اللعب مع الإيديولوجيا

MUSTAFA ZEKRI
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد كرم

في عام 2009 عُرض فيلم قصير بعنوان “إنساني.. إنساني جداً” تأليف “مصطفى ذكري” وإخراج “أسامة فوزي”، وفي عام 2023 نُشر سيناريو الفيلم في كتاب لـ “مصطفى ذكري” بعنوان “أن تذهب بعيداً (يوميات من المكان نفسه)”، إصدار: مجموعة بيت الحكمة للثقافة. لكن السيناريو المنشور في نهاية الكتاب تحت عنوان “حكايات خيالية” لا يشبه كثيراً السيناريوهات المكتوبة خصيصاً للسينما؛ فهو مكتوب بلغة أدبية رصينة في هيئة رواية قصيرة زاخرة بالأوصاف الداخلية لشخصياتها، أوصاف هي توجيهات للممثلين تيسر كثيراً من مهمتهم دون تدخُّل في عمل المخرج؛ فالمؤلف هنا لا يصف في السيناريو شكلَ المشهد السينمائي وأوضاع الكاميرا؛ لكنه يركز بدقة على الانفعالات الداخلية للشخصيات وأثرها في نبرة أصواتهم وملامح وجوههم. ولذلك تصلح سيناريوهات “مصطفى ذكري” أن تُقرأ بذاتها دون أن تتحول إلى الشاشة؛ فوصف الانفعالات الداخلية للشخصيات ليس مجرد أداة لتوجيه الممثلين. نرى ذلك أيضاً في روايتين لـ “مصطفى ذكري”: “ما يعرفه أمين” 1997 و “إسود وردي” 2014. وهُما في الأصل نصان سينمائيان لم يتحولا إلى الشاشة.

في الغالب تكون الأفلام القصيرة الموَجَّهة للأطفال مُوَجِّهة لهم، أي تستهدف غرس القيم السائدة في نفوسهم بشكل وعظي، هذا إذا كانت تلك الأفلام من إنتاج جهات رسمية (مثل تليفزيون الحكومة)، أما إذا كانت الأفلام القصيرة والتسجيلية التي يكون أبطالها أطفالاً من إنتاج جهات مستقلة (مثل منظمات المجتمع المدني)– فهي في الغالب تستهدف رصد مشاكل اجتماعية مثل عمالة الأطفال والفقر بشكل لا يستهدف حل تلك المشكلات لكنه ينسجم والأهداف السياسية لتلك المنظمات. في الحالتين تكون الأفلام التي يقوم أطفال ببطولتها أدوات إيديولوجية وليست أعمالاً فنية. لكن فيلم “إنساني.. إنساني جداً” يخرج من هذا التصنيف، ولا يتضح ذلك من خلال مشاهدة الفيلم فحسب؛ بل من قراءة السيناريو–الرواية أيضاً.

رمى “مصطفى ذكري” و”أسامة فوزي” في بداية الفيلم أحبولة تجذب من اعتادوا مشاهدة الأفلام القصيرة الراصدة لمعاناة أطفال الطبقة الفقيرة في مصر؛ فالفيلم يبدو لأول وهلة أنه يتناول قضية عمالة الأطفال من خلال الطفل “محمود” الذي يعمل تبَّاعاً عند سائق ميكروباص (الأسطى سعيد). ينظر “محمود” في المشهد الأول إلى جريدة مكتوب بها خبر بعنوان “الدعم المادي لمليون و50 ألف أسرة”، وهي لقطة غير مكتوبة في الرواية، لكنها تُزيد الأحبولة إحكاماً، فبعد تلك اللقطة سيظن المشاهد أنه أمام فيلم يرصد تغوُّل الفقر في مصر الذي أفرز ظاهرة عمالة الأطفال؛ فيستعد لمشاهد تالية تبرز تلك الظاهرة. نشاهد “محمود” يجمع الأجرة من الزبائن في النهار، ويغسل الميكروباص في الليل، لكن بمرور الأحداث يكتشف المُشاهِد أن “عمالة الأطفال” ليست القضية الأساسية للفيلم، فهو يحوي حمولات فنية أكثر تعقيداً.

عنوان الفيلم هو العنوان نفسه لأحد كتب الفيلسوف الألماني “نيتشه” الذي استهدف في مشروعه الفلسفي قَلب القيم السائدة، واعتبر في مؤلفه “هكذا تكلم زرادشت” أن من يقوم بعملية قَلب القيم لا بد أن يتحلى بروح طفل: “براءةٌ هو الطفل ونسيان، بداية جديدة، لعب، عجلة تدور من تلقاء نفسها، كلمة نعم (للحياة) مقدسة”. ويتميز بطل الفيلم “محمود” بتلك الصفات النيتشوية؛ فهو يعلو على فقره، مما أبعد الفيلم عن إيديولوجيا منظمات المجتمع المدني التي ترى في عمل الأطفال مادة لإثارة الشفقة، هذا الشعور الذي كان يحتقره “نيتشه”. و”محمود” رغم طبيعة عمله القاسية لا يضيق بالعمل بل يمارسه بمهارة وخفة، يتسلى بمتابعة أحاديث الركاب، ويحمل في جيبه قصة يقرؤها في الطريق بعد جمع الأجرة، ولا يؤثر عمله في مستواه الدراسي؛ فهو يتميز بالذكاء والنبوغ دون أن يخضع لمنظومة التلقين التعليمية الرسمية؛ إذ يساجل المدرسين بندية تجعله يحظى باحترامهم، لا يخجل من عمله ولا يخفيه عن زملائه في المدرسة الذين لا يعملون؛ فعندما انتظره واحد منهم خارج المدرسة ليعاركه، بدافع الغيرة؛ بادره بحقيقة عمله، شاعراً بالفخر والقوة لكونه يعمل في الوقت الذي ينام فيه أقرانه في أحضان أمهاتهم، فعمله لا يساعده مادياً فقط بل هو سلاح معنوي يضيف إلى تفوقه الدراسي تفوقاً وجودياً أيضاً. 

في الوقت نفسه يبدو “محمود” هنا نموذجاً للتعامل الفردي مع المشكلات الاجتماعية، وهذا ما ترسّخه الإيديولوجيا الرسمية؛ فإذا شاهد مسؤول ما هذا الفيلم سيعتبر “محمود” مثالاً للطفل المكافح، وسينصح الأطفال العاملين أن يقتدوا به، ليهرب من مسؤوليته عن علاج ظاهرة عمالة الأطفال. لكن التناول الفني العميق للوضع الاجتماعي لـ “محمود” جعل الفيلم ينأى أيضاً عن الإيديولوجيا الرسمية؛ يتضح ذلك في المفارقة التي قالها “الأسطى سعيد” بأسف لـ “محمود” بأن نمو جسمه يهدد استمراره في العمل؛ فمكانه في الميكروباص  -الدكة التي بين مقعد السائق والكنبة الأمامية- سيضيق به، وتلك واحدة من أبرز المفارقات الاجتماعية في القصة والفيلم؛ فهذا العمل للصغار فقط الذين ليس من المفترض أن يعملوا في هذا السن، وإذا أراد “محمود” أن يستمر في العمل عليه أن يوقف نموه ولا يصل حتى لما قبل السن القانوني للعمل! وكذلك جسَّد الكاتب بؤس الوضع الاجتماعي لأسرة “محمود” في نوعية طعامهم؛ فلأن يومية “محمود”، العائل الوحيد للأسرة، لا تكفي لشراء اللحم والدجاج؛ عقد اتفاقاً مع عامل في مطعم ليستخلص له الدهن من الدجاج المشوي كي يأخذه لأمه لتسقي به الطعام.

والد “محمود” لا يعمل، يعيش على عمل ابنه وزوجته، ولا يوضح الكاتب ملابسات بطالته؛ لكننا نلمس أن ضعف الأب موجود لإبراز قوة الابن. يجد “محمود” محفظة في الميكروباص أثناء تنظيفه، يخبر “الأسطى سعيد” فيخيره بين أخذها وإرجاعها لصاحبها دون وصاية، يقرر “محمود” أن يرجعها لصاحبها في الصباح، لكن والده يراها في المنزل، ويتهمه بالسرقة بلهجة شماتة وكأنه وجد أخيراً شيئاً ضده، كأنه تمنى أن يكون ابنه سارقاً ليطبق عليه سلطته هروبًا من طفيليته. لكن “محمود” بنظرته الواثقة، وتوضيحه الهادئ للحقيقة، يربك الأب ويجعله أمام انحطاطه وجهاً لوجه.

يصل الابتعاد عن الإيديولوجيا للذروة في نهاية الفيلم/القصة المفاجئة، المرحة، الساخرة على طريقة “صمويل بيكيت”؛ فـ “محمود” يدعو زميلته وزميله في المدرسة ليراقبا معه رجلين يراقبان بيتاً مهجوراً يعتقدان أنَّ نافذته مُضاءة طوال اليوم؛ لكن “محمود” يعلم أن النافذة تضاء فور وصولهما فقط. يدور بينهما أمام البيت حوار عبثي تضحك منه زميلة محمود؛ فيرتبك الرجلان من الصوت، وينطلق الأطفال الثلاثة جرياً وقفزاً وتهتز أجسامهم من الضحك بمرح نيتشوي.

مقالات من نفس القسم