عبد الرحمن أقريش
اقتنى اللوحة من الجوطية بثمن زهيد، لوحة جميلة، أعجبته كثيرا، انجذب إليها منذ الوهلة الأولى، ولكنه لم يتأكد أبدا ما إذا كانت أصلية أم مجرد نسخة.
دفعها لحرفي هيأ لها إطارا معدنيا أنيقا، أضفى عليها مسحة إضافية من الرونق والجمال، وبعد يوم أو يومين، أخذت اللوحة مكانها في الصالون.
تجسد اللوحة رسما لامرأة إفريقية جميلة، ترفع فوق رأسها قفة طافحة بالفاكهة (موز، عنب، أناناس ومانجا…) أعجبت الزوجة باللوحة، كانت تلقي عليها بين الحين والآخر نظرة خاطفة وهي تنشغل بترتيب وتخميل الصالون.
بقيت اللوحة معلقة هناك لسنوات…
ثم، ذات أصيل يوم خريفي، هيأت الزوجة جلسة شاي لضيوفها، كان الجميع منخرطا في ثرثرة وأحاديث لا تنتهي، أحاديث حول الصحة والأولاد وتكاليف الحياة وحنين الماضي الجميل، عندما انتبهت فجأة إلى أن أشعة الشمس مسلطة مباشرة على اللوحة…
للحظة قصيرة وعابرة انتبهت، في البداية بدا الأمر كما لو كان طيفا أو خاطرة، أشاحت بنظرها بشكل لاشعوري عن اللوحة، رشفت رشفة خفيفة من كأسها، ثم ألقت نظرة خاطفة ومسروقة على اللوحة، شعرت ببعض الحرج، تمنت ألا ينتبه الضيوف لتفاصيل اللوحة، كان النصف العلوي للمرأة الإفريقية عاريا تماما، ويكشف عن نهدين نافرين، متوثبين وكأنهما يتهيآن للهروب.
أخيرا، انتهت جلسة الشاي، غادر الضيوف، أضاءت الأنوار، ووقفت أمام اللوحة تنظر إليها، تتأملها، بدا وكأنها تراها لأول مرة، كانت المرأة جميلة، جميلة جدا، فاتنة، هذا الجمال الإفريقي المختلف، فارعة الطول، جسد قوي، مشدود، وجه فرعوني منحوت وكأنما قد من حجر، خطوط، تقاسيم، وملامح زنجية مثيرة، بشرة بلون العسل، شفتان ممتلئتان، شهوانيتان، وابتسامة تكشف عن جواهر عاجية في قمة البياض…
تملكتها مشاعر غامضة، شعرت فجأة بالغيرة، وتساءلت.
كيف سمحت لهذه السيدة الفاتنة أن تقتحم عليها بيتها وحياتها؟
ثم، تحولت هذه المشاعر إلى نوع من الغضب والشعور بالخديعة…
كيف لم تنتبه إلى زخم الجمال، والفتنة، وحجم الغواية والإغراء الذي ينضح من اللوحة ويكاد يغادرها؟
كيف لم تنتبه إلى أن زوجها هو من اقتنى اللوحة، وهو من اختار الإطار الرفيع الذي يزينها، وهو من اختار – وهذا هو المهم والخطير – المكان وزاوية الرؤية؟
كيف لم تنتبه إلى أن اللوحة موضوعة هناك عنوة، بشكل يسمح له برؤيتها وهو مستلق بشكل مريح على أريكته المفضلة؟
فكرت بصمت.
– في الأمر خديعة بالتأكيد…كم كنت غبية!!
بدت غاضبة، أحست بالألم يعتصر قلبها، فتحت النافدة الكبيرة، تسرب تيار من الهواء البارد، تنفست بعمق، استرجعت هدوئها تدريجيا، ثم، بحركات هادئة ومصممة، أنزلت اللوحة، ووضعتها على المائدة، تأملتها عن قرب، بدت المرأة الإفريقية في قمة الجمال والعنفوان…
رجع الماضي فجأة، قويا مثل نهر جارف، عادت بذاكرتها إلى الوراء، استعادت بقايا صور من طفولتها الأولى…
كانت غرفة الجد مزينة بلوحة ورقية لآدم وحواء، عاريين تماما إلا من ورقتي توت تخفيان بالكاد فتنتهما، لوحة ورقية بألوان فاقعة تنبعث منها تفاصيل غموض ساحر، بجوار الشجرة المحرمة، يقف آدم بجسمه الرياضي المشدود، إلى يساره، تبدو حواء جميلة بملامحها العربية وجسمها الممتلئ، ينسدل شعرها الأسود الغزير فيغطي جزءا من صدرها، نهدها الأيمن منفلت ونافر، تمسك بيدها اليسرى ضفيرتها المنسدلة بشكل فوضوي، وتمسك بيدها اليمنى فاكهة العصيان والخطيئة الشهية…
تبدو حواء جميلة، جذابة وفاتنة، أما آدم فلم يكن أقل منها وسامة وإغراء…
انفصلت عن الواقع، انخرطت في لحظة بياض قوية، بدا الأمر شبيها بحلم، فقدت الإحساس بالزمان والمكان…ثم عندما عادت إلى نفسها، كانت المرأة الزنجية هناك، تبتسم، وتنظر اليها بكبرياء وترفع…
تأجج غضبها ثانية، أسرعت جريا إلى الطابق العلوي، حيث المكتب وخزانة الكتب…أخرجت من درج المكتب مجموعة أقلام اللبد، وقارورة من الحبر الصيني الأزرق.
عادت للوحة، ترددت قليلا، تركت الأقلام جانبا، فتحت قارورة الحبر، غمست سبابتها اليمنى في الحبر الأزرق الغامق، وراحت تمررها على النصف العلوي للمرأة الزنجية…
غيب الحبر الأزرق النهدين أولا، ثم مررت سبابتها صعودا حتى اختفت تفاصيل العنق الإفريقي النافر…
عندما انتهت، وقفت تتأمل صنيعها، تنفست الصعداء، ابتسمت، ثم انمحت ابتسامتها تدريجيا…
حملت اللوحة، وعلقتها في مكان لا تصله أشعة الشمس…
تراجعت خطوة إلى الوراء، ألقت عليها نظرة أخيرة.
بدت المرأة الإفريقية أقل عريا، بدت مثل فلاحة محافظة، لكنها كانت ماتزال تبتسم بجرأة، وكان بذخ الفاكهة يكشف عن تفاصيل لم ينجح الحبر الصيني في إخفائها.