لفهم رواية المبدع الوزاني من المهم للغاية الرجوع إلى روايته ” احتراق في زمن الصقيع “، لأن شخصية زينب كان لها حضور بقدر معين في هذه الرواية، وقد سبق لمبدع الرواية أن قرر إعدامها وإخراجها من دائرة الضوء، ولكنه تراجع وقرر الإبقاء عليها، بل وأفرد لها رواية خاصة بها، أو هكذا يبدو لنا ظاهر الأمر، بيد أن الموضوع لا يمكن التعامل معه بمثل هذه البساطة، أو المصادرة السريعة، وبالتأكيد هناك أسباب فنية إبداعية كانت وراء قرار المبدع الإبقاء على شخصية زينب.
حكاية زينب التي أبدعها الوزاني عبارة عن حلم، وهو في الحقيقة حلم يقظة تلقفه المبدع وأفسح المجال رحبا واسعا لزينب لكي تحكي، ويعتبر هذا التصدير من المبدع عبارة عن تنزيل صوفي، اعتقد أنه بواسطته يمكن تبرير مشروعية إعادة الحياة لزينب التي ماتت افتراضا أو بالأحرى انتحرت في رواية ” احتراق في زمن الصقيع”، لقد لجأ المبدع إلى ما يمكن أن نصطلح عليه بتقنية النقل، نقل الشخصية من فضاء روائي إلى فضاء روائي آخر، وهذه التقنية التي وظفها كثير من المبدعين لا تعتبر بسيطة أو هينة، حيث لا يكفي أن تقرر نقل الشخصية الروائية من عمل إلى عمل آخر فيكون قرارك صائبا ومفيدا في إضفاء الإشراق على العمل الروائي، إن الأمر ذو شجون، ويحتاج إلى دقة وضبط كبيرين للوصول إلى تحقيق شرط الفنية في القيام بهذا العمل، عملية النقل التي قام بها المبدع الوزاني لشخصية زينب يمكن أن ننظر إليها وفق الإمكانات الآتية:
* شخصية زينب ليست تجربة أو انعكاسا لوجود فعلي، إنها عبارة عن وجود تخييلي.
* نقل شخصية زينب كان بهدف تحقيق التماسك الداخلي للنص الجديد، والمعنى المقصود هو قولنا إن الرواية تشكل بنية دالة عندما تكون جميع عناصر الدلالة داخل الفضاء الروائي تنتظم لإنتاج دلالة كلية مفهومة تحقق التماسك الداخلي للرواية.
* نقل المبدع شخصية زينب إلى رواية جديدة لكي يحقق امتدادا جديدا لشخصية جمال الأحمدي، فهو يتماهى مع الكاتب والصحفي والمبدع الأحمدي، إن جمال الأحمدي هو الذي صنع ذاكرة الرواية وليس زينب.
لجأ المبدع الوزاني بالإضافة لتقنية النقل إلى توظيف تقنية الرسالة، لقد استعمل المبدع الرسالة كمطية نحو السرد، حيث انطلقت زينب في رحلة سردية غامرة لا محدودة استغرقت زمن حياتها بكامله، ويعود استعمال الرسائل كروايات إلى كراسات الرسائل الموجهة نحو النساء في أوروبا القديمة بالخصوص، وهو ما شكل ” الريطوريقا الغرامية في عصر الأنوار “، ونمثل لها وهي كثيرة بالرسائل الغرامية عند ” باسكال ” سنة 1656 وهي تقريبا الأولى في نوعها.
تقنية تمرير الرواية عبر الرسالة تقنية مذهلة، فهي تتيح سماع صوت الوحدة بطريقة عميقة للغاية لدى المرأة، كما أن تقنية الرسالة تجعل تدخل المؤلف قليلا جدا إن لم يكن منعدما، حيث ظل صوت زينب الساردة هو الوحيد الممسك بزمام الأمور في جميع جنبات معمار الرواية، لقد مثلت زينب في الرواية مفهوم السارد المهيمن الموجه لكل لحظات الوجود والعدم، والغريب في الأمر هو أن رغم أهمية تقنية الرسالة الموظفة من طرف المبدع في بناء الرواية ورغم نجاح المبدع في التعبير بكل وضوح عن نضجه واستواء باعه في كتابة النصوص الإبداعية فإن الرواية عبر رسالة تظل أمرا شخصيا، وتبقى بعيدة عن الموضوعية، إن الرواية عبر رسالة عبارة عن لعبة حول لا نهائية الأحاسيس، كما أنها تظل مغرقة في الشخصية وبعيدة نوعا ما عن الموضوعية، فهي في الأساس بوح الذات للذات، إنها في الأصل سيرة ذاتية بسطتها زينب وجسدتها بجدارة حيث عملت على تحويل المرآة نحو العالم، عالمها وعالم ابنها جمال الصغير وحبيبها جمال الأحمدي وكل من يحيط بها، كما عملت على تحويل المرآة نحو ذاتها ومن ثمة حولت العالم الخاص بها إلى موضوع للتفكير، لقد كان السرد الذي صنعته زينب عبارة عن قوة حارقة أفلحت في إخراج الظل الداخلي للشخصيات التي جايلتها وعايشتها وكان لها تأثير مباشر في صنع أحداث الرواية، لقد نصبت زينب عددا من المرايا حولها موجهة نحو شخصيات الرواية وأخرى موجهة نحونا نحن القراء فشكلت ونسجت بذلك عناصر نرجسيتها ونرجسيتنا نحن بدورنا وذلك عندما أصبحنا جميعا وزينب ضمن زمرتنا نتطلع إلى تأويل صورنا وظلالنا انطلاقا من التمركز حول ذواتنا، ولذلك يحق لنا أن نتساءل هل كانت زينب تستعين بالوهم أم كانت تكرسه؟
طيلة الرواية وزينب تحاول جاهدة الوصول إلى تحصيل الفعالية والمردودية وهي عناصر مهمة للغاية في بناء الرواية، وهي وظيفة شاقة ألقاها المبدع على عاتق المرأة زينب، وكان موفقا للغاية في بناء رواية مستندة كليا إلى سرد امرأة، لقد كان للمبدع دور دقيق في تمثل أحاسيس المرأة وأصواتها وآلامها ونقلها عبر عالم الرواية، لقد جعل المبدع زينب من نوع ” السارد من خلف “، حيث كانت بنت الرايس امحمد مطلعة على جميع تفاصيل الشخصيات وهو ما يتيح لها عناصر نجاح تمثيل وتقديم الشخصيات الروائية وتحريكها حسب خصائصها، يقول ” ميلان كونديرا “: ” يجب تقديم أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الشخصية – وخصوصا عن ماضيها – التي تدل على مثيرات سلوكها الحاضر “، استطاعت زينب تقمص دور الراوي الذي يتحرك في جميع الاتجاهات، وينظر إلى الأشياء ويتأملها من مختلف جوانبها، فكان المعنى لديها يسبق الوصف نظرا لأنها كانت على دراية كبيرة وعميقة بالعالم الذي كانت تتحرك فيه، ولذلك فإنها كانت تقوله بالطريقة التي كانت تحلو لها باعتبارها تسيطر عليه بالكامل بناء على الحرية المطلقة التي تركها المبدع لها، وهذه واحدة من عناصر البراعة التي تميز بها المبدع الوزاني في هذا العمل، فقد كان يوجه العمل ويطل عليه من شاهق ولا يتدخل إلا لماما، رغم أن وضعية السارد تظل دائما شكلية بالمقارنة مع الأشياء التي يصفها ويحكي عنها، فإن قرارات المبدع ورغبته في التدخل أو تغيير مجرى الأمور تظل لها قيمتها ووجاهتها.
إن طريقة التفكير والإحساس لدى زينب التي استطاع المبدع أن يبرع في وصفهما يدلان على شخصية بسيطة في وضعها الاعتباري وفي واقعها المعيشي، حيث كانت عواطفها وأحزانها وآلامها وآمالها لا تتعدى واقعها الاجتماعي والاقتصادي البسيط، ولذلك جاء سرد الرواية بطريقة خطية واضحة تعكس التناظر بين بنية الشكل الروائي وبين بنية المجتمع القاسي الذي كانت تعيش فيه زينب، هذه المرأة المعذبة التعيسة التي عاشت لحظات مقلقة ومتوترة في حياتها المحدودة البسيطة لم تكن واعية بضرورة وحتمية السيرورة والتغير، لقد كانت تعيش وهما مستمرا اسمه جمال الأحمدي، عاشت عليه طوال حياتها القصيرة رغم علمها اليقيني بأنه سراب انتهى، وساهمت هي نفسها في إنهائه، لقد كانت هذه الشخصية مثيرة للاهتمام، كانت من النوع الذي يعشق جلاده ويهيم به من بعيد، إن عملية التكيف عملية عميقة تدل على الازدهار، زينب عجزت كليا عن التكيف فلم تستطع الازدهار، بالعكس، لقد انكمشت وذوت وتراجعت، لأنها كانت مشدودة إلى الخلف، إلى الماضي، لقد كانت تعود لتستوطن الماضي باستمرار، فعاشت في قلق مدمر، نفس الشيء بالنسبة للثقافة العربية، لحظتها تماما مثل لحظة زينب، إن هذه الثقافة لدينا دائما مشدودة إلى الماضي، ولذلك هي دائمة التصدع، وفاقدة لعناصر التطور واستشراف المستقبل.
لقد استطاع المبدع الوزاني أن يفي بوعده في تمديد حياة جمال الأحمدي فكان له ذلك عبر جسد زينب المشبع بالجراح والآلام، ومنذ بداية بعث زينب وإعادة الحياة إلى كيانها الورقي والمبدع يكرس عذابها وآلامها لنجاح جمال الأحمدي، إذ بقدر ما تتلقى زينب الضربات والجروح سواء من زوجها يوسف ابن مضيفتها السيدة أم كلثوم أو من ضرتها نجية الفاسقة بقدر ما يتوفق جمال الأحمدي ويسطع نجمه في عالم الصحافة والكتابة والإبداع، لم تكن زينب في الحقيقة ما يؤرق المبدع، ما كان يؤرقه هو إعادة التوازن والاستقرار لحياة جمال الأحمدي، وهما العنصران اللذان فقدهما عندما كان مختفيا في شاطىء تارغة داخل بيت الرايس امحمد من أعين البوليس التي كانت تترصده ضمن مجريات رواية ” احتراق في زمن الصقيع “، لقد أشفق المبدع على شخصيته اللامعة، واعتبر الوعاء الورقي للرواية غير كاف لتمثيل واستيعاب مواهبه وطاقاته فآثر تخصيص رواية جديدة كاملة لكي يخبرنا على حساب آلام وأحزان زينب بالموقع الجيد والأثير الذي اختاره لجمال الأحمدي، لقد كان المبدع الوزاني ذكيا وبارعا في ابتداع طريقة إعادة زينب إلى الحياة بعدما اعتقد الجميع بأنها انتحرت وماتت غرقا في بحر تارغة، لقد تكفلت أم زينب السيدة خدوج بوضع ابنتها بعدما أخرجتها من بين أمواج البحر المتلاطمة داخل كهف لكي تنقذها، وقد جعل المبدع الصدفة تنسي أهل القرية أمر هذا الكهف، فعادت زينب إلى الحياة، ولكنها أصبحت زينب أخرى، زينب النسخة غير تلك الحقيقية، إنها الآن ظل زينب النسخة الأصل كما هو الأمر في كهف أفلاطون، ولكي يستمر الفيض الأفلاطوني في الإشراق فإن زينب بنت الكهف سوف تستنسخ نسخة أخرى من الأصل جمال الأحمدي، النسخة الجديدة هي كذلك اسمها جمال وهو ظل لجمال الكبير وسوف يستغرق زمنه الروائي وهو يهفو عبثا للالتحام بالأصل، امتدادات الكهف دائما حاضرة، حيث الألم والإحباط والظلال القاتمة في كل شيء، وامتداد زينب في الزمان والمكان بمفهومهما البسيط في الرواية لم يكن ممكنا إلا بواسطة ظل جمال الأحمدي الصغير، النسخة دائما تظل تحوم حول الأصل وترنو للالتصاق به، لقد ظلت زينب دائما داخل الكهف، وكما تساءلنا سابقا فإن زينب فعلا كانت تستعين بالوهم وتكرسه، لقد عاشت حياتها التعيسة دائما داخل الكهف، إن: ” زينب امرأة تقبع في الظل، ترزح في الظلام، امرأة عارية بدون سند. ” ( ص.79 ).
إن هذه الصيغة الذكية التي خلص بها المبدع نفسه أسعفته في إعادة زينب إلى الحياة، واستطاع بواسطتها أن يشيد بناء روائيا بديعا وفق خمس خطوات:
1- الخطوة الأولى، نسميها اللعب، في هذه الخطوة وقع الالتحام بالمفهوم المسرحي بين الكوميديا والتراجيديا فكانت النتيجة علاقة حميمية بين زينب بنت الرايس امحمد وجمال الأحمدي، علاقة نتج عنها حمل بغيض.
2- الخطوة الثانية، نسميها الحلم، وهو حلم زينب، علاقتها الحميمية بجمال الأحمدي أودت بها فأوهمتها امتلاكه.
3- الخطوة الثالثة، نسميها التفكير، لقد عذبت زينب نفسها بقسوة مروعة وهي تحاول الاهتداء بكل الطرق لكي تبقي ابنها بمعزل عن معرفة الحقيقة.
4- الخطوة الرابعة، نسميها الزمن، لقد كان الزمن في الرواية ذا طابع وجودي، لقد سحق زينب وكل من حام حولها من قريب أو بعيد، وكان الزمن في الرواية دائما منفلتا.
5- الخطوة الخامسة، نسميها المرآة، لقد تحول العالم في الرواية إلى مرآة عاكسة لذات زينب.
بهذه الخطوات الخمس استطاع المبدع الوزاني أن يشيد استيطيقاه، فأنتج وضعية مغايرة تمام المغايرة للوضعية السابقة أي رواية ” احتراق في زمن الصقيع “، لأن تعويض وضعية بأخرى يقتضي بالضرورة مجموعة من التحولات، بمعنى أن نص ” امرأة في الظل ” رواية جديدة مستقلة، وليست استمرارا أو تتمة للرواية السابقة، إن الأمر عبارة عن تحول من موقع لآخر، والتحول من وضع لآخر هو الذي يتيح إمكانية الحديث عن التغيير، شريطة أن يكون التحول موضوع الحديث قابلا للتحليل، ونكون نحن ممتلكين لأدوات تحليله، لقد حققت رواية ” امرأة الظل ” مفهوم الانفصال عوض الاتصال، إن الاتصال هنا لن يعبر إلا عن قصور في تحقيق الأدبية، إنه سوف يكون المبرر الشقي لنهاية سعيدة لعلاقة بنيت على الوهم والصدفة، لا تنتج السعادة دائما الأدب بقدر ما تحوله غالبا إلى واجهة للاستهلاك الرخيص، ففي كل لحظة يوجد انبثاق لجديد، جديد يكون مصدره هو الفعالية الإنسانية، ولا يوجد موجود متطابق تماما مع واقع موجود آخر رغم توفر الانسجام الذي يحيط بكل شيء في كل مكان، والنتيجة هي أن ” امرأة في الظل ” رواية جديدة مستقلة رغم وجود انسجام بينها وبين رواية ” احتراق في زمن الصقيع “.
……………………