إن صوت الشاعر كان مخادعا عندما قال (عاد الرجال من الحرب) فيبدو وكأنه سوف يقوم بكشف ذاته من خلال فعل العودة، التذكر، الاسترجاع لهؤلاء الرجال، الحروب التي خاضوها، لخبراتهم التي منحوها إياها، سلطاتهم وأفكارهم وحياتهم التي فرضت علينا، لكن ما حدث كان العكس تماما، لقد انجذب الشاعر وذاته وعالمه وإحساسه بل ومفرداته إلى عالم الرجال الآباء الأجداد، قصة الحب الباهتة ليمامة الحقول، لقد استطاع ذلك العالم أن يفرض سطوته على العالم الشعري للديوان باستحواذه على الذات الشاعرة.
ما الذي يدفعني للهجوم على ذلك العالم، إنه زمن الخبرات الواسعة زمن الإنسان الجماعي والشعور العام والعالم الذي نقيم فيه وقد أنجبنا من قبل، ما ذلك العداء للآباء والأجداد وقصص حبهم مع أمهاتنا، ما هذه الكراهية لأصواتهم التي أعادها الشاعر من جديد في ديوانه، لماذا أكره يمامة الحقول وقد تكون أمي والقادم من الأرض البعيدة (بالرجل اليسرى أقصر بخمسة سنتيمترات) ليقيم في القاهرة. القصائد لا تمنحني تلك الكراهية، لا تدفعني إليها، إن القصائد تضعني في مواجهة هذه العوالم فقط، بل وبرغبة شريرة من الذات الشاعرة تجعلني أتقبل تلك العوالم، وأن أتفحص شاعريتها أن أستسلم لحضورها.
لقد جاءت تلك العوالم بكل آلياتها محملة بكل قيمها وسلطاتها وروحها، هذه الأصوات تختزل كل الأصوات الأخرى، وقد تكون أيضا قد ابتلعت الشاعر ذاته.
ثمة رغبة حاول الشاعر أن يحققها، أن يقدم شعرية منفتحة على تجارب العالم على رؤية موسعة للذات واعتلالها وإشكالياتها في أن يكون صوته “بوليفونيا” ومن ثم جاءت القصائد الطويلة (أغنيات، تحت شجرة العائلة) إلا أنها لم تحقق تلك التعددية الصوتية في بناء القصيدة.
لقد كانت الذات الشاعرة تحاول في القصيدتين المشار إليهما أن تزيح ذاتها من القصيدة، من العالم، فتركت أصوات الماضي تعلو وتسيطر وتفرط في حضورها البغيض. أما صوت الشاعر فقد كان يرن في العتمة.
قام العالم ببناء القصيدة حسب أصواته هو دون أن تكتشف القصيدة بناءها الخاص الذي يمكن أن يعيد تعرية تلك الأصوات من سلطاتها الخالدة، من مفرداتها، من عالمها القائم سلفا، من الحكايات المعدة أيضا لبقاء ذلك العالم مغلقا ومن ثم تبقى أصواته مغلفة بحس جمالي دون أن تخبرنا بروحها القبيحة (بلعابك الي يسرح في رؤوسنا) وبرؤية الشاعر لتلك العوالم.
كان ثمة تواطؤ من القصيدة والشاعر لإخفاء تلك الرؤية.
وكنت أنت
أيتها الفلاحة الصغيرة
يمامة الحقول
يقف الشاعر متسترا خلف تلك الصورة الشعرية لا بوصفه صانعا أو مبتكرا أو ساخرا أو متهكما، لكن فقط ما بقي منه هو ذلك الحس الرومانتيكي وصناعة المفارقة. ثمة غياب لروح الشاعر الوحشية التي كانت لا تترك شيئا ينفذ إلا من خلالها في الديوان الأول. هل يريد الشاعر في هذه التجربة أن يتسرب إلينا ذلك الرفض لهذا العالم هل يمنحنا الحرية أن أنه تركنا بلا هوية.
إن أفكارا من هذا النوع يمكنها أن تقوض تلك الرؤية للديوان، لكنني أريد الإشارة إلى أني فقط أحاول التساؤل مع الديوان نفسه، أحاول فهم التباسه.
فثمة خبرة مغايرة يقدمها الديوان في قصيدة متفق عليها مسبقا، تشعرني برضاء لإنها تتواصل مع شعرية جاهزة، قائمة، وإذا كانت قصيدتا ( “أغنيات” و”تحت شجرة العائلة”) تقدمان تلك الخبرة المعرفية إلا أنهما ستظلان مثار إعجاب بوصفهما علامتين في الديوان أثارتا دهشتي وكذلك شكلتا هجومي عليهما وهذا هو اللبس الذي جعلني أتراوح بين استمتاعي بهما والقسوة عند التعامل معهما بوعي تفرضه عليّ القصيدتان.
إن ذلك الحس المتبقي من القصائد الصغيرة يدفعني للشعور بأن الشاعر قد أضاف إلى روح (شوارع الأبيض والأسود) جمالية الروح المتمردة الساخطة الوحشية تلك الحسية المفتقدة التي عبر عنها على استحياء، على الرغم من ذلك فإن قصائد صغيرة في ديوان شجرة العائلة مثل “أجراس” و”دراجة بخارية تعبر سريعا” و”سرير ضيق” تضيف إلى الخبرة الشعرية للشاعر.
إن قصيدة “أجراس” تبتلع الديوان، وعلى نحة ما تشير إلى تغير في روح الشاعر في علاقته بالعالم، فإنها تقيم تساؤلا أيضا: هل عدنا إلى تغليف ذواتنا بالخبرات الجاهزة وانتهت المشاجرة مع العالم ومع أرواحنا؟
إن ثمة علامة استفهام كبيرة تحت شجرة العائلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة “سطور” فبراير 1999