البهاء حسين
أسوأ ما فى الماضى أنه غير قابل لأن ننقيه مما يؤلمنا. وأسوأ ما فى الذاكرة أنها تجترّ المواجع، بحيث لا يحتمل الإنسان ماضيه إلا بعد أن يعيد روايته، لا كما جرى، بل كما يود أن يكون. إنه يريد أن يرتفع بنفسه، أو يعيد اختراعها من جديد، ولا يعثر على الوجه الذى يتمناه لها إلا بتحوير الملامح ومداراة الندوب. هكذا أصبحت كل سيرة لعنة، وأصبح التاريخ مجموعة لعنات.
غير أن هناك قلة، ممن كتبوا مذكراتهم، ساندت الحقيقة، واستندت إليها، لا إلى الذات، وسوف يجد هؤلاء، فى صداقة كل روح، أفضل ما يمكن أن يجده طلاب الحقيقة من مواساة.
ثم إن كاتب المذكرات، حتى وإن لم ينتحل دور البطولة، حتى وإن أوصى أن تنشر سيرته بعد موته، لا يمكنه التجرد، لأنه يكتب وعينه على المستقبل، يريد من التاريخ أن يردد اسمه، وأن يدون صداه !
إذن لم يبق إلا أن يتحسس القارئ موضع قدمه فى “الحجرات المظلمة”، كلما أراد أن يلمَ بذكريات، أو مذكرات، وبما لديه من خبرة بخطوط السير يمكن أن يفرّق بين الشهادات التى تأخذ خطواتنا باتجاه “مفاتيح النور” وبين الآبار الزلقة.. أو الذوات، التى يقودنا إليها المجترئون على العظمة..النرجسيون.
وليتذكر القارئ، مع ذلك، أنه كما يتحاشى النظر إلى بئره، لأن الأعماق السحيقة مخيفة، كالحقيقة، عليه ألا يطيل التحديق فى آبار الأخرين !
* * *
ذكرياتنا التى تأخذ أسماء:
حياة كل إنسان هى كتاب تحت الطبع. مذكرات محتملة تنتظر الكتابة أو ساعة الصفر. قد نسميها ” ذكريات أو مذكرات أو يوميات أو اعترافات..إلخ”، لا يهم الاسم.المهم أنت وكشف حسابك..ماذا فعلت، ولماذا فعلت، وكيف فعلت؟ وسوف تبقى، أنت وذكرياتك، أو تُنسى، بقدر ما تحتاج الحقيقة إليك.
والآن.. ماذا تعنى المذكرات ؟ هى، ببساطة، ودون الدخول فى أضابير المصطلحات التاريخية، تعنى: اليوميات، والذكريات المدونة أو المروية، والسيرة الذاتية. أى ” كل ما سجله المرء من تجربته الشخصية ومشاهداته، وما سمعه بأذنيه، وما قام به من أعمال، سواء سُجل فى وقته ويومه، أو سُجل بعد أن يصبح ذكرى ” (1)
أما اليوميات diary فمصدر رئيسى من مصادر التاريخ، وهى تقدم نفسها دون أى تدخل من صاحبها. وهى وحدها التى يمكن أن يتحقق فيها جمال وسذاجة الحياة اليومية بتعبير ” أندريه موروا”. (2)، وربما كان بطرس غالى، فى يومياته ” بانتظار بدر البدور”،(3) مثالاً لتلك الطزاجة فى حياة كل يوم، حيث يتاح لك أن تأمل من جديد.
إن ذاكرتنا لا تكفّ عن ” أن تدع أشياء تسقط، وتبنى أشياء آخرى، وتصفى وتعدل من شكل الحقيقة، دون أن تفسح أى مجال للحياة اليومية، ووقائعها البسيطة، وفتراتها التى تمر دون أحداث، والتى تشكل، مع ذلك، جوهر الوجود الإنسانى” (4)
” اليوميات” تجعلنا نصدق أنه من الممكن أن نكون، بدورنا، عظماء، فنحن نبحث ” خلال قرائتنا لسيرة رجل ما عن الانطباع بأن هذه الحياة كانت أكثر أهمية وأكثر امتيازاً من حياتنا، وإذا كان هذا صحيحاً من ناحية لأنها حياة رجل عظيم، فإنه ليس صحيحاً من ناحية أخرى، لأن هذه الأحداث العظيمة ربما لم تشغل إلا بعض ساعات من حياة البطل، وبقية هذه الحياة يكاد يكون تقريباً مشابهاً لحياتنا”(5).
وكلما سُجلت ” اليوميات” أولاً بأول كانت أقرب للدقة والواقع وأبعد عن التبرير والتماس الأعذار، والأهم أنها تكون بمنأى عن الخلط والنسيان، نظراً لبعد الحدث، وما يشبه الخلط من حيل وألاعيب الذاكرة. كما أن كتابة المذكرات، بعد وقت طويل من وقوع الأحداث، يجعلها تحمل وجهة نظر صاحبها أكثر مما تركز على الوقائع المجردة. ويغلب عليها الطابع التبريرى الدفاعى أكثر مما يغلب عليها الطابع التسجيلى التقريرى (6).
حتى إنه قيل إن كل مذكرات لم تدون الحدث وقت وقوعه، ليست رواية للتاريخ بقدر ما هى استعادة له.
بالنسبة للذكريات recollection، فتعنى شظاياك المتفرقة التى تحاول أن تستردها من الزمن، وتعطى لها قواماً، دون أن يكون لها، غالباً، دخل بالسياسة. أى أن الذكريات هى أنت فى شتاتك، على حين أن ” السيرة الذاتية” هى أنت وقد التئمت فى ” ألبوم صور” أو ” تجربة حياة ” وتريد أن تعرض لها كاملة أو لشريحة منها، ( فترة زمنية محددة كنت فيها فى موقع الشهادة أو المسئولية مثلاً ). وتمتاز السيرة عن الذكريات بأنها ” أكثر ثراء فى المعلومات؛ إذ تعتمد عادة على يوميات، بالإضافة إلى وثائق أخرى فى يد الكاتب، مثل رسائل رسمية أو شخصية أو محادثات، ولكنها أقل درجة فى الأهمية، لأن صاحبها يصوغها بعد انتهاء الأحداث، ويقودها لأغراض دفاعية”. (7)، مثلما فعل هتلر وريتشارد نيكسون وإبراهيم الهلباوى وغيرهم.
هكذا تكون المذكرات وسيلة كشف ” عن مستور أو خبىء يتصل بذات صاحبها بالدرجة الأولى وتلقى الضوء على العلاقات المتشابكة التى تربط صاحبها بالشخصيات والتنظيمات والمؤسسات الحكومية والدستورية التى اتصل بها. كما تصور الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية فى الجيل الذى نشأ فيه الكاتب ” ( 8). وبديهى أن قيمة أية مذكرات يكتبها أى شخص عايش وشاهد وشارك فى الأحداث التى يرويها تقاس بمدى قدرته على الدقة والأمانة والتجرد. على اعتبار أن الموضوعية وعدم التحيز هما أعلى القيم الجمالية، بتعبيرموروا، أو بتعبير الدكتور جونسون، إن قيمة كل حكاية تتعلق بحقيقتها، ” فالحكاية هى رسم إما للشخصية الفردية أو للطبيعة الإنسانية بعامة، وإذا كانت زائفة فهى ليست رسماً لأى شىء”.(9)
ضمير الغائب يصفى الحسابات :
لماذا نكتب مذكراتنا ؟ ولمن نكتبها ؟ وما الذى يخرج من داخلنا فى نهاية الأمر؟ إن الكتابة هى “وسيلة للتعبير وللتطهير بالنسبة لكل من الكاتب والقارئ”(10). والمذكرات، ككل إفضاء بمكنون الذات، يتخفف فيه الكاتب” من ثقل التجارب التى خاض غمارها بنقلها من داخل نفسه، إلى خارجها، وهو بهذا يعرض خبراته على الآخرين، بغية مشاركتهم له فيها “.(11)
بمعنى أن ما تجمع حول أرواحنا من ضغوط طوال مسيرة الحياة، ماضينا كله، يبحث عن مخرج أو متنفس فى الكتابة. ثم إن لكاتب المذكرات مآرب آخرى منها : أنه يحاول تحسين صورته وتبرير أخطائه وخطاياه. إبراهيم الهلباوى مثلاً جعل مذكراته مرافعة حارة، عن نفسه هذه المرة، لقبوله الدفاع عن الجنود الإنجليز ضد الفلاحين المصريين فى حادثة دنشواى ( 1906). كان الهلباوى، قبل هذه الحادثة، محامى الشعب ولسان حاله فى ساحات القضاء، لكن هذه الصورة الذهنية تبدلت بعد الحادثة، وهو أراد أن يسترد نفسه فكتب مذكراته وراح يبرر موقفه بالقول: ” ترافعت بما أملاه علىّ الواجب، دون أن أتجاوز بكلمة واحدة، بل ربما أستطيع أن أعترف بأن شعورى بوطنيتى وصل بى إلى حد لا يتفق مع واجبى”. (12)
وما ذكره أحمد حسين فى مذكراته ” إيمانى”، يجعلنا نفتش عن الدافع وراء كتابة المذكرات. وراء إغفال وقائع بعينها لم تعد تناسب الوضع الجديد لأصحابها، كأن الهدف الحقيقى من كتابة المذكرات هو إخفاء الحقيقة !
أورد حسين فقرات من خطاب ألقاه فى حضور محمد محمود، وكان هو المقصود به، حيث تكلم حسين عن حاجة مصر إلى زعيم وكيف أن محمود هو هذا الزعيم الذى سيكون لمصر كموسولينى فى إيطاليا، راجياً إياه أن يقبل زعامة مصر. لكن حسين أورد الخطاب وأغفل المخاطب، لأن وزارة الباشا كانت قد سقطت وسقط معها مشروع محمد محمود _ هندرسون الذى كان حسين من المتحمسين له. كما أن الباشا شخصياً نفى عن نفسه تهمة أن يشبه موسولينى مدعياً أنه من المؤمنين بالنظام البرلمانى.(13)
أما لماذا أغفل حسين ذكر محمد محمود، فلأن حسين نفسه كان قد أصبح ” زعيم حركة “، كما يذهب عبدالعظيم رمضان، مضيفاً أن حسين، بإخفاء المناداة بزعامة محمد محمود، مع إبراز حاجة مصر إلى زعيم، يؤكد إيمان حسين بزعامته هو لا بزعامة شخص آخر. ويستند رمضان إلى فقرة تالية لهذا الكلام فى ” إيمانى”، يقول فيها حسين :” هى فكرة واحدة تلك التى تملأ حياتى وتملك علىّ مشاعرى، وأعنى بها بعث مجد مصر وتحقيق عظمة مصرنا بأسرها وليست حياتى إلا سلسلة متصلة الحلقات من العمل فى هذا السبيل”.(14)
هذا ما يجنيه الهوى على المذكرات السياسية. يجعلها غير بريئة، بندقية مذخرة، ويجعل كاتبها، إذا خلا بصفحات، ” طلب النزال وحده والقتالا” !
وحين يتخفى وراء ضمير الغائب دافع الانتقام يكون المقصود أن يحضر الخصم، المعرّض به، لكن مشوهاً، أخرس، لا يقدر على الدفاع عن نفسه. ببساطة، لأن اسمه لم يذكر صراحة، وإذا ردَ على تلميحات وضع نفسه فى موضع المستريب الذى يتحسس رأسه، أو يكاد يقول خذونى. وإذا أعرض عن الرد، فقد يفهم إعراضه على أنه اعتراف ضمنى منه بالجريرة. حتى حين يكون الخصم ميتاً، أى سكت للأبد عن الكلام، فإن موته لن يعفيه من أن يحضر مجرداً من الملابس فى مذكرات الآخرين.
سأترك نقيب الصحفيين الأسبق حافظ محمود، رحمه الله، يروى، من موقع الشاهد قصة عما أريد : ” القصة من أولها أن الزميل الأستاذ كمال الملاخ كان قد نشر فى أوائل نوفمبر سنة 1967حديثاً لأستاذنا المرحوم طه حسين وردت به واقعة ما كنت أظن أن أستاذ جيلنا طه حسين لا يزال يختزنها بكل ما فيها من خطأ. وهى واقعة الهجوم على مكتبه حينما كان عميداً لكلية الآداب بجامعة القاهرة، وكانت نقطة الخطأ فى رواية أستاذنا أنه تصور، من قديم، أن هذه الهجمة من الطلبة المعارضين كانت نتيجة تحريض من شخص معين، ولم يذكر الدكتور طه حسين هذا الشخص بالذات، لكننى كنت أعرف الشخص الذى يعنيه، لأننى كنت معه يوم هذه الواقعة..وهو أستاذنا المرحوم الدكتور محمد حسين هيكل. أحسست يومئذ-…فى أوليات شهر نوفمبر سنة 1967- أننى لو تركت هذه الواقعة بغير تصحيح فسوف أكون مقصراً فى حق أستاذين. الأستاذ الدكتور طه حسين الذى علقت الأحداث بذهنه بكل ما فيها من شائعات الماضى، والأستاذ الدكتور هيكل الذى كان قد انتقل إلى رحمة الله قبل هذا الحديث بعشر سنوات أو تزيد وهو لا يستطيع فى غيبته عن دنيانا أن يدافع عن نفسه”. (15)
من أجل ذلك كان على قارىء المذكرات ليس فقط أن يتحسس خطواته، بل أن يمسك ” مصباح ديوجين”، وهو يدخل حجرات الآخرين المظلمة.
أقنعة الشخص وحقيقته:
مسألة الموضوعية المطلقة إذن محل شك فـ ” الإنسان هو الذى يكتب عن الموضوعية ولكن من وجهة نظره الذاتية، أى أن الموضوعية تولد، فى واقع الأمر ذاتية!! “.( 16)
يكتب الإنسان عن نفسه وعن الآخرين، ليهدر ما ينبغى له أن يحافظ عليه. السؤال لم يتعذر علينا أن نكتب بدقة أو أن نكون صادقين ؟ أندريه موروا، صاحب ” فن التراجم”، يعلل لذلك بـ 6 أسباب :
- الأول: هو النسيان، فكثير منا، عندما يشرع فى تذكر ماضيه، فضلاً عن كتابته، يكتشف أن كثيراً من الوقائع والأحداث التى كانت هناك لم يعد لها وجود. حتى إننا ننسى مراحل بكاملها مثل الطفولة. يبدو أن ” جورج مور” قد عبر عن هذا المعنى بدقة عندما قال ” إن المرء ليطالع ماضى حياته، مثلما يطالع كتاباً قد مزقت بعض صفحاته وأتلف منها الكثير”. ( 17)
- السبب الثانى: وقد لا يهم الكثيرين، هو النسيان المتعمد، أى أن صاحب السيرة أو المذكرات، إذا كان فناناً، سوف يلجأ، فى محاولته لأن يجعل من سيرته إبداعاً فنياً، لإهمال جوانب وإثبات أخرى. بينما الذاكرة هى، فى حقيقة الأمر، ” الفنان العظيم ” فهى ” تختار، ولكن اختيارها يكون جيداً أكثر مما ينبغى، فهى تصنع لكل رجل، ولكل امرأة، من حياته تحفة فنية تساندها وثائق زائفة”. (18)
- السبب الثالث هو هذا الرقيب..هذه الروح وما ” تمارسه على الأشياء التى لا تستريح لها”. ولنرجع، يقول موروا، إلى حكاية طفولة ما فعندما يكون الموقف مخزياً أو غير مرض، فمن المستحيل أن يروى بأمانة.
- سبب آخر، يمنعنا من الدقة ومن الصدق هو شكل آخر من أشكال الرقابة نسميه الحياء الذى يحول بيننا وبين أن نقول الحقيقة عن حياتنا الجنسية.
- ثم هناك حيل للذاكرة تلجأ إليها بعد وقوع الأحداث. هى عقلنة الأشياء، إنها تتولى، بعد أن يقع الحدث، خلق ما يناسبه من عزاء ويصلح أن يكون سبباً له، ” مع أنها فى الحقيقة مخترعة من خلالنا، بعد وقوع الأحداث التى هى فى ذاتها حصاد المصادفة”. ( 19)
- وهناك سبب أخير لعدم صراحتنا، يقول موروا، هو الحاجة المشروعة جداً لأن نحمى أولئك الذين رافقونا فى المشوار أو ارتبطوا ارتباطاً مباشراً بالأحداث من خلال صلتهم بنا. ونحن إذا قررنا، فيما يخصنا، أن نقول كل شىء عنا، فإننا لا نملك أن نقول كل شىء عنهم.
والحاصل أن ” هناك استحالة فى إعادة العثور على الماضى، وهناك استحالة فى عدم تحريفة بطريقة إرادية. هذه – إذن – بعض العقبات التى تجعلنا نخشى أن تكون السيرة الذاتية الحقيقية لا يمكن أن تكتب على الإطلاق”.(20 )
………………………
إحالات
- مذكرات إبراهيم الهلباوى، تحقيق: د/ عصام ضياء الدين، تقديم د/ عبدالعظيم رمضان، ط الهيئة العامة للكتاب، 2006 ص 5. وراجع لـ : “رمضان” “مذكرات السياسيين والزعماء فى مصر”. ط الهيئة العامة للكتاب. 1998
- فن التراجم والسير الذاتية. أندريه موروا، ترجمة : أحمد درويش، ط المجلس العلى للثقافة، 1999، ص 101
- بطرس غالى، بانتظار بدرالبدور، ترجمة زهيدة جبور وجان جبور، ط م: دار النهار- دار الشروق، 2005
- هربرت سبنسر، عن ” فن التراجم”، م س، ص 102
- السابق. ن ص
- راجع: مذكرات الهلباوى، م س، ص 5
- مذكرات السياسيين والزعماء، ص 27
- نفسه
- فن التراجم، ص 28
- السابق، ص 19
- الترجمة الذاتية فى الأدب العربى الحديث، د/ يحيى إبراهيم، دار النهضة العربية، بيروت، د. ت
- مذكرات الهلباوى، ص 6
- راجع: مذكرات السياسيين والزعماء، ص 33
- السابق ص34
- حكايات صحفية، كتاب اليوم، ع 233، سبتمبر 1984
- مع عبدالناصر والسادات..سنوات الانتصار وأيام المحن. مذكرات مراد غالب، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط أولى 2001
- عن “الترجمة الذاتية فى الأدب العربى”، م س، ص 8
- 19. 20 فن التراجم، ص 102 وما بعدها.