عبد الرحمن أقريش
الرباط، حي النرجس، 1992.
شقة عصرية، فسيحة، مرتبة، أنيقة وبدون بهرجة، أرائك مريحة، تلفزيون ملون، سجائر سوداء وشقراء، خمور وعرق من كل الأصناف، ورود، شوكولاتة وفواكه…
مائدة في منتهى الكرم.
التلفزيون يخاطب نفسه بصوت خفيض يكاد لا يسمع.
تبدو شلة الأصدقاء منسجمة ومستمتعة بجو الاحتفال والسهر، ينخرطون في ثرثرة فكرية لا تنتهي حول الكتب والسياسة والنساء والحب والمتعة والحياة والموت وهموم العمل…
يدخنون، يشربون، يضيعون وقتهم بذكاء.
ينظر إليهم (المامون) صامتا، يتأملهم، يسأل نفسه.
ـ لم يحتفلون؟
يبتسم.
يبدو وكأنه وجد الجواب.
ـ إنهم يبحثون عن السعادة.
يرشف رشفات خفيفة من كأسه، يضعها، ينظر إليها فيبدو مستغرقا.
ـ أهي نصف مملوءة أم نصف فارغة؟
يفكر أنه من الأفضل أن تكون فارغة، لأن ذلك يعني أنها قابلة للامتلاء في كل مرة.
يشرب (المامون) في كل مرة تتاح له الفرصة، لم يكن سكيرا ولا مدمنا للسجائر، على الأقل هو يعتقد ذلك، ولكن جلسات السمر تشعره ببعض السعادة، يقبل عليها بكثير من الفرح، صحيح أنها لحظات فرح مسروقة وعابرة، ولكنها في نظره خير من الغبن والنكد والأفكار السوداء التي تسمم حياة الناس وتحولها إلى جحيم لا يطاق.
طبعا ليست كل الجلسات تصلح للسمر، وليس الجميع يصلح جليسا ولا نديما.
(لا تنادم أبدا شخصا لا تحبه، وبالخصوص لا تنادم أبدا شخصا لا يحبك) تلك كانت حكمته.
يعتقد (المامون) أن السجائر والخمرة والسهر والرفقة الطيبة هي توابل لمتعة عابرة، نوع من العبث والانفلات البريء الذي لا يؤذي ولا يجدي، وأنها الجواب الوحيد الممكن لمقاومة اليأس وقسوة الحياة، ويفترض أنها وحدها تبلسم جراح الروح وتحولها إلى نذوب بدون ألم، أو بألم أقل…
الخمرة إكسير سحري، يشربها الناس منذ الأزل، يحتفلون، ينتشون، يرفعون أنخابها عاليا.
يشربونها عندما يقعون في الحب.
عندما يفرحون.
عندما ينجحون.
عندما ينتصرون.
وحتى عندما ينهزمون، أو يطردون من جنة الحب، يشربونها بحثا عن العزاء ورثاء الذات، فهي – لحسن الحظ – تصلح أيضا علاجا في حالات الانكسار والخيبات.
عندما أشعل (المامون) سيجارته الثانية أو الثالثة، انتبه لمنفضة السجائر، صحن صغير، مستطيل الشكل من البورسلين الصيني الصقيل، تزينه صورة ملونة لفتاة فاتنة بصدر ناهد، نصف عار.
لسبب ما تخيل أن الفتاة إيطالية.
لا يعرف لماذا؟ ولكنه افترض أنها إيطالية.
رأسها مائل قليلا إلى الوراء في حركة غنج ودلال واضحة، ترتسم على وجهها خطوط ضحكة واسعة، سعيدة ومنفلتة، تدفع شفتيها الممتلئتين إلى الأمام، ترسم شكل قبلة دائرية حمراء شهية، يتطاير شعرها الأشقر، شعر متموج مقصوص بتسريحة على الموضة، تعبث الريح بتنورتها الملونة وتمسكها تفاديا على طريقة (مارلين مونرو)
تماما كما في السينما…
دفع (المامون) المنفضة قليلا بحركة خفية، وضعها أمامه مباشرة، وراح ينظر للفتاة، يتأمل سحرها المنبعث من الصورة، امتص نفسا عميقا من سيجارته، حبسه للحظات، ثم أرسله، حرره على دفعات، وجه الدخان جهة الفتاة، تطاير الرماد بعيدا واختفت صورة الفتاة تحت ضباب رمادي كثيف.
اختفت للحظات، ثم عندما تلاشت سحابة الدخان تدريجيا، عادت الفتاة وكأنها تنبعث من مكان بعيد.
بدت له الفتاة ممتنة، بدت له وكأنها تشكره، عندها قرر أن يستعمل منفضة أخرى.