بلاغ رقم21.. ما بعد قيامة مظفّر النوّاب: الثوابت في ثقافتنا العراقية

جمعة اللامي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جُمعة اللاّمي

(1)

الثقافة العراقية هي أساليب الحياة في المجتمع العراقي منذ السومريين، وما نتج عنها من معارف وفنون وآداب وخبرات فردية وإجماعية. وهي ايضا امتداداتها في القرن الماضي وبداية قرننا هذا، اي منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة. فالثقافة العراقية في هذه الإحاطة هي خبرات وتراكمات الحضارات السومرية والبابلية والآشورية والعربية والإسلامية، مقترنة بعلاقات الانسان العراقي بمحيطه الإقٌليمي: الوطن العربي، وبجواره الحيوي ايضا، والتحولات العميقة التي شهدها القرن الماضي.

العراق هو وطن العراقيين النهائي، بحدوده المعترف بها دوليا. وبمكوناته الأثنية والثقافية وبعائلاته الروحية المعروفة التي جَمَعَ ـ ويجمع، بينها العمل من اجل المواطن العراقي، وتكريس الاستقلال الوطني، وبناء الدولة العراقية الحرة: دولة المواطنين الاحرار. والعراق وطن العراقيين الواحد الموحد، حسب اختياراتهم في ظروف سياسية واجتماعية طبيعية وسلمية وسليمة، ومن دون اي تدخل او وصاية خارجيين.

والعراق يعني التنوع القومي والاجتماعي والثقافي والروحي.

(2)

الثقافة العراقية هي ثقافة التنوع في نطاق الوحدة، التي تعبر عنها منجزات الكتاب والادباء والمثقفين والعلماء والفنانين العراقيين. ان هذه التعدد والتنوع الثقافيين في نطاق الوحدة، هو البناء الفوقي لمجتمع عراقي، ووطن عراقي نهائي لكل العراقيين. وهذا التوصيف الدقيق للثقافة العراقية، تدعمه التجربة التاريخية الواقعية في بلادنا، والتجاريب المُكرّسة في عدد من البلدان المتقدمة، او بلدان العالم الثالث، مثل هولندا، المانيا، ماليزيا، الهند، استراليا، وغيرها.

نقول ” الثقافة الهولندية ” على سبيل المثال، ونعني بذلك ما انتجه سكان هولندا، او الاراضي المنخفضة، قبيل العصر الروماني، ثم ما بعد ذاك العصر، حيث استقرت القبائل البتافيّة الألمانية غربيّ نهر الراين، بينما استوطنت القبائل الفرنسية شرقيّ النهر، وتكونت دولة مرت بظروف معقدة وحروب طاحنة، وتعاقب على حكمها ملوك وحكام من اهلها ومن خارجها. ولكن “مملكة الاراضي المنخفضة”، كما هي اليوم، بلد اغنى الثقافات البشرية، والاقتصادات الدولية، بخبرات وإضافات مرموقة ومعتبرة، بينما نخبها الثقافية اختارت اللغة الهولندية، لغة رسمية لجميع الأعراق الهولندية

وكذلك نقول: الثقافة الهندية، ونعني بذلك اساليب الحياة والخبرات المكشوفة امام العالم للهندوس والمسلمين.. وغيرهم، حيث عشرات الآلهة وأنصاف الآلهة والقرود والبقر والفيلة والفئران والبراهمة بطبقاتهم الأربع، والفقر المدقع، والغنى الفاحش، والأنهار المقدسة، والعاهرات المقدسات، وغاندي ونهرو وأبو الكلام آزاد، والرقص العجيب، والملابس الغريبة، والعمارة بطرزها كافة. هذ التنوع العرقي والثقافي والروحي، هو الذي اعطى البشرية: الثقافة الهندية.

ان التعدد القومي والثقافي والروحي في بلدان كثيرة، مصادر ثراء للثقافة الوطنية في البلد المعنيّ. وهو ينبغي ان يكون كذلك على صعيد الوطن العراقي. هذا يعني ان اللغة العربية التي استمرت رافعةَ الإبداع العراقي في شتى مجالاته، هي الأجدر بإيصال الابداع العراقي الى المجموعات البشرية، مع الاعتراف بأن “اللغات العراقية” الُأخرى ستكون رديفا للغة الأُم، تعبر عن نفسيّة الناطقين بها ومعارفهم وخبراتهم، بحيث تسدّ جانباً لا تستطيع الاّ اللغة العربية الوصول اليه، في التكوين الديموغرافي والطبيعة الجغرافية على صعيد الوطن العراقي.

(3)

 الثقافة العراقية يعبر عنها المثقفون العراقيون.

 إنّ كل صاحب وجهة نظر وموقف حيال مسائل الإنسان والكون والوجود والحياة والمجتمع، هو مثقف. كما أن كل عالم رياضيات وهندسة وطب وسلالات وداعية هو مثقف أيضاً: المعرفة والخبرة هي الثقافة الحقيقية. ولما كانت الثقافة تعبيرا عن الشخصية الوطنية، يكون المثقف العراقي عنوان الشخصية العراقية وضميرها. والموقف من العراق ومجالاته الحيوية، والدور الذي يلتزمه المثقف العراقي، هو حَملُ ثقافة الوطن، والتعبير عن الشخصية الوطنية، إلى أجيال العراق الحالية والمقبلة، وإلى البشرية أيضاً: انه حق وواجب في الحين ذاته.

مُورست بحق المثقف العراقي انتهاكات واجراءات قاسية، فتمَّ تقييد حريته ومصادرة أفكاره، ومنع كتبه او تحريقها. وفي حالات معلومة ومشخصة أهدر دمه أو قتله. وهذه الممارسات قامت بها هيئات حكومية، و”منظومة الحق العام ” وتعبيراتها الحقوقية والدينية، التي ما تزال تصدر عن احزاب وشخصيات زمنية ودينية، بينما تكونت ” واجهات ثقافية ” حكومية ومعارضة، من بين مهامها تنظيم المهرجات واللقاءات التي تسمى ثقافية، في حين هي صورة النظام الرسمي، وصورة “السلطة المؤجلة” كذلك: المعارضة بأطيافها المتعددة، التي انهار بعضها، بينما ما يزال بعضها مستقوياً بسلطة الدولة، وسلطات العرف والإتّباع والتلقين.

 وما لحق بالمثقف العراقي، لا سيما على امتداد تاريخ العراق الحديث، من التباسات وتشوهات واعتداءات، يوازي ما لحق بالثقافة العراقية من هذه المظاهر، التي مصدرها ذاتي ــ أي عراقي. او أن لها مصادراً خارجية أيضاً. والأكثر خطورة هو الاعتداء الذاتي على الثقافة العراقية. لأنه كان يصدر ـ وما يزال كذلك، عن دراية مسبقة، أو عن تواطؤ او تقصير او غفلة في أحيان اخرى.  كما أن المثقف العراقي في أحيان كثيرة، تنازل عن هذا الواجب والحق الشخصي، تحت سطوة القمع السياسي والاجتماعي، أو باختيار العزلة السلبية، أو بالغفلة عن هذا الحق والواجب، او بإهمال دوره التنويري والتماهي مع السلطة الزمنية والدينية السائدة.

(4)

ومن الملفت أن يكون موقف “منظومة الحق العام”، وكذلك الموقف السلطوي من المثقف، هو الموقف عينه من أصحاب الرسالات التاريخية الاجتماعية والانسانية. وهذا الموقف إذا ما أُعيد انتاجه وصياغته معرفياً، وفقا لمتطلبات بناء مفهوم عراقي للثقافة الوطنية العراقية، فإنه سيكون بمثابة حاضنة قوية للمثقف العراقي، ورسالة خطيرة الشأن في الإعلاء من شأن مشهدنا الثقافي ومكوناته. وهذه المسألة هي التي تدفع بنا للتصريح بأن حياة المثقف العراقي، وهذا يعني انتاجه المعرفي والثقافي والأدبي والعلمي والفني، هي رسالته إلى الأجيال الحالية والمقبلة من أبناء وطنه، والى حيث ما تترسخ قيم الحرية والسلام. وهي رسالة ينبغي التعامل معها على أساس أنها تمثل قضية وجود حُرٍّ ومسؤول بالنسبة للمثقف.

إن المبلغين الكبار في تاريخنا العراقي قبل الاسلام وبعده، هم نمط راق من المثقفين التغيريين، وأن الخطابات التي أبلغوها إلى مجتمعاتهم، كما الى خارج هذا المجتمع، هي في ذرواتها المُترقيّة رسائل ثقافية كونية.

 وهؤلاء المبلغون لم يكونوا مبشرين ومنذرين فحسب، بل كانوا قادة اجتماعيين تاريخيين أيضاً. وتأسيساً على هذه القاعدة المعرفية ــ التاريخية، فإنه يجدر بالمثقف العراقي، الانتقال بفكره وحركته إلى هذا الفضاء المعرفي ــ التاريخي، وان يكون خطابه على مستوى أصحاب الرسالات التنويرية والتغيرية. وهذا يعني أول ما يعني أن يكون مكافحاً جلداً وصعب المراس، وهو يتصدى للتحديات التي تواجهه في هذه المسيرة، وهي تحديات الانسجام مع النفس، وتحديات التأكيد ضد اللاّأصالة، وتحديات التمسك بالهوية والانتماء للعراق، والتعبير عنه ابداعياً ومعرفياً وحضارياً.

 

بغداد ـــ الشارقة

الاثنين 29 أيار 2022

 

 

مقالات من نفس القسم