الفاترة فى تلك البحيرة فإنه سرعان ما يتحول إلى كتلة لحم خاوية، تجد أقصى لذتها فى اللحظات العابرة على الموائد أو ما يشبه الموائد. حتى تلك اللحظات التى تبدو جمالية، ويطالعها عبر جهاز الفيديو الذى لا يكف عن الوميض والطنين، ما هى إلا عنصر مكمل للحظات الموائد أو ما يشبه الموائد. فهى بكل ما يحيط بها من ملابسات، تتحول من دائرة معالجة الجـمال إلى إطار تأكيد الغرق.

قالت روحه: «إنى أغرق»، وكانت تتعلق بـأذيال أغنية قديمة، وفوجئ بانبثاق أغنية قديمة أخرى فى ذاكرته: «المودة هى ما نحتاجه ـ الآن ـ يا صديق». وكاد يهتف مع أصداء تلك الأغنية الأوروبية التى تحولت إلى شجو عربى خالص فى روحه. لكنه مكث يتساءل: وأين المودة فى ذلك التيه من الرمل الملون والبريق؟! وانطوى نهاره على ترجيع لا ينتهى لصرخة السؤال.

فى أول الليل، فى ذلك البرزخ المشحون بالوجد ـ بين اليقظة والنوم ـ تذكر مقولة لا يدرى إن كان أنشأها أم أنشأها غيره ليرددها هو باقتناع: «ما تحمله الذاكرة حى، أكثر مما يجرى فى الحياة ذاتها، لأنه مقيم وليس بعـابر». وراح يلوذ بحنايا الذاكرة. تذكر كثيرين من أهله، وأصحابه، ومن يحب. تـذكر الحاضرين هناك والغائبين. وكانوا يهلون عليه من عمق الظلال فيرتعش قلبه لحنان طلعتهم. لقد كان محبا وكان محبوبا من كل هؤلاء. وغمره فرح صاف، فـأخذ يستعيد الذاكرة، ويمعن فى تلمُّس التفاصيل.

غفا بارتياح لم يعرفه من قبل، وفى النهار صحا مبتهجا فى غمرة النور، ما أطيب النور ـ قال مرتاحا ـ ثم قال: إنه فى الليل سيواصل التذكر. سيواصل النداء. لكن ـ وانتابته برهة من حيرة ـ هل يقف النداء عند حدود النداء؟ ألن يفضى النداء إلى طلب التلاقى؟

ــــــــــــــــــــــــــ

عاشق

نباتى، لا يأكل اللحم ولا البيض، لا يشرب الحليب، لايتعاطى أيا من منتجات الألبان، ويتجاهل وجود النساء تماما، منذ ثلاثين سنة، لهذا بقى أعزب، بينما يقترب الآن من الخمسين، ولا أحد يعرف تفسيرا لفرط أناقته التى يوليها أقصى اهتمامه وينفق الكثير عليها.

منذ ثلاثين سنة كان عاشقا فى عمر الصبا لصبية تماثله فى العمر، صغيران يهيمان كل منهما بالآخر، هيام أول الهمس وأول اللمس وأول النشوى وأول التحليق وأول الخصام وأول الصلح بعد الخصام، خصام سريع وصلح سريع مثله. كانا فى زهرة العمر.

يومها تخاصما فى الطريق، فتركها تمشى أمامه كسيفة البال بانكسار وحزن، وانعطف هو يبتعد عنها فى طريق جانبى، لكن قلبه لم يكف عن التقافز فى صدره رغبة فى اللحاق بها، فكان يمشى خطوتين ويتوقف ويستدير مفكرا فى اللحاق بها، لكن عناد الصبا كان يغالبه، يسرع باتجاهها خطوتين ثم يتوقف، يكابر ويكرر الخطوتين ويتوقف، ويتوقف أخيرا فيبهته المنظر.

 

رأى الشارع الذى تمشى فيه وقد امتلأ بالبقر، قطيع من البقر الأصفر المهرول فى هذا الشارع المؤدى إلى المسلخ، حيث يساق القطيع إلى الذبح، يهرول باتجاه الذبح ويفيض على جانبى الطريق ولا يترك للماشين فى الشارع إلا فرصة الالتصاق بالحيطان فوق الرصيف.

لسعه خاطر أسود، فجرى حتى دخل الشارع ليرى كم هو بعيد امتداد سير هذا القطيع، ويراها هناك فى نهر الشارع شاردة غير منتبهة لما يتدفق وراء ظهرها. ويصرخ مناديا إياها أن تصعد إلى أقصى الرصيف وتلتصق بالجدران. سمعته لكنها لم تتبين مايقوله لها عبر هدير زحف البقر، وفاجأها تقدم القطيع نحوها فارتبكت، وبدلا من أن تلوذ بأقصى الرصيف اندفعت فى ارتباكها صارخة إلى وسط الشارع.

صرخت تناديه باسمه وهى تغرق بين أمواج البقر الكاسحة، وصرخ يناديها باسمها طالبا منها أن تجرى إلى الأمام وتتجه إلى الأجناب، لكنها كانت تهوى صارخة باسمه، وهو باسمها يصرخ ويشق موج البقر إليها بسن قلم لم يكن معه وسيلة غيره.

كان يطعن أجناب البقر لتفسح له الطريق فتضطرب الأبقار فى هرولتها مطبقة عليه، تسحق جنبيه وهو يطعن بجنون، فيستحيل سن القلم إلى شفرة ماضية.

تصبغه دماء البقر، ويشعر بتحطم أضلاعه وهو يواصل الصراخ باسمها فلا ترد، ولا يبصر فوق رءوس الموج البقرى أى أثر لها.

مضى قطيع الأبقار المهرولة إلى الذبح وانجلى الأسفلت عنها أمامه، كان يسعل دما من حطام أضلاعه التى تطعن رئتيه، فيختلط دمه بدم البقر المطعون، ثم يختلط دمه بدمها بدم البقر إذا يراها وقد انسحقت على الأسفلت ملطخة بالطين والدم والروث.

نسيت أن أذكر إلى جانب نباتيته، وأناقته المفرطة، وإعراضه عن النساء، أنه يبدو على الدوام وكأنه منقوع فى العطور، أقوى وأغلى أنواع العطور.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

غابة الصنوبر

أرانى كما أنا، فى الكويت صيفا، حيث درجة الحرارة فى الشارع تجاوزت الخمسين درجة مئوية، أستلقى فى شقتى المكيفة فى الطابق الثانى، على السرير الذى اخترته عاليا ومجاورا للنافذة المسدلة عليها ستارة سميكة رمادية وزرقاء الورود، أستلقى فى ضجر.

دافع غامض يقودنى ليس إلى مجرد إزاحة الستارة فقط، بل إلى فتح النافذة ذات الزجاج «الفيميه» الداكن على مصراعيها. وتندُّ عنى شهقة ذهول إذ أبصر ما تُطل عليه النافذة.

جذوع وأغصان أشجار صنوبر فى غابة شمالية، أقف على حافة النافذة وأتعلق بأقرب جذع لأهبط نحو أرض الغابة. ومن مرقاى العالى أتعرف على هذه الغابة المطلة على بحيرة يرتادها البط البرى عند أطراف مدينة بعيدة.

فى هذه الغابة استلقيت على العشب الطرى يوما، أنعم برقة الظلال ورؤية مراوح الأغصان عند الذرى الشاهقة، أصغى لصدح الطيور، وأتذوق عسل الحب فى أريج الغابة.

ثمة هاتف يُسرُّ لى: من كنت تعرفهم لم يعودوا هنا، ليس ثمة داع لهبوطك. وألاحظ أن الغابة صامتة بلا هسيس للعشب أو طقطقة للأغصان أو شدو للطيور.

أرجع، وما إن أستقر قانطا على حافة النافذة حتى تختفى الغابة، ثم أفزع على أصوات جمع من العمال الهنود والبنجلاديش والصعايدة فى الشارع، يشيرون إلى نافذتى صائحين: «المجنون.. سينتحر.. سينتحر».

إنهم يتصايحون من جحيم الشارع المكشوف للشمس، من هواء حرارته تجاوزت خمسين درجة مئوية، يهب لافحا وجهى فأتراجع إلى الخلف، إلى الخلف نحو هواء الغرفه المكيف. أغلق النافذة، وأشد عليها الستارة الرمادية زرقاء الورود، أستلقى على السرير العالى، أبكى ـ بلا صوت وبلا دموع ـ ضياع غابة الصنوبر.

ــــــــــــــــــــــــــــ

إلعب.. بجد!

لم أستطع احتمال جيَشان عواطفى فانهمرت عليه، أقبل رأسه وأنا أضمه وأضغطه فى صدرى. مازال صغير الحجم برغم استطالة عوده، ومع نحافته وجلسته المحتبية التى تعود عليها منذ صغره، كنت أستطيع استيعابه كله بين ذراعى وهو إلى جوارى على كنبة الصالة.

كان لدهشته من انفعالى هذا المفاجئ والعاصف يردد مندهشا ومسرورا: «بابا مالك.. بابا». وبصعوبة شديدة تحكمت فى دموع تأثرى وأنا أختلس النظر إليه.

كنت أقرأ وهو جالس إلى جوارى يشاهد التليفزيون فى صمت، صمته الشفّاف هذا الذى يركن إليه بين موجات الصخب التى لا يكف عن إثارتها فيبدو كأنه كائن آخر، وبينما كنت أقلب صفحات الكتاب حانت منى نظرة عابرة إلى ما لفت نظرى على قصبتى ساقيه اللتين انحسرت عنهما أرجل البيجامة وهو فى جلسته المحتبية تلك، يضم ركبتيه إلى صدره…

كانت هناك شعرات طالت وتكاثرت على هذا الجزء الظاهر من ساقيه، ساقى صبى يوغل فى يفاعة العمر، وتذكرت بما يشبه التماعة نجم فى سماء الذاكرة تاريخ ميلاده، تذكرت ذلك بدهشة، فطفلى هذا يقترب الآن من السادسة عشرة، وبعد سنوات قليلة سيصير شابا.. يحب، ينتشى، ويتلوّع، ويفكر فى مستقبله، يحلم بعالم خاص به لا أشاركه فيه، وربما أكون غير قادر على مشاركته فيه.

 

سيكون عليه مواجهة العالم منفردا، بدونى، بدون حمايتى، فى أركان عديدة من زوايا هذا العالم التى سيتعين عليه أن يمضى إليها وحده، وهناك لن يمكننى أن أواصل حراسته ولن يجدى حدبى عليه.

وربما لا أكون موجودا، أو موجودا وأُضاف إلى الأعباء التى سيتعين عليه حملها من أثقال عالمه الجديد، عالم الرجال…

أقبل رأسه، كتفيه، أضمه، وأتمتم «ياحبيبى.. ياحبيبى»، وهو يتفلَّت مخافتا ضحكته، خجلا، ومستغربا هجمة عواطفى المفاجئة هذه، يردد: «بابا.. فيه إيه.. فيه إيه»، وفى تفلُّته أحس بسروره من نوبة هذه المحبة، وخجله من الاستسلام لها، خجل بين استكانة الطفولة التى تمضى، ونزق الشاب الذى يجىء، وأجد نفسى أمامه أجمد فى ارتباك…

ينفك جمودى إذ ألمح سانحة للخروج من الارتباكة، فأهتف معليا النبرة: «تكاسرنى»، وبسرعة يرد طفلى اللعبى الذى أعرفه: «ياالله حالا»، وأجده فى ثانية متخذا مكانه على مائدة الطعام يشمر ساعده ويركِّز كوعه مجربا قبضته المتحدية المرفوعة فى انتظار قبضتى….

سوينا ارتكاز مرفقينا على خط واحد، والتقت كفى بكفه التى اكتشفت نموها وإن ظلت قابلة للاحتواء داخل قبضتى، واهتزت قبضتانا مراوحتين فى ارتفاعهما المتشنج، لحظة، لكننى عندما أرخيت لأتيح له انتصارا سهلا لطالما كان يصدقه ويهلل به ويفرح، وجدته يصيح بحزم صوت يفاجئنى اخشوشانه: «بابا.. إلعب بجد»…

قاومت بين لين وشدة، واكتشفت قوة بازغة فى الساعد المستقوى الذى طالت بعض شعراته، والتقت أعيننا المتواجهة بصرامة، واحترت.. هل أمضى فى التحدى، أم أوثر الانسحاب؟ لكننى اخترت إعلان التعادل بنشوة مرتعشة وتطلع آمل، مقرا بأنه.. كاد يغلبنى.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

نهار سعيد

استيقظ مبكرا تشمله بهجة مسحورة، وراح يدندن نشوان، نشوة غامرة العذوبة: «الشمس طلعت من بعيد ـ جايه ومعاها يوم جديد ـ يجعل نهارنا نهار سعيد.. نهار سعيد»، وكان وهو يطلق عقيرته بالأغنية يوقظ زوجته بقبلات حنون خاطفة، ويوقظ الأولاد بقبلات مثلها ومشاكسات مرحة.

وبعدما أكملوا استيقاظهم فرحين مستغربين، أعد لهم إفطارا من فول ساحر بخلطة لعبية، وشاى بحليب راقص، وخضار يانع مقطع بدلال، ومرصع بحلقات طماطم مجنونة بالفرح.

على مائدة الطعام العامرة بالبهجة والحب، شاكسته زوجته باسمة: «إنشا الله خير.. ياريت تصحى كل يوم كده». فعابثها ضاحكا: «مهما كان السبب»؟ أكدت متدللة بتحد: «مهما كان السبب».

وطوى فى ابتسامة صامتة عطوف، سر لقائه البهيج بالأمس.. مع حبيبة الصبا البعيد.. فى حلم!

ـــــــــــــــــــــــــــ

روائي مصري

مقالات من نفس القسم